الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ال
مقدمة
هذه طبعة ثانية، منقحة ومعدلة، من كتابي "تاريخ العرب القديم" وهو مؤلف حرصت جهدي واستطاعتي كي يفي بحاجة المثقفين من أبناء أمتي إلى معرفة تاريخ أمتنا على الوجه اليسير، فتجنبت الإطالة بما يبعث الملل من جهة، وبذلت جهدي في عرض الأحداث بشكلها العلمي الذي يلتزم التدقيق والتمحيص من جهة أخرى، معتمدًا على مصادر علمية جديرة بالثقة يراها القارئ في الحواشي وفي ثبت المصادر، الأمر الذي يعيق إلى حد ما عملية التبسيط التي يتوخاها القراء عادة.
الحق إن التأريخ لشبه جزيرة العرب، وللمدنيات العربية التي تاخمتها في الشمال قبل الإسلام، لهو من الصعوبة بمكان من حيث إمكان تبسيطه؛ لأن البحث العلمي فيه يقتضي عرض وجهات نظر العلماء على مختلف وجوهها. وقد تباينت وجهات نظرهم، في الواقع، تباينًا عظيمًا لقلة ما بين أيديهم من نصوص ومستندات، إن كانت قد حملت بعض التواريخ، فإنها لا تعتمد على تقاويم ثابتة بل متحركة متبدلة حسب تعاقب الأحداث بل الملوك، ولوجود ثغرات كثيرة تتخلل الفترات التي عرف شيء منها في تاريخ هذه المنطقة؛ ولذا غلب التخمين واللجوء إلى الفرضيات على ما قرره العلماء -لا سيما فيما يختص بتواريخ قيام الدول وانقراضها- ولم يكن لنا بد، تجنبا للوقوع في المزالق والانحراف عن نطاق العلمية، من عرض ما لا غنى عن عرضه من شتى وجهات النظر، وإبراز نقاط الاختلاف مهما يكن أمرها، سواء كان لها نصيب من الصحة أو كانت في نطاق الفرضيات، فقد تصبح في المستقبل مسلمات علمية إذا كشفت التنقيبات الأثرية عن نصوص ومستندات يمكن الوثوق بصحتها. عندئذٍ يكون في استطاعة العلماء أن يتبسطوا في كتابة تاريخنا القديم، ويكونوا على ثقة مما يعرضون منه علينا. والواقع أنهم مهتمون بذلك شديد الاهتمام، ولاهتمامهم هذا مبرر ولا شك: فلتاريخ العرب أهمية عظيمة في نظر
الباحثين والمؤرخين على اختلاف جنسياتهم ومواطنهم. ويرجع ذلك إلى أسباب كثيرة أهمها:
أولًا: أن العالم العربي -وأخص بالذكر منه قسمه الآسيوي الذي هو موضوع هذا الكتاب- يحتل موقعا جغرافيا فريدا في ميزاته؛ وذلك بتوسطه قارات ثلاث: آسيا التي يقع في الزاوية الغربية - الجنوبية منها، وإفريقيا التي تحاذيه غربًا، وأوروبا التي تتصل به بواسطة الزاوية الجنوبية الشرقية منها عبر الزاوية الشمالية الشرقية من البحر الأبيض المتوسط. فالعالم العربي الآسيوي من العالم القديم بمثابة القلب النابض، كما هو أشبه بجسر يصل جميع هذه القارات بعضها ببعض. وهو -بوصفه محاطًا ببحار وخلجان من جهاته الثلاث الغربية والجنوبية والشرقية- من أفضل المناطق في العالم للنشاط التجاري بفضل تمتعه بميزات من شأنها أن تيسر المواصلات البرية العالمية ولا سيما البحرية، ذلك أنه لا بد لخطوط الملاحة العالمية أن تخترق البحار التي يطل عليها كمسالك تجارية تسلكها بصورة اضطرارية.
ثانيًا: أن الجزيرة العربية، التي تعتبر المهد الأصلي للشعوب السامية والمصدر الملهم للروح السامية التي انبثقت عنها جميع الأديان السماوية التوحيدية، قد شهدت -منذ أكثر من خمسة عشر قرنًا قبل الإسلام، ولا سيما في المناطق الجنوبية منها- انبثاق حضارة غنية بتراثها السياسي والحضاري والاجتماعي، الأمر الذي جعلها موضوع فيض من الدراسات قام بها علماء الآثار والتاريخ منذ أواخر القرن الثامن عشر وحتى الآن.
على أن عرب الشمال أيضًا، قبيل الرسالة الإسلامية، قد بلغوا في تطورهم العقلي درجة من التقدم النسبي والاستعداد الفكري كانت كفيلة بجعل الدين الإسلامي -بما جاء به من نظم انقلابية ثورية- ينفذ إلى قلوبهم ويستهوي نفوسهم، كما جعلت قيام نظام اجتماعي يجمع أشتاتهم في دولة واحدة أمرًا محتما.
ثالثًا: أن الأمة العربية التي لم يكن لها من حوافز الوحدة السياسية، قبل الإسلام، ما يؤهلها لأن تشكل دولة منظمة موحدة، تأخذ مكانها بين الدول القوية المجاورة لها، قد ارتفعت بفضل الإسلام، وما جاء به من حوافز فكرية وعقائد دينية واجتماعية، إلى مصاف هذه الدول، بل استطاعت أن تقوض أركان هذه الدول، وتبني
على أنقاضها إمبراطورية عربية إسلامية مترامية الأطراف. فظهور الإسلام وانتشاره في شتى أرجاء العالم المعمور حادث كبير في التاريخ؛ إذ بفضله انتقل العرب من دور البداوة إلى دور الحضارة، واستعادوا ما كان لهم من دور حضاري وثقافي مرموق في الجنوب العربي، بعد أن تباعدت الشقة بينهم وبينه عبر القرون، وبدأ العرب بوجه عام يسهمون إسهامًا عظيمًا في خدمة الثقافة والعمران والتقدم البشري، ولعبوا دورًا مهمًّا في تنمية العلوم الطبيعية والاجتماعية، وكان لهم الفضل الأكبر في قيام النهضة الأوروبية اعتبارًا من القرن الخامس عشر؛ فكانت حضارة العرب بمثابة النسغ الذي استمدت حضارة الغرب الأوروبي منه مقومات كيانها.
رابعًا: والعالم العربي الآسيوي كان ولا يزال -بسبب موقعه الجغرافي وما تتميز به أراضيه من خصب وما تنتج من محاصيل وفيرة - محطَّ أنظار الفاتحين منذ أقدم العصور، وقبلة الطامعين بخيره الجزيل وغناه العظيم. والجزيرة العربية منه بوجه خاص -نظرًا لما تحتل من موقع جغرافي خاص باعتبارها الطريق المؤدي إلى الشرق الأقصى الغني بموارده، وبسبب احتواء طبقاتها الجوفية على بحر من الذهب الأسود تطفو فوقه- قد ازدادت أهميتها في العصر الحديث، لا سيما في نظر الدول الإمبريالية التي دفعها التهافت على اقتناص هذه الثروة الهائلة إلى الاستماتة في سبيل استعمارها، فوقعت أجزاؤها الجنوبية والشرقية لمدة طويلة فريسة للمطامع الاستعمارية الجشعة، ولا تزال مختلف أجزائها تعاني عقابيل السياسة الاستعمارية التي لا تزال تسعى جاهدة إلى إعاقة التطور العربي الصاعد لتبقى فريسة للجهل والتخلف، ولتظل لقمة سائغة في أفواه الطامعين.