الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقي جابر على ثغور المدينة .. وغادر والده عبد الله بصحبة رفيقه عمرو بن الجموح وأبنائه وأخته فاطمة .. غادروا المدينة صاخبة .. مزدحمة بالعناق والدموع .. ها هو حذيفة بن اليمان ووالده "حسيل" اللذان أرغمهما المشركون على أن يقسما ألا يشاركا رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بدر .. ها هما اليوم على أُهبة الاستعداد والإعداد للفتك بالشرك .. لكن الأمر جاء على غير ما يحبّان .. إن حذيفة يودع والده الآن .. لكن الذي سيبقى هذه المرة هو الوالد والذي سيغادر هو حذيفة رضي الله عنهما .. فلقد أمر صلى الله عليه وسلم حسيلًا بالبقاء لحراسة المدينة، كما أمر شيخًا آخر بالبقاء مع حسيل .. واسم هذا الشيخ:"ثابت بن وقش"، فبقيا كارهن أن تفوتهما الشهادة.
انظروا إلى هذا المنزل العظيم .. ففيه تستعرّ نار الفراق والوجد .. إنه منزل الكريم .. الكريم سعد بن الربيع الذي عرض نصف ماله وإحدى زوجاته على عبد الرحمن بن عوف .. تناثرت الدموع دموع ابنتيه الوحيدتن ودموع زوجته التي بقيت معه .. إن حاله كحال والد جابر .. لقد خرج سعد وخرجنا معه إلى ناحية أخرى .. إنها الناحية التي انزوى فيها صحابيان عن الناس .. ماذا يفعلان؟ إنهما يدعوان .. يبوحان فيبحر الدعاء بهما .. دعونا نبحر معهما إلى جزيرة هذا وجزيرة ذاك .. ولكن قبل ذلك نودّ التعرف إليهما ..
إنهما من الأوائل
أمّا الأول، فأوّل من رمى بسهم في سبيل الله .. وهو سعد بن أبي وقاص .. أمهر من رمى السهام.
وأمّا الآخر .. فأوّل من قاد سرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولدولة الإِسلام
الجديدة .. إنه عبد الله بن جحش رضي الله عنهما .. ها هو سعد يحدّثنا عما جرى في تلك الناحية .. فيقول:
(إن عبد الله بن جحش، قال له يوم أُحد: ألا تدعو الله، فخلوا في ناحية، فدعا سعد فقال:
يا ربّ إذا لقيت العدو، فلقّني رجلًا شديدًا بأسه، شديدًا حرده، أقاتله ويقاتلني، ثم ارزقني الظفر عليه حتى أقتله، وآخذ سلبه .. فأمَّن عبد الله بن جحش ثم قال:
اللهمّ ارزقي رجلًا شديدًا حرده، شديدًا بأسه، أقاتله فيك ويقاتلني، ثم يأخذني، فيجدع أنفي وأذني، فإذا لقيتك غدًا قلت: يا عبد فِيمَ جدع أنفك وأذنك؟ من جدع أنفك وأذنك؟ فأقول: فيك وفي رسولك. فتقول: صدقت) (1).
يا لهذه الجزر الحالمة الساحرة .. يا لهذه الأنفس ما أعظمها .. ترى هل سيجيب الله هذه الابتهالات .. ستبوح بالإجابة أرض المعركة .. وجبل عينين وجبل أُحد سيشهدان على ذلك .. لماذا كل هذه الحرقة
(1) سنده قوي: رواه الحاكم (2/ 86) وأبو نعيم في الحلية (1/ 108) من طرق عن ابن وهب حدثني أبو صخر عن يزيد بن قسيط الليثي عن إسحاق بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه، وأبو صخر هو حميد بن زياد بن أبي المخارق (التهذيب- 3/ 41) وهو حسن الحديث إذا لم يخالف قال الحافظ:(صدوق يهم)(التقريب- 1/ 202) وشيخه يزيد تابعى ثقة: التقريب (2/ 367) وأما إسحاق ابن الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص فهو ثقة .. وثقه الإِمام العجلي في ثقاته توثيقًا لفظيًا فقال: مدني تابعى ثقة (60) ووثقه ابن حبان.
وللحديث شاهد عند ابن سعد بسند ضعيف مرسلًا عن سعيد بن المسيب، وعن المطلب ابن حنطب مرسلًا أيضًا (3/ 90 - 91)
على الموت .. كل هذا الاحتفاء والعشق الذي يحرق الأكباد .. إنها الجنّة.
وهؤلاء الرجال يحتقرون أعمارهم وأعمالهم وفداءهم إذا ما قارنوها بثوابها عند الله .. إنهم مسافرون إلى الخلود .. فلو ضرب المؤمن سنين عمره في عدد حبات الرمال المنثورة على وجه الأرض لما حصل على عدد يقارب سنين عمره في الجنّة .. فكيف يلام شيوخ كعمرو بن الجموح وعبد الله بن عمرو بن حرام وحسيل .. كيف يلام هؤلاء الشيب إذا ما نافسوا الشباب على ظهور الخيل والموت وهم يسمعون رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يدخل أهل الجنةِ الجنةَ جردًا، مردًا، كأنهم مكحلون، أبناء ثلاثٍ وثلاثين)(1)(لا يسقمون ولا يبولون، ولا يتغوّطون، ولا يتفلون، ولا يمتخطون)(2)، قال بعض الصحابة للنبى صلى الله عليه وسلم:(فما بال الطعام؟ قال: جشاء ورشح كرشح المسك)(3)، (ينادي منادي: إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا) (4) فـ (إذا دخل أهل الجنة الجنّة وأهل النارِ النارَ يجاء بالموت كأنه كبش أملح، فيوقف بين الجنّة والنار، فيقال:
يا أهل الجنّة هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، فينظرون، ويقولون: نعم .. هذا الموت. وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبون، فيقولون: نعم .. هذا الموت .. وكلّهم قد رآه، فيؤمر
(1) حديث صحيح انظر: صحيح الجامع (2/ 341).
(2)
حديث صحيح متفق عليه - المشكاة (3/ 1564).
(3)
حديث صحيح رواه مسلم - المشكاة (3/ 1564).
(4)
حديث صحيح رواه مسلم - المشكاة (3/ 1564).
به فيذبح، ويقال: يا أهل الجنّة خلود ولا موت، ويا أهل النار خلود ولا موت) (1).
وقد خطف صلى الله عليه وسلم أرواحهم وعقولهم وقلوبهم عندما تحدّث عن الجهاد في سبيل الله، فقال:(غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها، ولو أن امرأة من نساء أهل الجنّة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحًا ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها)(2)، كل هذا السحر .. كل هذا الجمال .. كل هذه الفتنة لنساء الجنّة من المؤمنات ومن الحور .. فلا عجيب أن نرى ضمن الجيش نساءً خرجن للمشاركة في المعركة .. يداوين الجرحى ويسقين العطشى .. كان في مقدمتهن فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوجته عائشة بنت أبي بكر الصديق .. وصفية بنت عبد المطلب عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخت حمزة رضي الله عنهم .. وأم سليم بنت ملحان المشهورة بـ (الرميصاء) وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنهما .. وهنّ من الأنصار .. كما شاركت أنصاريات أُخر منهنّ: أم سليط رضي الله عنها وفاطمة (3) بنت عمرو بن حرام أخت عبد الله وعمّة جابر وزوجة عمرو بن الجموح ونساء أخريات من المهاجرين والأنصار ..
ولئن استطاع بعض النساء أن يخرجن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حروبه فإن هناك من الرجال من لا يقدر على الخروج .. والحرج يحاصرهم بعد نزول هذه الآيات:
(1) حديث صحيح، صحيح الجامع (1/ 152).
(2)
حديث صحيح: رواه البخاري (المشكاة- 3/ 1562).
(3)
سيأتي ذكرهن أثناء المعركة وبعدها في أحاديث صحيحة إن شاء الله.