الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع: أنساب العرب وطبقاتهم
أصل ومدلول كلمة عرب:
قبل أن أتصدى للبحث في طبقات العرب وأنسابهم لا بد لي من محاولة لاستقصاء سبب التسمية. لا ريب أن كلمة "عرب" واضحة المدلول لدينا نحن أبناء هذه الأمة، فقد ألفناها وعشنا معها عشرات القرون، فأصبحت جزءًا من مداركنا البديهية. لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا في هذه الدراسة فيدفعنا إلى إمعان الفكر فيها هو: كيف؟ ومتى نشأت هذه التسمية؟ وما هو أصلها؟ وهل حافظت على مدلولها الأصلي؟ أم خضعت لبعض التطورات خلال العصور المتعاقبة؟.
لقد استقصى المستشرقون تاريخ الكلمة وتتبعوا معناها في اللغات السامية، وتلمسوا شتى المراحل التي مَرَّ فيها مدلولها، فوجدوا أن أقدم نص وردت فيه كلمة "عرب" هو نص آشوري يعود إلى الملك الآشوري "سلمنصر الثالث" الذي خاض في عام 853 ق. م. غمار معركة دامية في "قرقر" شمال حماة، ضد ملك دمشق الآرامي "بنحدد" الذي هاجمه مع حلفاء عديدين بينهم "جندب" أو "جنديبو" أحد مشايخ العرب، فهزمهم "سلمنصر" وخلد عمله على نصب تذكاري جاء في النص المنقوش عليه: "قرقر عاصمته الملكية أنا خربتها، أنا دمرتها، أنا أحرقتها بالنار،
…
عشرون ألف جندي لحدد عازر "بنحدد" صاحب آرام "دمشق"، ألف جمل لجندب "العربي1 Al - Urbi
…
إلخ" ويعدد النص أسماء 12 ملكًا تألبوا عليه وبرزوا له في المعركة2.
1 بما أن النصوص الآشورية لم تكن تحرك المقاطع فقد صعب على العلماء ضبط كيفية النطق بهذه الكلمة "هل تكون Arub، Aribi، Arabi، Urbi، Arbi؟.
2 فيليب حتي: تاريخ العرب مطول، 1/ 45؛ تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، 1/ 179.
لكن الذي قرره الباحثون أن كلمة "عُرْبي" التي وردت في هذا النص لم تكن تعني عند الآشوريين ما تعنيه اليوم عندنا، لا بل إن المقصود منها مشيخة في البادية المتاخمة للآشوريين يحكمها شيخ عربي يسمى "جنديبو"، لا تعريف شامل للعرب1.
وقبل المضي في البحث لا بد من الإشارة إلى بعض الاجتهادات التي تعتمد على تفاسير يمت بعضها إلى البحوث اللغوية "الفيلولوجية" بصلة، ومنها قول للدكتور عمر فروخ أن من الأمم ما كانت تسمى بما يطلق عليها جيرانها من أسماء، وأن سكان بلاد الرافدين "الآشوريون والبابليون" قد أطلقوا على أقاربهم الساميين وجيرانهم القاطنين في جهة الغرب والجنوب الغربي منهم اسم "أريبي". وبعد تفسيرات لغوية معقدة، ينتهي الدكتور فروخ إلى كون الكلمة تتناول معانيَ تتصل بجهة "الغرب""مقابل الشرق"، وأن كلمة غرب قد انتقلت من بلاد الرافدين وخضعت في طريق هجرتها إلى تغير في حرف "غ" فانقلب إلى "ع" -كما كان من شأن العرب أحيانا في قلب بعض الحروف في الكلمات- فتطورت إلى ألفاظ مثل عُرْبي، أرْبي2.
وغني عن القول أن مثل هذه الاجتهادات يصعب الأخذ بها لعدم كفاية الأدلة التاريخية التي استندت إليها. ولا بد لي من العودة إذن إلى تتبع البحوث التي تدور حول النصوص التاريخية التي خلفتها لنا مختلف الشعوب ذات الصلة بالعرب. فقد ورد في كتابة بابلية قديمة وصلت إلينا جملة "ماتو آرابي Matu - A - Ra - Bi" بمعنى: أرض العرب. وكذلك ورد ذكر للعرب وبلادهم بما لا يتعدى هذا اللفظ في كتابات أتتنا من ملوك فارس مثل "أربايه Arpaya أو Arabaya" وتعني: بلاد العرب. وقد دلت الدراسات التي دارت حول هذه النصوص، ولا سيما البابلية منها، على أن المقصود من الكلمات الواردة فيها -بما يتعلق بالعرب- أراضٍ تشمل البوادي الفاصلة بين العراق وبلاد الشام وبين مصر، بما في ذلك شبه جزيرة سيناء. فهل لكلمة "عرب" صلة بمفهوم البادية؟
إن مثل هذه الفرضية أقرب إلى الفهم، ندرك ذلك إذا تتبعنا مدلول الكلمة في شتى النصوص التي خلفها العبرانيون. ولفظة Arab في العبرانية تعني: البداوة، البدو،
1 الدكتور جواد علي: 1/ 169.
2 عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص30-32.
الأعراب، البادية، سكان البادية. وقد استعملوها في نصوصهم الأولى التي تعود إلى القرن الثامن قبل ميلاد المسيح وما قبله للدلالة على هذه المعاني، لا بكونها دليلًا على قومية أصحابها الذين ذكرتهم. ففي سفر أشعيا نقرأ:"ولا يخيم هناك أعرابي" وكذلك "وحي من جهات بلاد العرب، في الوعر، في بلاد العرب تبيتين يا قوافل الدادانيين". فالمقصود من الآية الأخيرة "العزلة والوحشة والبداوة". والعبرانيون قد أطلقوا في الواقع لفظة "عرابة" -وهي تعني في الأصل الجفاف وحافة الصحراء، وكلها ذات علاقة بالبداوة- مسبوقة بأل التعريف "ها""Ha - Arabah" للدلالة على سكان من وادي "العربة" الممتد بين البحر الميت وخليج العقبة، وكانت تقيم فيه قبائل بدوية شملتها تسمية "عرب"1.
كما أننا نلاحظ في النصوص القديمة عند العبرانيين أن مدلول كلمة "عرب" قد تطور عندهم مع الزمن فأصبحوا -حوالي القرن الثالث قبل الميلاد- يطلقونها على سكان شبه الجزيرة العربية كافةً، بدوهم وحضرهم على السواء.
والتطور الذي حدث بالنسبة لموقف العبرانيين نلمسه نفسه عند العرب القدماء، عرب ما قبل الإسلام، إذ لم يكونوا يطلقون هذه التسمية على أنفسهم للدلالة على قوميتهم -كمفهوم مجرد نحن اليوم نتبناه ونعتنقه- وليس لنا أن نتوخى ذلك عند أجدادنا الأوائل؛ لأنهم كانوا غارقين في منازعاتهم القبلية، ولم يفطنوا إلى الجامعة القومية التي تستطيع جمعهم في أمة واحدة، لأن مقومات هذه القومية لم تكن قد استتمت جميع عناصرها. فإذا وحدتهم اللغة ووحدتهم الأرض المشتركة، فإنهم قد افتقروا إلى الحوافز الفكرية والمصالح المشتركة، لا سيما وأن مصالح مختلف القبائل كانت تدعو -في أغلب الأحيان- إلى النزاع لا إلى التجمع، والمفهوم القومي في الواقع مدرك حديث يغذيه الوعي الاجتماعي والسمو الفكري.
1 د. جواد علي: 1/ 172-173: وقد أبانت بعض المعاجم العربية القديمة أن العرب كانوا يعرفون جزيرتهم باسم "عربة" الذي يشمل شبه الجزيرة بعامة أو سهل تهامة بخاصة، وأن اسم العرب مشتق من اسمها: فقد جاء في لسان العرب المحيط لابن منظور: "اختلف الناس في العرب لِمَ سموا عربًا؟ فقال بعضهم: أول من أنطق الله لسانه بلغة العرب يعرب بن قحطان، فنشأ نسله على هذه اللغة، قال الأزهري: والأقرب عندي أنهم سموا عربًا باسم بلدهم العربات، وقال إسحاق بن الفرج: عربة باحة العرب وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم وقال: وأقامت قريش بعربة فتنخت بها، وانتشرت سائر العرب في جزيرتها فنسبوا كلهم إلى عربة""راجع في لسان العرب لابن منظور كلمتي عرب وعرابة".
وإذا تتبعنا النقوش الكتابية في الجنوب العربي نشاهد أنهم لم يستعملوا التسمية، في بادئ أمرهم، للدلالة على البدو والحضر منهم، أي: للدلالة على قوميتهم، بل استعملوها بمعنى أعراب كقولهم:"أعرب ملك حضرموت، أعرب ملك سبأ"، أي: أعراب ملك حضرموت، أعراب ملك سبأ. أما أهل الحضر منهم فكانوا يعرفون بنسبتهم إلى مدنهم أو قبائلهم التي كانت في الغالب مستقرة تعيش على التجارة والزراعة، كقولنا اليوم "سوريون، عراقيون". وفي القرآن الكريم من الآيات ما يؤيد ذلك: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقا} ، {وَمِنَ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِر} 1.
أما إذا تتبعنا النصوص العربية الشمالية فإننا نجد أن أقدمها نص "نقش النمارة" الذي ينسب إلى امرئ القيس بن عمرو، وهو يعود إلى القرن الرابع الميلادي، ويحمل العبارة التالية: "امرؤ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي حاز التاج، وملك الأسدين ونزارًا وملوكهم وهزم مذحجًا
…
إلخ". وبالرغم مما لهذا النص من أهمية عظيمة لذكره العرب تعميما وشمولا، فإن بعض الباحثين يشكون في أن التسمية فيه قد استعملت للدلالة على العرب عمومًا، بل يعتقدون أنه قد قصد بها الأعراب.
خلاصة القول: لا يُستطاع الجزم في تعيين الزمن الذي استعمل فيه العرب أنفسهم -بدوهم وحضرهم- هذه الكلمة علمًا لهم يدل على قوميتهم المتميزة عن قومية غيرهم؛ لعدم وجود ما يثبت ذلك من النصوص الموثوق بصحتها وبصحة مدلولها، كما لا يمكن الجزم، على وجه الدقة والتحقيق، من أين جاءت كلمة "عرب"، وإن كان اشتقاقها من كلمة "أعراب""بدو" أقرب إلى المعقول، بدليل ما أوردت من خلاصة أبحاث المستشرقين.
على أن القرآن الكريم هو النص الوحيد الذي أعطى هذه التسمية مدلولها القومي الواضح، وهو نص لا يرقى إليه الشك؛ ولذلك اعتقد بعضهم ومنهم المستشرق "موللر" أن الرسول صلى الله عليه وسلم هو أول من خصَّص الكلمة، وجعلها علمًا لقومية سكان شبه الجزيرة العربية، بدليل ما ورد في القرآن الكريم من آيات؛ عشر منها جاءت فيها لفظة "عربية" نعتًا للغة القرآن الكريم بأنها لغة واضحة وبينة2، ووردت مرة واحدة نعتًا
1 التوبة: 97، 99.
2 عمر فروخ: المصدر السابق، ص32.