الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(78) بابٌ: فِى الْوُضُوءِ مِنَ اللَّبَنِ
===
فيه: "إن له دسمًا"، فهذا التعليل كما يدل على استحباب الوضوء اللغوي على شرب اللبن لإزالة الدسومة، كذلك يدل على استحباب الوضوء اللغوي من أكل كل ما فيه دسومة من لحم الجزور والبقر والغنم، فكما حمل الأمر بالمضمضة والوضوء على استحباب غسل الفم، كذلك يحمل الأمر بالوضوء على استحبابه، وهذا ظاهر جدًا لمن جعل الإنصاف نصب عينيه والله ولي التوفيق.
وكذلك يدل عليه أنه اجتمع عليه الخلفاء الراشدون والأعلام من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن إجماعهم على ترك الوضوء مما مست النار لا يمكن أن يكون مبنيًا على الجهل عن حكم وجوب الوضوء مما مست النار، بل لا بد أن يكون محمولًا على أن هذا الحكم منسوخ عندهم، أو محمولًا على المعنى اللغوي.
فهذه قرائن تدل بعضها على أن الوضوء مما مست النار محمول على الوضوء اللغوي، وبعضها تدل على أنه محمول على الوضوء الشرعي ومنسوخ.
(78)
(بَابٌ: في الْوُضُوءِ مِن اللَّبَنِ)
المراد بالوضوء ها هنا الوضوء اللغوي لا الاصطلاحي، بأن من شرب لبنًا يستحب له أن يزيل الدسومة من فيه بالماء، وهذا مجمع عليه، ولم أقف (1) على اختلاف فيه.
(1) قلت: لكن ابن أبي شيبة ذكر الآثار ممن قال به، كما في هامش "الكوكب"(1/ 123) وهكذا بوب الترمذي، وقال ابن العربي (1/ 131): مستحب عند العلماء إلَّا أن تكون الرائحة الكريهة غالبة من صناعة أو ملازمة شعث، فتكون إزالتها واجبة، والخروج عن الجماعة لأجلها فرض، كالثوم والبصل يأكلهما المرء. (ش).
196 -
حَدَّثَنَا قُتَيْبَةُ قال: حَدَّثَنَا اللَّيْثُ، عَنْ عَقِيلٍ، عَنِ الزُّهْرِىِّ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ "أَنَّ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم شَرِبَ لَبَنًا فَدَعَا بِمَاءٍ فَتَمَضْمَضَ (1) ثُمَّ قَالَ:
===
196 -
(حدثنا قتيبة)(2) بن سعيد (قال: ثنا الليث) بن سعد، (عن عُقَيل) مصغرًا، ابن خالد بن عَقيل مكبرًا، الأيلي، أبو خالد الأموي، مولى عثمان، وثَّقه أحمد ومحمد بن سعد والنسائي، وقال أبو زرعة: صدوق ثقة، وعن ابن معين: أثبت من روى عن الزهري مالك ثم معمر ثم عقيل، وعن ابن معين: عقيل ثقة حجة، وقال العجلي: أيلي ثقة، وأما أبو حاتم فقال: لم يكن بالحافظ، كان صاحب كتاب، محله الصدق، وقال الوليد: قال لي الماجشون: كان عقيل جلوازًا (3)، وقال عبد الله بن أحمد: ذكر عند أبي أن يحيى بن سعيد قال: عقيل وإبراهيم بن سعد كأنه يضعفهما، وقال: وأي شيء هذا؟ هؤلاء ثقات لم يخبرهما يحيى، مات بمصر سنة 141 هـ.
(عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله) بن عتبة بن مسعود الهذلي، أبو عبد الله المدني، قال الواقدي: كان عالمًا، وكان ثقة فقيهًا كثير الحديث والعلم، شاعرًا وقد عمي، وقال العجلي: كان أعمى، وكان أحد فقهاء المدينة، تابعي، ثقة، رجل صالح، جامع للعلم، وقال أبو زرعة: ثقة مأمون إمام، مات سنة 94 هـ وقيل بعدها.
(عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا فدعا بماء فتمضمض، ثم قال:
(1) وفي نسخة: "فمضمض".
(2)
قال ابن رسلان: اعلم أن حديث قتيبة هذا أحد الأحاديث التي أخرجها الخمسة غير ابن ماجه عن شيخ واحد، وهو قتيية. (ش).
(3)
"الجلواز" بالكسر: الشرطي، ج: الجلاوزة.
"إِنَّ لَهُ دَسَمًا". [خ 211، م 358، ت 89، ن 187، جه 498]
===
إن له دسمًا) الدسم كسبب: الودك، وهذه الجملة أشير بها لعلة المضمضة من اللبن، ووجه المناسبة أنه ربما بقي من آثاره شيء، فتخلل ونزل الجوف في صلاته فأبطلها، أو استمر في فمه فأورثه رائحة كريهة، كذا قال الشارح، وهذا حديث صحيح أخرجه البخاري في "صحيحه" بهذا السند.
قال الحافظ (1): لكن رواه ابن ماجه من طريق الوليد بن مسلم قال: حدثنا الأوزاعي، فذكره بصيغة الأمر:"مضمضوا من اللبن"، كذا رواه الطبراني (2) من طريق آخر عن الليث بالإسناد المذكور، وأخرج ابن ماجه من حديث أم سلمة وسهل بن سعد مثله، وإسناد كل منهما حسن.
قال العيني (3): وبعد، فليس في مضمضته صلى الله عليه وسلم وجوب مضمضة ولا وضوء على من شربه إذا كانت أفعاله غير لازمة العمل بها لأمته، إذا لم تكن بيانًا عن حكم فرض في التنزيل. وقال صاحب "التلويح": فيه نظر.
قلت: حاصل النظر أن الأحاديث التي أخرجها ابن ماجَه وغيره بصيغة الأمر تدل على الوجوب، قلت: ولكن الحديث الذي رواه أبو داود بسند لا بأس به إلى أنس بن مالك "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا فلم يمضمض ولم يتوضأ وصلَّى" يدل على نسخ المضمضة.
قال العيني: والصواب في هذا أن الأحاديث التي فيها الأمر بالمضمضة أمر استحباب لا وجوب، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود المذكور آنفًا، وما رواه الشافعي رحمه الله بإسناد حسن عن أنس
(1)"فتح الباري"(1/ 392).
(2)
في "فتح الباري": "الطبري"، وهو تصحيف.
(3)
"عمدة القاري"(2/ 583).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
===
"أن النبي صلى الله عليه وسلم شرب لبنًا فلم يتمضمض ولم يتوضأ"، فإن قلت: ادَّعى ابن شاهين أن حديث أنس ناسخ لحديث ابن عبّاس، قلت: لم يقل به أحد، ومن قال فيه بالوجوب حتى يحتاج إلى دعوى النسخ، كذا في "العيني"، وكذلك قال الحافظ في "الفتح".
قلت: وبالجملة فلم يقل أحد (1) بوجوب المضمضة والوضوء الاصطلاحي بشرب اللبن، سواء كان مطبوخًا، أو غير مطبوخ، نعم بقي ها هنا أن ما أخرج ابن ماجه بسنده عن أسيد بن حضير، وفيه:" توضؤوا من ألبان الإبل"، وأيضًا من حديث عبد الله بن عمرو، وفيه:"توضؤوا من ألبان الإبل"، يدل على وجوب الوضوء الاصطلاحي من ألبان الإبل، فإن الحديثين وإن كان في بعض رواتهما مقال، ولكنهما لما تأيد كل واحد منهما بالآخر صارا حجة ودليلًا على الوجوب، فإن صيغة الأمر للوجوب، والوضوء لفظ يجب أن يحمل على الحقيقة الشرعية.
فإن قيل: إن الأحاديث التي رويت في باب الوضوء من اللبن قرينة صارفة عن أن يحمل الأمر على الوجوب، وقد حمل الأمر بالمضمضة على الاستحباب فيها، فكذلك يحمل ها هنا الأمر بالوضوء على الاستحباب دون الوجوب، فإن ألبان الإبل فرد من أفراد جنس اللبن.
قلنا: لا نسلم ذلك، فإن وجوب الوضوء بألبان الإبل حكم، والمضمضة من اللبن حكم آخر غير ذلك الحكم، فمحال أن يكون هذا قرينة على ذاك، فيمكن أن يكون حكم المضمضة أولًا، ثم أمروا بالوضوء بعد ذلك بشرب ألبان الإبل، بل الأولى في الجواب، أن يقال: إن إجماع
(1) قلت: إلَّا أن في إحدى الروايتين عن أحمد نقض الوضوء بألبان الإبل، كما في "المغني"(1/ 254). (ش).