الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
-على أغلب الظن- قد أكثرت منها لإرضاء كل بطونها؛ تحقيقًا لمبدأ الحكم الجماعي، وخوفًا من التحاسد، وإجلالًا للكعبة والمبالغة في تعظيمها1.
راجع شجرة نسب قريش في ملاحق الكتاب.
1 راجع عن هذه المناصب:
جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 1/ 37-39.
الفاسي: شفاء الغرام في أخبار البلد الحرام: 2/ 86-91.
أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص115-121.
يثرب:
ومن مدن الحجاز المهمة مدينة "يثرب" الواقعة على سهل مرتفع، وعلى بعد يقارب 500كم شمال مكة. وفي الشمال منها يقع جبل أحد ثم جبل سلع، بينما يقع في جنوبها الغربي جبل عير. وإلى الغرب منها تنحدر الأرض انحدارًا سريعًا نحو ساحل البحر الأحمر الذي يبعد عنها أكثر من بعده عن مكة. وفي جنوبها الغربي يمتد وادي العقيق فيما بينها وبين الفُرع. والفُرع من المدينة على أربعة أيام جنوبها كما يقول ياقوت الحموي. وفي العقيق آبار هي أعذب ما في تلك الديار من مياه1، وتحيط بالمدينة لابتان بركانيتان تعرفان بالحرتين، حرة واقم في الشرق، وحرة الوبرة في الغرب. ولذا فإن التربة البركانية تنتشر في أطرافها، وتجعل منها أراضيَ خصبة صالحة للزراعة2، لا سيما وأن أراضيها تتصل بوديان كثيرة تحيط بالمدينة من جهاتها الأربع، الأمر الذي يجعل منها واحة تتسرب إليها المياه السطحية الجوفية، ويؤدي اجتماعها في الأمكنة المنخفضة إلى تكوين المستنقعات، وإلى تكاثر الحميات المرزغية3. غير أن توفر المياه، وخصب تربتها قد ساعداها على الزراعة، وعلى قيام نوع من حياة الاستقرار فيها، لا سيما وأنها من المحطات التجارية التي كانت القوافل تقضي بعض الوقت فيها.
كان اسمها القديم "يثرب" وقد عرفت به في الكتابات المعينية القديمة، وهذا دليل على قدمها، كما هو دليل على أن علاقات ما كانت تربطها بالدولة المعينية، وربما كانت
1 ياقوت الحموي - مادة يثرب.
2 Henri Passe: L Islam. P. 8.
3 E. Dermeughem: Ibid. P. 24.
من مستعمرات الدولة، وقد تكون سكنتها جاليات معينية ثم سبئية. وقد عرفت أيضًا باسم "مدينتا" -وهي كلمة تعني الحمى، أي: المدينة- وعلى رأي المستشرقين أن اليهود المتأثرين بالثقافة الآرامية، أو متهودة بني إرم هم الذين أطلقوا عليها هذا الاسم1. ومما جاء في بعض المصادر العربية أن لها أحد عشر اسمًا في التوراة منها: المدينة وطيبة وطابة والعذراء، وأن في صحيح مسلم حديثا عن الرسول:" إن الله تعالى سمى المدينة طابة " أو في حديث آخر له في الصحيحين: "هي المدينة يثرب"2. واسمها يثرب ورد في القرآن الكريم3، وهو الاسم الذي كانت تعرف به قبل ظهور الإسلام، وقد سماها بعض المؤرخين القدامى "أم قرى المدينة".
أما تاريخ يثرب، فإن الغموض يكتنفه من جميع جوانبه، ولا يستطيع المؤرخ أن يثق بما أورده المؤرخون العرب عن تاريخها فيما قبل القرن الأول الذي سبق ظهور الإسلام، بينما يمكن تتبع أخبارها منذ بداية القرن السادس الميلادي؛ لقرب هذه الفترة من حوادث السيرة النبوية. وأول ما تذكره الروايات القديمة أنها واحة، كان العمالقة أول من سكنوها، ثم تغلبت عليها بعض القبائل اليهودية واستقرت إلى جانبهم.
والمعلومات عن هجرة اليهود إلى يثرب غامضة. وفي الكتب العربية روايات عنها هي أقرب إلى الأساطير والخرافات. تقول بعض الروايات: إن موسى لما أظهره الله على فرعون وطئ الشام وأهلك من بها، وبعث بعثا من اليهود إلى الحجاز وأمرهم بألا يستبقوا من العماليق أحدا بلغ الحلم، فقدموا عليهم فقتلوهم مع ملكهم4. غير أن هذه القصة لا يعرفها اليهود أنفسهم، كما يقول ابن خلدون، وهي لا تعدو كونها من الأساطير التي اعتاد أخباريو العرب على تلفيقها، وقد رفض الأخذ بها المؤرخ الإسرائيلي الحديث "إسرائيل ولفنسون".
1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص290.
2 الشيخ محمد بن محمود النجار: الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، ص323.
3 الآية "13" من سورة الأحزاب: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُم} .
4 الشيخ محمد بن محمود النجار: الدرة الثمينة في تاريخ المدينة، ص323، ياقوت الحموي مادة يثرب.
والواقع أنه ليس ثمة من دليل تاريخي على قدوم اليهود إلى بلاد العرب قبل القرن الأول الميلادي. وربما يكون مجيئهم إلى شمالي الحجاز وقت أن نكل بهم الرومان في عام 70، عندما قاموا بثورة ضدهم، وبعد أن سيطرت روما على الشرق العربي قبيل منتصف القرن الأول قبل الميلاد. وعلى كل حال وجد منهم في يثرب قبائل يهودية عرفت أخبارها وعلاقاتها مع عرب المدينة في القرن الأول الذي سبق ظهور الإسلام. وهي قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة.
ويشك بعض المؤرخين في كون القبائل اليهودية في يثرب يهودية الأصل حقًّا، أو في أنها جاءت من خارج الجزيرة العربية، فاليعقوبي يقول عن بني النضير بمناسبة الوقعة التي أوقعها بهم النبي:"ثم كانت وقعة بني النضير وهم فخذ من بني جذام، إلا أنهم تهودوا ونزلوا بجبل يقال له: النضير فسموا به"1، وكذلك كان رأيه في بني قريظة؛ غير أن الذي عليه عامة المؤرخين، أنهم قدموا من خارج الجزيرة العربية، وأنهم يهود في الأصل، وأن أسماءهم وإن كانت عربية، إلا أن أسماء آبائهم وجدودهم عبرية، وأن الرطانة العبرية كانت تبدو على لسانهم عندما كانوا يتكلمون العربية، كما أن النسابين العرب لم يذكروا أية قبيلة من قبائل اليهود في المدينة أو في غيرها ضمن الأنساب العربية، ولم يحاول اليهود أن يفعلوا ذلك أيضا، لا بل كانوا يحرصون على نسبة أنفسهم إلى الإسرائيليين2.
نزل اليهود يثرب، وقد أتوا إليها -على أغلب الظن- متفرقين خلال فترات متفاوتة. لكنهم تكاثروا فيما بعد في غربيها وجنوبيها، وعلى الطريق المؤدية منها إلى الشام. وأما القبائل التي سكنتها منهم فهي قبائل بني قينقاع وبني النضير وبني قريظة، وقد قدر عدد رجالها البالغين بحوالي ألفين، بينما ذكر بعض المؤرخين أن أكثر من عشرين بطنًا آخرين، كانوا يسكنون في جوارها، أو في جوار القبائل العربية في يثرب. وقد ذكروا بعض أسماء هذه القبائل، ومنها بنو محمحم، وبنو زعورا وبنو ثعلبة وغيرهم
…
والمعتقد أنها بعض بطون من القبائل اليهودية الأخرى سكنت في ضواحي المدينة، وفي القرى القريبة منها.
1 اليعقوبي: 2/ 36.
2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص301.
وقد احتك اليهود بالعرب المقيمين في المدينة، وتحدثوا باللغة العربية، وقال بعضهم الشعر بها، وتسموا بالأسماء العربية، وتأثروا بنظم العرب الاجتماعية وبتقاليدهم وعاداتهم، أو بالأحرى اندمجوا فيها اندماجًا ظاهريًّا، غير أنهم قد انعزلوا عنهم في سكناهم، وعاش بعضهم مع بعض عيشة التكتل، لهم أحياؤهم الخاصة، لا يساكنون فيها غيرهم، جريا على عوائدهم، وابتنوا لأنفسهم "آطامًا""حصونًا" وقلاعًا، وقرى محصنة في مرتفعات يثرب، وعلى قمم التلال المجاورة لها، أو في القرى المنتشرة على الطريق المؤدية إلى الشام، وأخصها بالذكر خيبر وفدك وتيماء، نقلوا فكرة بنائها من فلسطين، الأمر الذي يدل على أن علاقاتهم مع العرب لم تكن هادئة مستقرة، وأنهم لم يطمئنوا إلى العرب كل الطمأنينة، بل كانت تقع بين الطرفين بعض الحوادث التي كانت تضطرهم إلى إقامتها، للاحتماء فيها إذا داهمهم مهاجم.
لم تكن الحواضر العربية -عندما قدم اليهود إليها- خالية من السكان، كما يدعي المؤرخ اليهودي إسرائيل ولنفسون، إنما كانت يثرب وبقية المراكز الواقعة في شمالها مأهولة بقبائل وبطون عربية كان لبعضها شأن كقبيلة غطفان التي اضطر يهود خيبر لمحالفتها للاحتماء بها، كما ساكن اليهود في يثرب بطونا عربية من اليمن، ومن بلي وسليم وغسان1.
غير أن اليهود الذين ازداد تقاطرهم، ما لبثوا أن أصبحوا مع الزمن أكثرية سكان يثرب، فانفردوا في شئونها، إذ لم تكن البطون العربية القليلة فيها على شيء من القوة، فعايشت اليهود الذين كانوا آنئذٍ أصحاب الثروة والنفوذ، وخضعت لهم وأدت لهم الخراج كما قال قائلها:
نؤدي الخرج بعد خراج كسرى
…
وخرج بني قريظة والنضير2
وليس معنى ذلك أن اليهود عندما قدموا إلى يثرب قد استقروا فيها دون مقاومة، بل إن المقاومة الشديدة التي صادفوها من سكانها الأصليين قد حملتهم -بعد أن سيطروا
1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص308، 320-321؛ الشيخ محمد محمود النجار: المصدر نفسه، ص325.
2 ياقوت الحموي - مادة يثرب.
عليها- إلى بناء الآطام والقلاع؛ ليحتموا فيها منهم. ثم بدءوا في استثمار الأراضي الخصبة في الزراعة.
كان لليهود أثر اقتصادي مهم في يثرب، بإقامتهم الضياع في المنطقة المحيطة بيثرب وكانت ملائمة للزراعة، لخصب أراضيها، وتوفر المياه فيها، وقد اتسعت مراكز سكناهم على مناطق واسعة، وصلت حتى تبوك المجاورة لحدود بلاد الشام. وليس معنى ذلك أن العرب لم يعرفوا الزراعة قبلهم، فقد ذكر ياقوت الحموي أن أول من زرع بالمدينة، واتخذ بها النخل، وعمر الدور والآطام، واتخذ بها الضياع العماليق.
وقد مارس اليهود مختلف الصناعات، كالصياغة وصناعة الأسلحة، والاهتمام بالتجارة، وسيطروا بذلك على زمام الأمور الاقتصادية في المدينة، لا سيما وأنهم قد امتهنوا الصيرفة والإقراض بالفائدة الفاحشة "الربا" وأثروا إثراء عظيما، وكثر عددهم حتى غلبوا على يثرب جنسيًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا.
وما زال هذا شأنهم، حتى قدمت إلى يثرب قبائل عربية هجرت الجنوب اليمني لأسباب اقتصادية سيئة، من تدني مستوى النشاط الزراعي والتجاري، ولأسباب سياسية من تنازع أقيال اليمن بعضهم مع بعض، ومن إلحاح الأحباش على غزو اليمن، وكانت هجرتهم إلى الحجاز بعامة، وإلى المدينة بخاصة متقطعة. وأشهر هذه القبائل الأوس والخزرج من الأزد، وينسبها النسابون إلى عمرو مزيقياء بن عامر ماء السماء، فهم وغساسنة الشام أبناء عم، وربما قدموا معا من اليمن، وتفرقت كل فئة منهم في جهة. ومن الصعب تحديد الفترة التي جرت فيها هذه الهجرة، فقد تكون -بحسب استنتاجات المؤرخين المحدثين- في أواخر القن الرابع الميلادي.
وقد قامت بين العرب القادمين وبين اليهود علاقات طيبة في أول الأمر، إذ لم يكن عدد القادمين مما يخيف اليهود، ووجد العرب أن الأموال والآطام والعدد والقوة بيد اليهود، فقنعوا مضطرين بسماح اليهود لهم بمجاورتهم. كما فكر اليهود بالاستفادة من خبرة العرب بالزراعة -وأصلهم من اليمن المعروف بزراعته النشيطة- فاتخذوا منهم عمالًا ومساعدين لهم في أعمالهم الزراعية1. لا بل عقد الطرفان فيما بينهم حلف جوار يأمن به
1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص324-325.
بعضهم من بعض1، فأتاح هذا الحلف للعرب أن يتعاملوا مع اليهود، وأن يعملوا معهم جنبًا لجنب في الزراعة والتجارة؛ فأثروا وازداد عددهم، وراحوا ينظمون أنفسهم، فلم يلبث اليهود أن نقضوا العهد الذي يربطهم بهم، إذ رأوا فيهم خطرًا يهدد مصالحهم ومستقبلهم، وخافوا أن تزداد قوة العرب، ويشتد ساعدهم، فيهددوا نفوذ اليهود، فأخذوا للأمر عدته، وعادوا إلى سلوك سياسة الاستبداد وناوءوا الأوس والخزرج، وحاولوا تقليم أظافرهم.
عندئذٍ ظهرت الفتن والعداوات بين الطرفين، ولما أدرك العرب أن لا قِبَلَ لهم بمجابهة اليهود، إذ كانوا أكثر عددًا وأقوى استعدادًا، أقاموا في منازلهم، وخافوا أن يجليهم اليهود عن المدينة، ثم اتصلوا بأبناء عمهم الغساسنة في الشام -وكان زعيم العرب في يثرب آنذاك مالك بن العجلان من الخزرج- فأتاهم أمير من غسان يسمى "أبو جبيلة" بقوة كبيرة، فأعمل الحيلة في استدراج زعماء اليهود، وفتك بهم كما تقول الرواية العربية، فضعف بذلك نفوذ اليهود، وتقلص عن الحياة السياسية والاجتماعية في يثرب، ليقوى نفوذ الأوس والخزرج بالمقابل، وزاد عدد الآطام التي ابتنوها، حتى أصبح لبطن واحد فقط منهم 19 أطمًا، بينما كان لليهود ما يقارب 59 أطمًا.
غير أن اليهود بدءوا من ذلك الحين يحاربون القبيلتين حربًا خفية، بالدس والوقيعة بينهما، وقد استغلوا ما بينهما من تنافس قد انقلب بعدئذ إلى عداوة، ذلك أن أسبابا عديدة قد حملت القبيلتين على التنازع، منها ما هو سياسي، يتلخص بالتنافس على الرئاسة واحتلال مركز الصدارة في يثرب، لا سيما وأنه كان لزعيم الخزرج مالك بن العجلان شرف الانتصار على اليهود، فاعتزت بهذا الانتصار، ونافستها الأوس على هذا الفخر. ومنها ما هو اقتصادي يتلخص في كون الأوس -الأكثر عددًا من الخزرج- قد استطاعوا الاستيلاء على بقاع من الأرض أكثر خصبا، وأغنى من الجهات التي نزلها الخزرج، فنافستها الخزرج على ذلك، فعمل اليهود على تشجيع عوامل الفرقة، وإذكاء روح التحاسد بين القبيلتين؛ لكي يضعفوهما2. وما زالوا كذلك حتى حملوا القبيلتين على الاصطدام، فاحتربتا حروبًا لم تنتهِ إلا قبيل قدم الرسول مهاجرًا إلى المدينة.
1 الشيخ محمد بن محمود النجار: المصدر نفسه، ص326.
2 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، 332، 337-339.
وكانت كل من القبيلتين تتحالف مع بعض القبائل العربية الأخرى، من خارج المدينة، أو حتى مع قبيلة أو أخرى من قبائل اليهود في المدينة، إذ كان التناقض والتنافس فيما بين هذه القبائل لا يقل عما كان من تنافس وتنازع فيما بين الأوس والخزرج، وكل قبيلة ترمي من وراء عقد المحالفات إلى تقوية نفسها، وضمان النصر على منافستها. وقد حالفت الخزرج بني قينقاع، بينما تحالفت الأوس مع بني قريظة. وأشهر الحروب التي وقعت بين الطرفين هي المعروفة بيوم سمير ويوم السرارة ويوم حاطب ويوم بعاث، وكان النصر فيها سجالًا بين الأوس والخزرج.
ويمتاز يوم سمير بكون أسبابه تعود إلى التنافس السياسي والاقتصادي بين القبيلتين، ذلك أن حليفًا لمالك بن العجلان زعيم الخزرج قد فاخر به أمام جمع من الناس في سوق بني قينقاع، وفضله على أهل يثرب جميعا1، فغافله رجل من الأوس يسمى "سمير" فقتله، فطالب مالك بن العجلان بديته، واختلف الطرفان في مقدار الدية أتكون دية الصريح كما زعم مالك، أم دية الحليف وهي نصف دية الصريح كما زعمت الأوس، وأصر الجانبان على موقفهما، فوقعت الحرب بينهما ولم تنته إلا بتحكيم المنذر النجاري الخزرجي جد حسان بن ثابت، أو ثابت بن المنذر والد حسان، بحسب رواية الأغاني، الذي قضى لمالك بن العجلان بدية الصريح إرضاء له، على أن يعود الأمر بعد ذلك إلى السنن المعروفة2. ولما رفضت الأوس الإذعان لهذا التحكيم أخرج الحكم من ماله نصف الدية، وأرضى بذلك الطرفين المتنازعين. أما السبب الاقتصادي فسيرد شرحه في بحث أيام العرب.
وكان يوم بعاث3، الذي حدث في السنة الخامسة قبل الهجرة، آخر وقائع هذه
1 وتفصيل الحادثة أن رجلًا من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان يسمى كعبًا نزل على مالك بن العجلان سيد الخزرج فحالفه وأقام عنده، فخرج يومًا إلى سوق بني قينقاع فرأى رجلًا من غطفان معه فرس، وهو يقول: ليأخذ هذا الفرس أعز أهل يثرب، فقال كعب:"مالك بن العجلان" وقال آخر: فلان من القبيلة الفلانية، وقال ثالث:"فلان اليهودي"
…
ورابع وخامس
…
فدفع الغطفاني الفرس إلى مالك بن العجلان فقال كعب: "ألم أقل لكم إن حليفي مالكًا أفضلكم؟ " فترصده رجل من الأوس وقتله.
2 ابن الأثير: الكامل، 1/ 402-403، الأغاني: 3/ 886-887.
3 كانت الحرب في يوم بعاث أوسع نطاقًا بالمحالفات الخارجية التي عقدها كل من الطرفين. وقد تلقت الأوس مساعدات من بني قريظة وبني النضير اليهوديتين، وقتل زعيم الخزرج فيها. وقد امتازت الحرب بأن كلًّا من الطرفين كان له شعراء يمجدون أعماله فيها، ويتغنون بانتصاره. فبينما وقف حسان بن ثابت بجانب الخزرج يدافع عنهم بشعره، وقف إلى جانب الأوس شاعرها قيس بن الخطيم.
الحروب، إذ أدرك رجال القبيلتين مغبة الحرب بينهما، واستفادة اليهود من نزاعهما المستمر؛ لاستعادة نفوذهم في يثرب وبسط سيطرتهم عليها، لا سيما أن العرب قد أدركوا ما كان من مكر اليهود وحيلهم، وما كانوا يحيكون من دسائس للوقيعة بين القبيلتين، فصاروا يطلقون عليهم تسمية "ثعالب".
لقد ألحقت الحرب في يوم بعاث بالقبيلتين أضرارًا جسيمة، إذ أصابت الزروع والممتلكات بأضرار جسيمة نتيجة القطع والتخريب والتحريق، وقتل عدد كبير من رجال القبيلتين بينهم وجهاء وزعماء بارزون، فاتجهت أفكار الطرفين إلى وضع حد للمآسي التي أضعفت العرب، وإحلال السلام والوئام في يثرب، لينصرف كل إنسان إلى عمله ويتذوق السكان راحة الهدوء والطمأنينة.
كان النصر في هذه الحرب للأوس وحلفائها من يهود بني النضير وبني قريظة. فلما أدركت تصميم حلفائها اليهود على التنكيل بالخزرج، وعلى تحطيمهم وإذلالهم، وخشيت أن ينفردوا بها بعد ذلك، آثرت أن تلتزم الاعتدال، فتكف عنهم وتتحاشى إفناءهم، وأن تكتفي بما حققته من قضاء على روح التسلط فيهم، إذ رأت أن جوارهم خير لها من جوار "الثعالب".
وعلى العموم فإن يوم بعاث قد أضعف جميع قبائل وبطون العرب في يثرب، فاشتد ميلهم إلى الاتحاد. واستجاب كل من الطرفين لداعي الوفاق، وكان أحد زعماء الخزرج وهو عبد الله بن أُبَيّ بن سلول قد وقف موقفا حياديا من الحرب، فاتجهت إليه الأنظار كي يكون واسطة للتجميع وحل النزاع1، واتفق الجميع على تتويجه ملكًا على المدينة، ولم يمنع من تحقيق ذلك سوى قدوم الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مهاجرا. فحقق من وحدة العرب جميعا ما عجز عنه العرب من قبل.
1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص341-343.