الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الجزء الرابع
{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ
(93)
فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
شرح الكلمات:
{الطَّعَامِ1} : اسم لكل ما يطعم من أنواع المأكولات.
حل: الحل: الحلال، وسمى حلالاً لانحلال عقدة الحظ عنه.
بني إسرائيل: أولاد يعقوب الملقب بإسرائيل المنحدرون من أبنائه الاثنى عشر إلى يومنا هذا.
{حَرَّمَ} : حظر ومنع.
{التَّوْرَاةُ} : كتاب أنزل على موسى عليه السلام وهو من ذرية إسرائيل.
{فَاتْلُوهَا} : اقرأوها على رؤوس الملأ لنتبين صحة دعواكم من بطلانها.
افترى2 الكذب: اختلقه وزوره وقاله.
{مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} : دينه وهي عبادة الله تعالى بما شرع، ونبذ الشرك والبدع.
{حَنِيفاً3} : مائلاً عن الشرك إلى التوحيد.
1 الطعام: "أل" للجنس، ولفظ: كل، للتنصيص على العموم.
2 الافتراء: كالاختلاق سواء، والافتراء مأخوذ من الفري، وهو قطع الجلد قطعاً ليصلح بها قربة وحذاء ونحوهما.
3 حنيفاً منصوب على الحال وصاحبها إبراهيم المجرور بالإضافة.
بِبَكَّةَ: مكة.
لِلْعَالَمِينَ: للناس أجمعين.
مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ1: آية من الآيات وهو الحجر الذي قام عليه أثناء بناء البيت فارتسمت قدماه وهو صخر فكان هذا آية.
َمَنْ دَخَلَهُ: الحرم الذي حول البيت يحددوه المعروفة.
آمِناً: لا يخاف على نفس ولا مال ولا عرض.
الحج: قصد البيت للطواف به وأداء بقية المناسك.
سَبِيلاً: طريقاً والمراد القدرة على السير إلى البيت والقيام بالمناسك.
معنى الآيات:
ما زال السياق في الحجاج مع أهل الكتاب فقد قال يهود للنبي صلى الله عليه وسلم: كيف تدعي أنك على دين إبراهيم، وتأكل ما هو محرم في دينه من لحوم الإبل وألبانها، فرد الله تعالى على هذا الزعم الكاذب بقوله:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ} أي حلالاً لبني إسرائيل، وهم ذرية يعقوب الملقب بإسرائيل، ولم يكن هناك شيء محرم عليهم في دين إبراهيم اللهم إلا ما حرم إسرائيل "يعقوب" على نفسه خاصة وهو لحوم الإبل وألبانها لنذر نذره وهو أنه مرض2 مرضاً آلمه فنذر3 لله تعالى إن شفاه ترك أحب الطعام والشراب إليه، وكانت لحوم الإبل وألبانها من أحب الأطعمة والأشربة إليه فتركها لله تعالى، هذا معنى قوله تعالى:{كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائيلَ إِلا مَا حَرَّمَ إِسْرائيلُ عَلَى نَفْسِهِ} من قبل أن تنزل التوراة، إذ التوراة نزلت على موسى بعد إبراهيم ويعقوب بقرون عدة، فكيف تدعون أن إبراهيم كان لا يأكل لحوم الإبل ولا يشرب ألبانها فأتوا بالتوراة فاقرؤوها فسوف تجدون أن ما حرم الله تعالى على اليهود إنما كان لظلمهم واعتدائهم فحرم عليهم أنواعاً من الأطعمة، وذلك بعد إبراهيم ويعقوب
1 مقام إبراهيم من جملة الآيات، إذ أثر قدمي إبراهيم باقية على المقام الذي هو صخرة، وفيه قال أبو طالب:
وموطئ إبراهيم في الصخر رطبة
…
على قدميه حافياً غير ناعل
وأمر تعالى بالصلاة خلفه في قوله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} فمن طاف بالبيت يختم طوافه بصلاة ركعتين خلفه.
2 أكثر الروايات على أن مرض يعقوب كان بعرق النساء، وأن ما نذره من ترك أحب الطعام والشراب إليه كان باجتهاد منه وليس شرعاً عنده، إذ هو من المباح، وللعبد أن يترك مباحاً متى شاء لاسيما إن تركه لله تقرباً إليه وتوسلاً لقضاء حاجته؛ كشفاء من مرض مثلاً.
3 روى ابن ماجة في سننه عن أنس ابن مالك قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "شفاء عرق النساء إلية شاه (عربية) "، تذاب ثم تجزأ ثلاثة أجزاء، ثم يشرب على الريق كل يوم جزء". قال أنس فوصفته لأكثر من مائة فبرأ بإذن الله تعالى.
بقرون طويلة. قال تعالى في سورة النساء: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا "اليهود" حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} وقال في سورة الأنعام: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ1 وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} الآية.
ولما طولبوا بالإتيان بالتوراة وقراءتها بهتوا ولم يفعلوا فقامت الحجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم.
وقوله تعالى: {فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} بعد قيام الحجة بأن الله تعالى لم يحرم على إبراهيم ولا على بني إسرائيل شيئاً من الطعام والشراب إلا بعد نزول التوراة باستثناء ما حرم إسرائيل على نفسه من لحمان الإبل وألبانها فاؤلئك هم الظالمون بكذبهم على الله تعالى وعلى الناس. ومن هنا أمر الله تعالى رسوله أن يقول: صدق الله فيما أخبر به رسوله ويخبره به وهو الحق من الله، إذاً فاتبعوا يا معشر اليهود ملة إبراهيم الحنيف الذي لم يكن أبداً من المشركين.
هذا ما تضمنته الآيات الثلاث: 93-94-95، وأما قوله تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ2 وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ} فإنه متضمن الرد3 على اليهود الذين قالوا إن بيت المقدس هو أول قبلة شرع للناس استقبالها فلم يعدل محمد وأصحابه عنها إلى استقبال الكعبة؟ وهي متأخرة الوجود فأخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس هو الكعبة لا بيت المقدس وأنه جعله مباركاً يدوم بدوام الدنيا والبركة لا تفارقه، فكل من يلتمسها بزيارته وحجه والطواف به يجدها ويحظى بها، كما جعله هدى للعالمين، فالمؤمنون يأتون حجاجاً وعماراً فتحصل لهم بذلك أنواع من الهداية، والمصلون في مشارق الأرض ومغاربها يستقبلونه في صلاتهم، وفي ذلك من الهداية للحصول على الثواب وذكر الله والتقرب إليه أكبر هداية، وقوله تعالى في آيات بينات يريد: في المسجد الحرام دلائل واضحات منها: مقام إبراهيم وهو الحجر الذي كان يقوم عليه أثناء بناء البيت حيث بقى أثر قدميه عليه مع إنه صخرة من الصخور ومنها زمزم والحجر والصفا والمروة وسائر المشاعر كلها آيات ومنها: الأمن التام لمن دخله فلا
1 راجع تفسير هذه الآية في موضعها من سورة الأنعام.
2 أخرج مسلم في صحيحه عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: "سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول مسجد وضع في الأرض قال: المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم بينهما؟ قال: أربعون عاماً، ثم جعلت الأرض لك مسجداً فحيثما أدركتك الصلاة فصلِ".
3 ذكر القرطبي عن مجاهد قوله: تفاخر المسلمون واليهود. فقالت اليهود: بيت المقدس أفضل وأعظم من الكعبة لأنه مهاجر الأنبياء في الأرض المقدسة. وقال المسلمون: بل الكعبة أفضل. فأنزل الله تعالى هذه الآية: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ..} الآية.
يخاف غير الله تعالى. قال تعالى: {وَمَنْ دَخَلَهُ1 كَانَ آمِناً} ثم هذا الأمن له والعرب يعيشون في جاهلية جهلاء وفوضى لا حد لها، ولكن الله جعل في قلوبهم حرمة الحرم وقدسيته ووجوب أمن كل من يدخله ليحجه أو يعتمره، وقوله تعالى:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ2 سَبِيلاً} ، لما ذكر تعالى البيت الحرام وما فيه من بركات وهدايات وآيات ألزم عباده المؤمنين به وبرسوله بحجه ليحصل لهم الخير والبركة والهداية، ففرضه بصيغة:{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ} وهي أبلغ صيغ الإيجاب، واستثنى العاجزين عن حجه واعتماره بسبب مرض أو خوف قلة نفقة للركوب والإنفاق على النفس والأهل أيام السفر.
وقوله تعالى في آخر الآية: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ} فإنه خبر منه تعالى بأن من كفر بالله ورسوله وحج بيته بعد ما ذكر من الآيات والدلائل الواضحات فإنه لا يضر إلا نفسه، أما الله تعالى فلا يضره شيء وكيف وهو القاهر فوق عباده والغني عنهم أجمعين.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-
ثبوت النسخ في الشرائع الإلهية، إذ حرم الله تعالى على اليهود بعض ما كان حلاً لهم.
2-
إبطال دعوى دعوى اليهود أن إبراهيم كان محرماً عليه الإبل وألبانها.
3-
تقرير النبوة المحمدية لتحدي اليهود وعجزهم عن دفع الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم.
4-
البيت الحرام كان قبل بيت المقدس وأن البيت الحرام أول بيت وضع للتعبد بالطواف به.
5-
مشروعية طلب البركة لزيارة البيت وحجه والطواف به والتعبد حوله.
6-
وجوب الحج على الفور3 لمن لم يكن له مانع يمنعه من ذلك.
7-
الإشارة إلى كفر من يترك الحج وهو قادر عليه، ولا مانع يمنعه منه غير4 عدم المبالاة.
1 سورة اللفظ خبر، ومعناه الإنشاء، أي: الأمر بمعنى: فمن دخله فأمنوه، هكذا قال بعضهم ولا منافاة بين القولين، فإن الحرم كان آمناً في عهد الجاهلية قروناً بما ألقى الله في قلوب العرب من حرمة الحرم إن بيت المقدس تسلط عليه الجبابرة، فخربوه غير مرة، ومكة رد الله الطغاة عنها.
2 تواردت طرق حديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن السبيل في قوله تعالى: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فقال: "الزاد والرحلة". وهو كذلك.
3 مما يدل على فورية الحج إذا توفرت النفقة وآمن الطريق وزالت الموانع، قوله صلى الله عليه وسلم:" تعجلوا إلى الحج فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له". رواه أحمد. فما دمنا مأمورين بالتعجل كان الفور ألزم والتراخي أبعد. والله أعلم وأعز وأحكم.
4 الإجماع على أن الحج مرة واحدة في العمر لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا، ولو قلت نعم لوجبت" إذ سأل سأئل قائلاً: أفي كل عام يا رسول الله، وذلك لما نزلت: {ولله على الناس حج البيت
…
} . ومما يؤكد فرضيته وهي مؤكدة بخطاب الله تعالى أن عمر رضي الله عنه قال: "من أطاق الحج فلم يحج فسواء عليه مات يهودياً أو نصرانياً" قال ابن كثير اسناده صحيح.