الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
شرح الكلمات:
{لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ} : لأنهم جحدوا الحق، وقالوا كذباً: الله هو المسيح بن مريم.
{الْمَسِيحُ} : لقب لعيسى بن مريم عبد الله ورسوله عليه السلام.
{مَرْيَمَ} : بنت عمران، من صلحاء بني إسرائيل، والدة عيسى عليه السلام.
{يُهْلِكَ} : يميت ويبيد.
{قَدِيرٌ} : قادر على إيجاد وإعدام كل شيء أراد إيجاده أو إعدامه.
الأحباء: واحده: حبيب، كما أن الأبناء واحده: ابن.
{عَلَى فَتْرَةٍ} : الفترة: زمن انقطاع الوحي لعدم إرسال الله تعالى رسولاً.
{بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ} : البشير: المبشر بالخير، والنذير: المنذر من الشر، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر المؤمنين وينذر الكافرين.
معنى الآيات:
ما زال السياق الكريم في الحديث عن أهل الكتاب، ففي الآية الأولى
(17)
أخبر تعالى مؤكداً الخبر بالقسم المحذوف الدالة عليه اللام الواقعة في جواب القسم، فقال:{لَقَدْ كَفَرَ1 الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ2 الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} ووجه كفرهم أنهم جعلوا المخلوف المربوب هو الله الخالق الرب لكل شيء، وهو كفر من أقبح أنواع الكفر، وهذا وإن لم يكن قول أكثر النصارى فإنهم بانتمائهم إلى النصرانية وقولهم بها وانخراطهم في سلك مبادئها وتعاليمها يؤاخذون به، لأن الرضا بالكفر كفر.
1 المراد من ذكر هذا الخبر: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ} هو بيان كفرهم بهذه المقالة، لا أنه تقرير لضلالهم ونقضهم الميثاق.
2 هذا عائد إلى قول بعضهم: إن المسيح لاهوت ناسوت، أي: إله وإنسان. وهو خلط وخبط لا نظير لهما، وأشهر طوائفهم، وهم: اليعقوبية، والملكائية، والنسطورية، ينكرون أن يكون الله هو المسيح، ولكن يقولون: إن عيسى ابن الله، وأنه إله. وهو كذب صراح، وكفر بواح.
وقوله تعالى: {قُلْ فَمَنْ1 يَمْلِكُ مِنَ اللهِ شَيْئاً} يعلم رسوله كيف يتحج على أهل هذا الباطل فيقول له: قل لهم: فمن يملك من الله شيئاً إن أراد أن يهلك المسيح بن مريم وأمه عليهما السلام {وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعاً} ، والجواب قطعاً: لا أحد، إذاً فكيف يكون عبد الله هو الله أو إلهاً مع الله؟ أليس هذا هو الضلال بعينه وذهاب العقول بكماله؟ ثم أخبر تعالى أنه له {مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} خلقاً وتصرفاً، وأنه {يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} خلقه بلا حجر عليه ولا حظر، وهو على كل شيء قدير خلق آدم من تراب بلا أب ولا أم، وخلق حواء من آدم، وخلق عيسى من مريم بلا أب، ويخلق ما يشاء وهو على كل شيء قدير فكون المسيح عليه السلام خلقه بكلمة كن بلا أب لا تستلزم عقلاً ولا شرعاً أن يكون هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث مع الله، كما هي عقيدة أكثر النصارى، والعجب من إصرارهم على هذا الباطل، هذا ما دلت عليه الآية الأولى، أما الآية الثانية (18) فقد تضمنت بيان ضلال اليهود والنصارى معاً، وهو دعواهم أنهم {أَبْنَاءُ الله2وَأَحِبَّاؤُهُ} ، إذ قال تعالى عنهم:{وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ3 أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} وهو تبجح وسفه وضلال، فأمر الله تعالى رسوله أن يرد عليهم بقوله: قل لهم يا رسولنا: {فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ} فهل الأب يعذب أبناءه، والحبيب يعذب محبيه، وأنتم تقولون نعذب في النار أربعين يوماً بسب خطيئة عبادة أسلافهم العجل أربعين يوماً، كما جاء ذلك في قوله تعالى حكاية عنهم:{وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّاماً مَعْدُودَةً} ، والحقيقة أن هذا القول منكم من جملة الترهات والأباطيل التي تعيشون عليها، وأما أنتم فإنكم بشر ممن خلق الله فنسبتكم إليه تعالى نسبة مخلوق إلى خالق، وعبد إلى مالك من آمن منكم وعمل صالحاً غفر له وأكرمه، ومن كفر منكم وعمل سوء عذبه، كما هي سنته في سائر عباده، ولا اعتراض عليه فإن له ملك السموات والأرض وما بينهما وأنتم من جملة مملوكيه، وإليه المصير فسوف ترجعون إليه ويجزيكم بوصفكم إنه حكيم عليم.
هذا ما دلت عليه الآية الثانية، أما الآية الثالثة (19) فقد تضمنت إقامة الحجة على أهل
1 الفاء: للعطف على جملة محذوفة متضمنة كذبهم في قولهم، والتقدير: كل كذبتم فمن يملك
…
إلخ.
2 التعبير بالأبوة والبنوة المنسوبة إلى الله تعالى تفيض بها التوراة والإنجيل، وهو من التحريف الذي حصل لكتابيهم، وأما قول من قال: هذه الأبوة والبنوة كانت تعني التشريف فاغتر بها المتأخرون واعتقدوا حقيقتها. هذا القول فيه مجازفة لا تقبل.
3 قال ابن عباس رضي الله عنهما: "خوف رسول الله صلى الله عليه وسلم قومًا من اليهود في العقاب فقالوا: لا نخاف فإننا أبناء الله وأحباؤه، فنزلت هذه الآية.
الكتاب، فقد ناداهم الرب تبارك وتعالى بقوله:{يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} وأعلمهم أنه قد جاءهم رسوله محمد صلى الله عليه وسلم يبين لهم الطريق المنجي والمسعد في وقت واحد على حين فترة من1 الرسل، إذ انقطع الوحي منذ رفع عيسى إلى السماء وقد مضى على ذلك قرابة خمسمائة وسبعين سنة أرسلنا رسولنا إليكم حتى لا تقولوا معتذرين عن شرككم وكفركم وشركم وفسادكم:{مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ2} فها هو ذا البشير محمد3 صلى الله عليه وسلم قد جاءكم4 فآمنوا به واتبعوه تنجوا وتسعدوا، وإلا؛ فالعذاب لازم لكم، والله على تعذيبكم قدير كما هو على كل شيء قدير.
هداية الآيات
من هداية الآيات:
1-
كفر من ينسب إلى الله تعالى ما هو منزه عنه من سائر النقائص.
2-
بطلان دعوى اليهود والنصارى أنهم أبناء الله وأحباؤه بالدليل العقلي.
3-
نسبة المخلوقات لله تعالى لا تتجاوز كونها مخلوقة له مملوكة يتصرف فيها كما شاء ويحكم فيها بما يريد.
4-
قطع عذر أهل الكتاب بإرسال الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على حين فترة من الرسل.
{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ
1 الفترة: مشتقة من فتر عن عمله، يفتر فتورًا، إذا سكن. والأصل فيها الانقطاع عما كان عليه من الجد عليه. والمراد بها في الشرع: هي انقطاع ما بين الرسولين.
2 {مَن بَشِير ولا نَذِير} من زائدة وزيادتها لغرض المبالغة في نفي المجيء وتنكير بشير ونذير للتقليل، أي: ما جاءنا أقل بشير وأقل نذير.
3 روي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن معاذ بن جبل وسعد بن عبادة وعقبة بن وهب قالوا لليهود: يا معشر يهود اتقوا الله فإنكم والله لتعلمون أن محمدًا رسول الله ولقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه وتصفونه بصفته فقالوا: ما أنزل الله من كتاب بعد موسى ولا أرسل بعد من بشير ولا نذير فنزلت هذه الآية.
4 قوله تعالى: {فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ
…
} الآية. الفاء: هي الفاء الفصيحة، فقد أفصحت عن محذوف ما بعدها يكون علة له، وتقديره هنا: لا تعتذروا فقد جاءكم
…
إلخ.
فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) }
شرح الكلمات:
{نِعْمَةَ1 اللهِ عَلَيْكُمْ} : منها نجاتهم من فرعون وملائه.
{إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ2} : منهم موسى وهارون عليهما السلام.
{وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً} : أي: مالكين أمر أنفسكم بعد الاستعباد الفرعوني لكم.
{الْعَالَمِينَ} : المعاصرين لهم والسابقين لهم.
{الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ} : المطهرة التي فرض الله عليكم دخولها والسكن فيها بعد طرد الكفار منها.
{وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} : أي: ترجعوا منهزمين إلى الوراء.
{قَوْماً جَبَّارِينَ} : عظام الأجسام أقوياء الأبدان يجبرون على طاعتهم من شاءوا.
{يَخَافُونَ} : مخالفة أمر الله تعالى ومعصية رسوله.
{أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا} : أي: بنعمة العصمة حيث لم يفشوا سر ما شاهدوه لما دخلوا أرض الجبارين لكشف أحوال العدو بها، وهما يوشع وكالب من النقباء الاثنى عشر.
معنى الآيات:
ما زال السياق مع أهل الكتاب، وهو هنا في اليهود خاصة، إذ قال الله تعالى لرسوله محمد
1 النعمة: اسم جنس يطلق على الواحد والمتعدد؛ كقوله تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لا تُحْصُوهَا} فهو دال على العدد الذي لا يحصى.
2 أنبياء: جمع نبي، ولم يصرف لأن فيه ألف التأنيث الممدودة.
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واذكر1 {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ} كموسى وهارون عليهما السلام {وَجَعَلَكُمْ مُلُوكاً2} تملكون أنفسكم لا سلطان لأمة عليكم إلا سلطان ربكم عز وجل3 {يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ} للسكن فيها والاستقرار بها فافتحوا باب المدينة وباغتوا العدو فإنكم تغلبون {وَلا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ} أي: ولا ترجعوا إلى الوراء منهزمين فتنقلبوا بذلك خاسرين، لا أمر الله بالجهاد أطعتم، ولا المدينة المقدسة دخلتم وسكنتم، واسمع يا رسولنا جواب القوم ليزول استعظامك بكفرهم بك وهمهم بقتلك، ولتعلم أنهم قوم بهت سفلة لا خير لهم، إذ قالوا في جوابهم لنبيهم موسى عليه السلام:{يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ4 وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ} !! وكان سبب هذه الهزيمة الروحية ما أذاعه النقباء من أخبار مهيلة مخيفة تصف العمالقة الكنعانيين بصفات لا تكاد تتصور في العقول، اللهم إلا اثنين منهم، وهما: يوشع بن نون، وكالب بن يوحنا، وهما اللذان قال تعالى عنهما:{قَالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ} أي: أمر الله تعالى {أَنْعَمَ اللهُ عَلَيهِمَا} فعصمهما من إفشاء سر ما رأوا من قوة الكنعانيين إلا لموسى عليه السلام قالا للقوم: {ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ} أي: باب المدينة {فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ} ، وذلك لعنصر المباغتة، وهو عنصر مهم في الحروب، {وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا} وهاجموا القوم واقتحموا عليهم المدينة {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} بما أوجب الله عليكم من جهاد وكتب لكم من الاستقرار بهذه البلاد والعيش بها، لأنها أرض5 القدس والطهر. هذا ما تضمنته الآيات الأربع، وسنسمع رد اليهود على الرجلين في الآيات التالية.
1 في هذه الآيات تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلاقي من عنت وعناد له بالمدينة، لذا أعلمهم بما لاقى موسى منهم من غلظة وجفاء وتعنت وعناد.
2 روي عن الحسن وزيد ابن أسلم: "أن من كانت له دار وزوجة وخادم فهو ملك". وهو قول عبد الله بن عمرو بن العاص، كما في صحيح مسلم، إذ سأله رجل قائلاً:"ألسنا من فقراء المهاجرين. فقال له عبد الله: ألك امرأة تأوي إليها. قال: نعم. قال: ألك منزل تسكنه؟ قال: نعم. قال: فأنت من الأغنياء. قال: فإن لي خادمًا. قال: فأنت ملك".
3 سقطت هذه الآية من التفسير: {وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} وهو قول موسى لقومه، وما آتاهم منه: المن والسلوى والغمام. وكون الأنبياء في بني إسرائيل في هذا المذكور تبدوا الخصوصية المذكورة في قوله: {مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعَالَمِينَ} .
4 {جَبّارِين} أي: عظام الأجسام طوالها، والجبار من الناس: المتعظم الممتنع من الذل والفقر، أو هو من يجبر الناس على مراده لقوته عليهم وقهره لهم، وذكر القرطبي هنا حديثًا مسهبًا، عن عوج بن عناق، وهو حديث خرافة لما فيه من التهاويل الباطلة.
5 هي أرض فلسطين الواقعة بين البحر الأبيض المتوسط وبين نهر الأردن والبحر الميت، فتنتهي إلى حماة شمالاً وغزة وحرون جنوبًا "نقلاً عن التنوير".