الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
* الوافي: "كان علّامة لغويًّا أديبًا وكان بينه وبين الحافظ عبد الغني الأزدي المصري وأبي الحسن علي بن سليمان الأنطاكي المقرئ النحوي اتحاد ومذاكرة وصحبة مصر" أ. هـ.
* المقفى الكبير: "كان مكثرًا من حفظ اللغة ونقلها، عارفًا بحوشيها ومستعملها حضر مجلس الصاحب إسماعيل بن عبَّاد بشيراز، وهو شعث الزيّ ذو أخمار رثة وسخة فجلس قريبًا من الصاحب وكان مشغولًا، فلما بصر به قطَّب وقال: قم يا كلب من هاهنا! وقال له جُنادة: الكلب هو الذي لا يعرف للكلب ثلاثمائة اسم. فمدّ عند ذلك الصاحب يده وقال: قم إلى هاهنا فما يجب أن يكون مكانك حيث جلست، ورفعه إلى جانبه" أ. هـ.
وفاته: سنة (399 هـ) تسع وتسعين وثلاثمائة.
904 - الجُنَيد البغدادي *
المفسر: الجنيد بن محمَّد بن الجنيد النهاوندي (1) ثمَّ البغدادي القواريري، أبو القاسم.
ولد: سنة نيف وعشرين ومائتين فيما حسب وأعلم.
من مشايخه: خاله السري سقطي، والحارث المحاسبي، والحسن بن عرفة وغيرهم.
من تلامذته: أبو بكر الشبلي، وجعفر الخلدي، وأبو محمد الجريري وغيرهم.
كلام العلماء فيه:
* تاريخ بغداد: "وصحب جماعة من الصالحين. . ثمَّ اشتغل بالعبادة ولازمها حتى علت سنه، وصار شيخ وقته، وفريد عصره في علم الأحوال والكلام على لسان الصوفية، وطريقة الوعظ وله أخبار مشهورة وكرامات مأثورة. . . حدثنا أحمد بن جعفر بن محمَّد بن عبيد الله المنادى قال: كان الجنيد محمَّد بن الجنيد قد سمع الحديث الكثير من الشيوخ، وشاهد الصالحين وأهل المعرفة ورزق من الذكاء وصواب الإجابات في فنون العلم ما لم يُرَ في زمانه مثله، عند أحد من قرنائه، ولا ممن أرفع سنًّا منه. ممن كان ينسب منهم إلى العلم الباطن والعلم الظاهر في عفاف وعزوف عن الدنيا وأبنائها." أ. هـ.
* العبر: "الزاهد القطب، شيخ العصر. . وله المقامات والكرامات والكلام النافع في الصدق والمعاملات. رحمه الله" أ. هـ.
* السير: "هو شيخ الصوفية. . أتقن العلم ثمَّ أقبل على شأنه، وتألّه وتعبَّد، ونطق بالحكمة، وقلَّ ما روى.
قال ابن المُنادي: سمعَ الكثير، وشاهدَ
* تاريخ الإِسلام (وفيات 198) ط - تدمري، معجم المفسرين (1/ 127)، السير (14/ 66)، حلية الأولياء (10/ 255)، تاريخ بغداد (7/ 241)، طبقات الحنابلة (1/ 127)، الأنساب (4/ 556)، المنتظم (12/ 118)، وفيات الأعيان (1/ 373)، العبر (2/ 110)، طبقات الشافعية للسبكي (2/ 260)، البداية (11/ 121)، النجوم (3/ 168)، الشذرات (3/ 416)، روضات الجنات (2/ 247)، الإمام الجنيد والتصوف في القرن الثالث الهجري - زهير ظاظا - دار الخير (1414 هـ - 1994)، طبقات الداودي (1/ 129)، الوافي (1/ 201).
(1)
نسبة إلى نهاوند: مثلثة، النون الأولى، مع فتح الهاء والواو بينهما ألف وإسكان النون الثانية. قاله ياقوت في معجمه (5/ 313) مدينة عظيمة في قبلة همذان بينهما ثلاثة أيام.
الصَّالحين، وأهلَ المعرفة، ورُزقَ الذَّكاء وصوابَ الجواب. لم يُرَ في زمانِهِ مثلُه في عفَّة وعُزوفٍ عن الدُّنيا.
قِيل لي: إنَّه قال مرَّة: كنتُ أفتي في حَلقة أبي ثور الكَلْبيِّ ولي عشرون سَنَة.
وقال أحمد بن عطَاء: كان الجُنيد يُفتي في حَلقة أبي ثَوْر.
عن الجُنيد قال: ما أخرجَ اللهُ إلى الأرض عِلمًا وجعلَ للخلْق إليه سبيلًا، إلا وقَد جعلَ لي فيه حظًا.
وقيل: إنَّهُ كانَ في سُوقه وورْدُه كلَّ يومٍ ثلاثُ مئة رَكعة، وكذا وكذا ألف تَسْبيحَة.
أبو نُعَيم حدثنا علي بن هارون وآخر قالا: سمعنا الجُنَيدَ غيرَ مرَّة يقول: عِلْمُنا مضبوطٌ بالكتابِ والسُّنَّة من لم يحفظِ الكتابَ، ويكتبِ الحديثَ، ولم يتفقَّهْ، لا يُقْتَدَى به.
قال عَبد الواحد بن علوان: سمعتُ الجُنيدَ يقول: عِلمُنا -يعني التَّصوُّف - مُشبَّكٌ بحديثِ رسولِ اللهِ.
وعن أبي العبَّاس بن سُريج: أنَّه تكلَّم يومًا فعجبُوا! فقال: ببَركة مُجالسَتي لأبي القاسم الجُنيد.
وعن أبي القاسم الكَعْبي أنَّه قال مرَّة: رأيتُ لكم شَيخًا ببَغدَاد، يُقال له الجُنَيد، ما رأتْ عيناي مثلَه! كان الكَتَبَةُ -يعني البلغاء- يحضرونَه لألفاظِه، والفلاسفَةُ يحضُرونه لدقَّة معانيه، والمتكلَّمون يحضُرونه لزمِام علمه، وكلامُه بائنٌ عن فَهمهم وعِلمهِم.
قال الخُلْدي: لم نَرَ في شيوخنا من اجتمع له علمٌ وحالٌ غير الجُنيد.
كانت له حالٌ خطيرةٌ، وعلمٌ غزيرٌ، إذا رأيتَ حاله رجَّحْتَهُ على عِلْمِه، وإذا تكلَّم رجَّحْتَ علمَه على حالِه.
أبو سهل الصُّعْلوكي: سمعتُ أبا محمَّد المرتعش يقول: قال الجُنيد: كنتُ بينَ يدي السَّريِّ ألعبُ وأنا ابنُ سبعِ سِنين، فتكلَّموا في الشُّكر، فقال: يا غلامُ ما الشُّكر؟ قلت: أنْ لا يُعْصى الله بنِعمهِ، فقال: أخْشى أن يكون حظَّك من اللهِ لسانُك.
قال الجُنيد: فلا أزال أبكي على قوله.
السُّلمي حدثنا جدِّي ابنُ نُجيد قال: كانَ الجُنيد يَفتح حانوته ويدخل، فَيُسيل السِّتْرَ ويصلِّي أربع مئة ركعة. . .
قال أبو محمد الجَريري: سمعت الجُنيد يقول: ما أخذنا التَّصوُّف عن القال والقيل، بل عن الجوعِ، وترك الدُّنيا، وقطعِ المألوفات.
قلت: هذا حَسن، ومراده: قطعُ أكثر المألوفات، وتركُ فضول الدنيا، وجوعٌ بلا إفراط. أمَّا مَنْ بالغ في الجُوع كما يفعله الرُّهبان، ورفضَ سائر الدُّنيا، ومألوفات النَّفسِ، من الغذاء والنَّومِ والأهل، فقد عرَّض نفسَه لبلاء عريض، وربَّما خُولِط في عقله، وفاته بذلك كثيرٌ من الحنيفيَّة السَّمْحَة، وقد جعل الله لكلِّ شيء قَدرًا، والسَّعادة في مُتابعة السُّنن، فزنِ الأمور بالعدل، وصُمْ وأفْطر، ونمْ وقُمْ، والزمِ الوَرَع في القوت، وارضَ بما قسمَ الله لك، واصمُتْ إلَّا مِن خَير، فرحمةُ اللهِ على الجُنيد، وأين مثلُ الجُنيد في علمه وحاله؟ . . ." أ. هـ.
* الوافي: "قيل إن أباه كان قواريريًا يعني زجَّاجًا
وكان هو خزاز، وكان شيخ العارفين وقدوة السالكين وعَلَم الأولياء في زمانه" أ. هـ.
* طبقات الشافعية للسبكي: "وسئل عن قرب الله تعالى فقال: قريب لا بالتَّلاق، بعيد لا بافتراق" أ. هـ.
* قلت: ومن كتاب "الإمام الجنيد" نذكر ما نصّه: "ولكي نستشف ضياع الجنيد بين هاتين المدرستين (1) نورد رأي الدكتور بسيوني، كونه يمثل طريقةً في تناول الجنيد لعلنا لم نتبعها في كتابنا.
قال في كتابه "نشأة التصوف":
أما الجنيد فأهميته في مجال المعرفة أنَّه أصدق مثل لمرحلة الصحو لا المحو التي شهدنا آثارها وأفكارها وشطحاتها عند البسطامي والحلاج والشبلي.
قال: وصاحب اللمع يصور لنا هذه الفكرة بطريق غير مباشر حيث يشرح الجنيد شطحات الشبلي وأبي يزيد لأنَّ الرجل قد عانى على ما يبدو تجربة المحو ولكنه لزم الصحو، ويصور لنا السراج ذلك بطريق مباشر حين ينسب إلى الجنيد قوله: الشبلي رحمه الله سكران، ولو أفاق من سكره لجاء منه إمام ينتفع به.
قال: ولقد وقف الجنيد في تاريخ التصوف موقفًا له خطره إذ أراد فكرة التوفيق بين الحقيقة والشريعة فحاول أن ينظم المذهب الصوفي ويطوره حتى استحق لقب سيد الطائفة، وانتهت جهوده في ذلك إلى أنَّه لا مجافاة بين الحقيقة والشريعة؟ ! .
قال: وعلى الرغم من ذلك فإن الجنيد قد أثر عنه ما ينمُّ عن مروره بمنطقة المحو، وبدرت منه وهو في هذه المنطقة أحاديث لا تخلو من انحاء.
يقول:
قد كان يطربني وجدي فأقعدني
…
عن رؤية الوجد ما في الوجد موجود
الوجد يطرب مَنْ في الوجد راحته
…
والوجد عند شهود الحق مفقود
قال: ويعرف الجنيد التوحيد فيقول: معنى تضمحل فيه الرسوم وتندرج فيه العلوم، ويكون الله تعالى كما لم يزل.
ويقول: التوحيد الخروج من ضيق رسول الزمانية إلى سعة فناء السرمدية، وهذا الموقف الذي ينمُّ عن السكر لقي عند العطار دهشة لمخالفته لطابع الجنيد المعروف.
قال: ويبدو أنَّ الجنيد كان يحاول أن يوفق بين الشريعة والحقيقة في حياته بحيث ظهر ذلك في بعض أنماط سلوكه فقد كان يلبس لباس الفقهاء لا الصوفية، فلما سئل في ذلك قال: إنما الاعتبار بالحرفة وليس الاعتبار بالخرقة.
قال: والجنيد رغم أنَّه من أهل الصحو لا المحو لا يكتمنا رأيه الحقيقي في هذا الصدد، يقول: قالت النار يا رب لو لم أطعك هل كنت تعذبني
(1) يقصد بالمدرستين: مدرسة الصحو والمحو، والمحو: رفع أوصاف العادة بحيث يغيب الصد عندها عن عقله، ويحصل منه أفعال وأقوال لا مدخل لعقله فيها كالسكر من الخمر (معجم مصطلحات الصوفية (158). أما الصحو فهو: رجوع العارف إلى الإحساس بعد غيبته وزوال إحساسه (معجم مصطلحات الصوفية (108).
بشيء مني؟ قال: نعم كنتُ أسلط عليك ناري الكبرى، قالت: وهل نارٌ أعظم مني وأشد؟ قال: نعم نار محبتي أسكنتها في قلوب أوليائي المؤمنين! ! .
ونختم بحثنا هذا بلا مناقشة بما يفرِّق به الأستاذ العفيفي بين مذهب الجنيد والبسطامي والحلاج في الصحو والسكر.
قال العفيفي في كتابه "الثورة الروحية في الإسلام":
ويفضل أبو يزيد وأصحابه السكر على الصحو، لأنَّ الصحو في نظرهم يقتضي وجود الصفات البشرية التي هي أعظم حجاب يحول بين العبد وربه، أما السكر فهو محوٌ لهذه الصفات، ورفعٌ لحجب الاختيار والتصرف والتدبير.
أما الجنيد وأصحابه فيفضلون الصحو على السكر، لأنَّ السكر يخرج العبد عن حالته الطبيعية ويفقده سلامة العقل الواعي والقدرة على التصرف والسكر في نظر الجنيد وأصحابه أشبه بميدان لعب الأطفال وأليق بالمبتدئين في الطريق الصوفي.
قال: لما قطع الحلاج صلته بعمرو بن عثمان! ! أتى إلى الجنيد فسأله الجنيد: ما جاء بك إلينا؟ فقال الحلاج: جئت لصحبة الشيخ. فقال الجنيد: أنا لا أصحب المجانين، إن الصحبة تقتضي كمال العقل فإن لم يكن ذلك فالعاقبة كما ترى من مسلكك من سهل بن عبد الله وعمرو بن عثمان المكي. فقال الحلاج: يا شيخ إن الصحو والسكر صفتان للعبد والعبد محجوب عن ربه حتى يفنى عن صفاته! ! فقال الجنيد: يا ابن منصور إنك أخطأت في الصحو والسكر، إن الصحو سلامة الحال مع الله، والسكر المبالغة في الشوق والمحبة، وليس واحد من هذين يُنال بالكسب. يا ابن منصور إن في كلامك حماقة ومخرقة) (1).
ثمَّ يتناول زهير ظاظا مسألة السماع وموقف الجنيد منها ويعرض لذلك كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية من مجموع الفتاوى (11/ 534)، فيقول: "وأنا مضطر قبل عرض نماذج مما نسب إلى الجنيد من الأقوال في السماع إلى الإشارة إلى ما فسَّر به ابن تيمية هذا التناقض آملًا أن يكون ذلك مثلًا لمعرفة فهم المسلمين في القرن الثامن الهجري لاضطراب النص الصوفي.
قال ابن تيمية:
وأما الاستماع إلى القصائد الملحنة والاجتماع عليها، فأكابر الشيوخ لم يحضروا هذا السماع، كالفضيل بن عياض، وإبراهيم بن أدهم، وأبي سليمان الداراني، ومعروف الكرخي، والسري السقطي، وأمثالهم من المتأخرين كالشيخ عبد القادر، والشيخ عديّ بن مسافر، والشيخ أبي مدين، والشيخ أبي البيان، وأمثال هؤلاء المشايخ فإنهم لم يكونوا يحضرون هذا السماع.
وقد حضره طائفة من الشيوخ وأكابرهم ثمَّ تابوا منه ورجعوا عنه، وكان الجنيد رحمه الله تعالى لا يحضره في آخر عمره، ويقول: مَنْ تكلف السماع فُتن به، ومَنْ صادفه السماع استراح به.
قال: والذين حضروا السماع المحدث الذي جعله الشافعي من إحداث الزنادقة لم يكونوا
(1) الإمام الجنيد ص (92 - 93).
يجتمعون مع مردان ونسوان، ولا مع مصلصلات وشبابات، وكانت أشعارهم مزهدات مرققات.
وقد حضره من المشايخ طائفة، وشرطوا له المكان والإمكان والخلان والشيخ الذي يحرس من الشيطان، وأكثر الذين حضروه من المشايخ الموثوق بهم رجعوا عنه في آخر عمره كالجنيد، فإنَّه حضره وهو شاب، وتركه في آخر عمره، وكان يقول: من تكلف السماع. . . إلخ. . . فقد ذمّ من يجتمع له ورخص فيمن يصادفه من غير قصدٍ، ولا اعتماد للجلوس له.
قال: وسبب ذلك أنَّه مجمل ليس تفصيل، فإن الأبيات المتضمنة لذكر الحب والوصل والهجر والقطيعة والشوق والتتيُّم والصبر على العذل واللوم ونحو ذلك هو قول مجمل يشترك فيه محب الرحمن، ومحب الإخوان، ومحب النسوان، ومحب المردان" (1).
ثمَّ ينتقل إلى الكلام عن الإرادة وقول الجنيد فيها نقلًا عن شرح كلمات فتوح الغيب لشيخ الإِسلام ابن تيمية، فيقول:
"وقال ابن تيمية:
والناس في الإرادة ثلاثة أقسام: قوم يريدون ما يهوونه فهؤلاء عبيد أنفسهم والشيطان، وقوم يزعمون أنهم فرغوا عن الإرادة مطلقًا، ولم يبق لهم مراد إلا ما يقدَّره الرب وأن هذا المقام هو أكمل المقامات، ويزعمون أن من قام بهذا فقد قام بالحقيقة، وهي الحقيقة القدرية الكونية وأنه شهد القيومية العامة، ويجعلون الفناء في شهود الربوبية هو الغاية، وقد يسمّون هذا الجمع والفناء والاصطلام ونحو ذلك، وكثير من الشيوخ زلقوا في هذا الوضع. وفي هذا المقام كان النزاع بين الجنيد بن محمّد وبين طائفة من أصحابه الصوفية فإنهم اتفقوا على شهود توحيد الربوبية وأن الله خالق كل شيء، وربه ومليكه وهو شهود القدر، وسموا هذا مقام الجمع.
فإنَّه خرج به عن الفرق الأوّل وهو الفرق الطبيعي بإرادة هذا وكراهة ورؤية فعل هذا وترك هذا، فإن الإنسان قبل أن يشهد هذا التوحيد يرى للخلق فعلًا يتفرق به قلبه في شهود أفعال المخلوقات، ويكون متبعًا لهواه فيما يريده فإذا أراد الحق خرج بإرادته عن إرادة الهوى والطبع، ثمَّ يشهد أنَّه خالق كل شيء، فخرج بشهود هذا الجمع عن ذاك الفرق.
فلما اتفقوا على هذا ذكر لهم الجنيد الفرق الثاني وهو بعد هذا الجمع، وهو الفرق الشرعي: ألا ترى أنك تريد ما أمرت به، ولا تريد ما نهيت عنه، وتشهد أن الله هو يستحق العبادة دون ما سواه، وأن عبادته هي بطاعة رسله، فتفرَّق بين المأمور والمحظور، وبين أوليائه وأعدائه وتشهد وتوحد الألوهية. فنازعوه في هذا الفرق، منهم من أنكره، ومنهم من لم يفهمه، ومنهم من ادّعى أن المتكلم فيه لم يصل إليه.
ثمَّ إنك تجد كثيرًا من الشيوخ إنما ينتهي إلى ذلك الجمع، وهو توحيد الربوبية والفناء فيه، كما في كلام صاحب منازل السائرين مع جلالة قدره، مع أنَّه قطعًا كان قائمًا بالأمر والنهي المعروفين لكن قد يدَّعون أن هذا لأجل العامة.
ومنهم من يتناقض، ومنهم من يقول الوقوف مع
(1) الإمام الجنيد ص (193).
الأمر لأجل مصلحة العامة، وقد يُعبّر عنهم بأهل المارستان، ومنهم من يسمِّي ذلك مقام التلبيس (1).
ثمَّ ينقل كلام الجنيد فيما ينسب إليه من معنى التوحيد فيقول:
"ويتوغل المتصوفة في نسبة العبارات الطنانة للجنيد فينقلون أنَّه قال:
التوحيد معنى تضمحل فيه الرسوم، وتندرج فيه العلوم، ويكون الله تعالى كما لم يزل. وأن عقول العقلاء إذا تناهت في التوحيد تناهت إلى الخير.
وأنه مباين لوجوده مفارق لعلمه، قد طوى بساطه منذ عشرين سنة، والناس يتكلمون في حواشيه.
قال ابن تيمية:
وأما ما نُقل عن الجنيد أنَّه قال: انتهى عقل العقلاء إلى الحيرة، فهذا لا أعرفه من كلام الجنيد، وفيه نظر هل قاله؟ ولعل الأشبه أنَّه ليس من كلامه المعهود، فإن كان قد قال هذا فأراد عدم العلم بما لم يصل إليه لم يرد بذلك أن الأنبياء والأولياء لم يحصل لهم يقين ومعرفة وهدى وعلم، فإن الجنيد أجل من أن يريد هذا، وهذا الكلام مردود على من قاله لكن إذا قيل إن أهل المعرفة مهما حصلوا من المعرفة واليقين والهدى فهناك أمور لم يصلوا إليها فهذا صحيح، كما في الحديث الذي رواه الإمام أحمد في المسند وأبو حاتم في صحيحه (اللهم إني أسألك بكل اسم. . .) فقد أخبر أن لله أسماءُ استأثر بها في علم الغيب عنده، وهذه لا يعلمها مَلَك ولا بشر، فإذا أراد المريد أن عقول العقلاء لم تصل إلى معرفة مثل هذه الأمور فهذا صحيح، وأما إذا أراد أن العقلاء ليس عندهم علم ولا يقين بل حيرة وريب فهذا باطل قطعًا، وما ذكر عن ذي النون في هذا الباب من أنَّ ذا النون قد وقع منه كلام أنكر عليه وعزره الحارث بن مسكين، وطلبه المتوكل إلى بغداد واتهم بالزندقة، وجعله الناس من الفلاسفة فما أدري هل قال هذا أم لا، بخلاف الجنيد فإن الاستقامة والمتابعة غالبة عليه، وإن كان كل أحد يُؤخذ من قوله ويُترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بذلك نستطيع أن نستنبط تصور شيخ الإِسلام ابن تيمية للجنيد، وكيف حكم على تلك العبارة بالوضع لأنها (ليست من كلامه المعهود)، ونقف عند قوله (ليست من كلامه المعهود) لأننا وجدنا فيما هو منسوب إلى الجنيد من الآراء والأحكام ما لا يضبطه ضابط ذلك أنَّه ليس فيما بين أيدينا من الكتب المنسوبة إلى الجنيد ما نجد فيه ما هو بين أيدينا من الآراء المنسوبة إليه التي تذخر بها مصادر التصوف الأولى.
وقد جمعنا من ذلك ما هو حجة لنا فيما ذهبنا إليه من أن الذي نَسَب هذه الكتب للجنيد لم يكن مطلعًا تمامًا على مصادر التصوف الأولى، ولو كان لاستعان بها على بلوغ مناه. ولم يكن قصده أن يستكثر الكتب للجنيد، وإنما أن يعطي الكتاب الذي يلقيه على مريديه أهميةً تناسب مكانة الجنيد وبالتالي سيصبح موئلًا للمستجيزين من المتصوفة، وإن كانت كتبه لا تعدو أنها سلائل من حلية الأولياء وغيره من كتب
(1) الإمام الجنيد ص (126).
التصوف بالإضافة إلى كون بعضها تغلب عليه عبارة المتصوفة في القرن السابع الهجري (1).
من آراء الجنيد في بعض العقائد:
هذه مقتطفات من آراء الجنيد في بعض العقائديات مأخوذة من كتاب (التعرُّف) لأنَّ الكلاباذي لم يتعرض في كتابه إلا للتصوف مذهبًا.
قال فيمن نثر علوم الإشارة كتبًا ورسائل:
وللجنيد رسائل وكلام كثير في تكذيب من ادعى رؤية الله من الصوفية. وممن قال إن النبي صلى الله عليه وسلم لم ير ربَّه ليلة الإسراء الجنيد والنوري وأبو سعيد الخراز.
وقال الجنيد والنوري وغيرهما من الكبار فيما أضيف إلى الأنبياء من الزلل:
إن ما جرى على الأنبياء إنما جرى على ظواهرهم، وأسرارُهم مستوفاة بمشاهدات الحق، واستدلوا على ذلك بقوله تعالى {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115].
وقالوا: فلا تصح الأعمال حتى يتقدمها العقود والنيات، وما لا عقد فيه ولا نية فليس بفعل، وقد نفى الله تعالى الفعل عن آدم بقوله:{فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه: 115].
قال الجنيد: الروح شيءٌ استأثر الله بعلمه، ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه، ولا يجوز العبارة عنه بأكثر من موجود لقوله تعالى:{قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]. وقال الجنيد وسهل وغيرهما من المتقدمين: إن التصديق يزيد ولا ينقص، ونقصانه يخرج من الإيمان، لأنه تصديق بأخبار الله تعالى وبمواعيده، وأدنى شك فيه كفر وزيادته من جهة القوة واليقين، وإقرار اللسان لا يزيد ولا ينقص، وعمل الأركان يزيد وينقص.
قال الجنيد: وسبيل المكاسب لمن ربط به غيره ممن يلزمه فرضه سبيل الأعمال المقربة إلى الله.
ولأبي العباس بن عطاء كتاب في رد الفاني إلى صفاته سماه (عودة الصفات وبدؤها) وأما الكبار منهم والمحققون فلم يروا رد الفاني إلى بقاء الأوصاف منهم الجنيد والخراز والنوري وغيرهم (2).
الجنيد في كتاب "مدخل إلى التصوف الإسلامي":
يرى الدكتور الغنيمي صاحب كتاب "مدخل إلى التصوف الإِسلامي": أن الجنيد انتمى إلى المحاسبي مؤسس المدرسة الصوفية ببغداد.
قال (3): وكان أعمق صوفية القرنين الثالث والرابع وأعظمهم خطرًا.
قال: وكان يمثل الجنيد في تصوف عصره اتجاهًا معتدلًا، وإن شئت قلت: يمثل تصوف الفقهاء المستند إلى الكتاب والسنة بشكل ظاهر، ولعل في عبارته التالية ما يشير إلى منهجه في التصوف: من لم يحفظ القرآن ولم يكتب الحديث لا يُقتدى به في هذا الأمر.
قال: وقد غلب على الجنيد الكلام في دقائق التوحيد وكتب تراجم الصوفية حافلة بالكثير من أقواله في هذا الصدد، فمن ذلك ما يرويه
(1) الإمام الجنيد ص (127 - 128).
(2)
نفس المصدر ص (128 - 129).
(3)
مدخل إلى التصوف (ص: 113).
القشيري عنه: سُئل الجنيد عن التوحيد فقال: إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته بأنّه الواحد الذي لم يلد ولم يولد بنفي الأضداد والأنداد والأشباه وما عبد من دونه بلا تشبيه ولا تكييف ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير.
قال (1) على أنَّه يتحدث عن التوحيد بمعناه الصوفي فيقول: إن العقل عاجز عن إدراكه لأنه إذا تناهت عقول العقلاء في التوحيد تناهت إلى الحيرة.
وكان يقول: أشرف كلمة في التوحيد ما قاله أبو بكر رضي الله عنه: سبحان من لم يجعل لخلقه سبيلًا إلى معرفته إلا بالعجز عن معرفته.
قال: والتوحيد الحقيقي عند الجنيد ثمرة الفناء عن كل ما سوى الله فيقول عن ذلك: التوحيد الذي انفرد به الصوفية هو إفراد القدم عن الحدث والخروج عن الأوطان وقطع المحاب وترك ما علم وجهل وأن يكون الحق سبحانه مكان الجميع.
أما توحيد الخاصة كما يراه الجنيد فهو: أن يكون العبد شبحًا بين يدي الله عز وجل تجري عليه تصاريف تدبيره وهذا لا يكون إلا بالفناء عن نفسه ودعوة الخلق له بذهاب حسه وحركته لقيام الحق له فيما أراد منه وبهذا الفناء في التوحيد يتحقق للصوفي الخروج من ضيق رسوم الزمانية إلى سعة فناء السرمدية.
قال (2) وواضح من كلام الجنيد أنَّه يشير إلى توحيد من نوع خاص يقوم على أساس من الفناء عن الإرادة وعما سوى الله بذهاب الحس والحركة مع الثقة التامة بأن الله يقوم للعبد بكل شيء.
وسنجد الصوفية فيما بعد يريدون بهذا المعنى من معاني التوحيد الفناء عن السدى إرادةً وشهودًا.
قال: والفناء في التوحيد معرفة نظرية تحققت بها نفس الإنسان في عالم آخر قبل أن تتصل بالبدن في هذا العالم.
وهذه الفكرة عند الجنيد وعند غيره من الصوفية المتأخرين كابن عطاء الله السكندري شبيهة بفكرة أفلاطون عن سبق وجود النفس الإنسانية في عالم المثل قبل هبوطها إلى البدن وعن تحققها في ذلك العالم بالمعرفة الحقيقية وفي ذلك قال أفلاطون: العلم تذكر والجهل نسيان. فهو فطري في النفس ولكن البدن حجبها عنه.
قال: ويدلنا على أن الجنيد يرى التوحيد فطريًا في النفوس قوله: التوحيد أن يرجع آخر العبد إلى أوله فيكون كما كان قبل أن يكون.
قال: والفناء في التوحيد الذي ظهر القول به عند الجنيد وتابعه فيه الصوفية والسنيُّون! أمر يقره أشد خصوم الصوفية ويرون أن يتمشى مع السنَّة فيقول سعد الدين التفتازاني: إذا انتهى العبد في السلوك إلى الله يستغرق في بحر التوحيد والعرفان بحيث تستمر ذاته في ذاته، وصفاته في صفاته، ويغيب عن كل ما سوى الله، ولا يرى في
(1) نفس المصدر (ص: 114).
(2)
نفس المصدر (ص: 115).