الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دولة كِنْدَةَ
1
قامت دولة كندة في أواسط شبه الجزيرة العربية، وشملت معظم بلاد نجد مما يلي الحجاز شرقًا، وامتدت في الشمال والشرق الشمالي إلى مشارف الشام والعراق. وكان لها بعض النفوذ على قبائل منطقة عمان في الجنوب، وقد امتد حكمها في فترة من الزمن إلى الحيرة. واستمرت الدولة ما ينوف عن قرن من الزمان، وكان ظهورها بعد منتصف القرن الخامس الميلادي تحقيقًا أو قبل ذلك القرن تخمينًا.
لم يعر المؤرخون الكلاسيكيون كبير اهتمام لتأريخ حوادث دولة كندة، ومعلوماتنا عنها مستمدة على الأغلب من الأخباريين العرب الذين تضاربت أخبارهم في التأريخ لها. وإذا صرفنا النظر عن التفاصيل التي اختلف فيها المؤرخون، فيمكن تلخيص ما اتفق معظمهم عليه في الخطوط التالية:
ينتمي آل كندة الذين حكموها إلى قبيلة يمنية قحطانية يرجع نسبها إلى ثور بن عفير، الذي كان يلقب باسم "كندة" وينتهي في كهلان بن سبأ. سكنت هذه القبيلة قبيل قدومها إلى أراضي نجد هضاب اليمن، فيما يلي حضرموت إلى الشرق، وكانت حاضرتها "دَمُّون" التي ذكرها شاعرها امرؤ القيس في بعض أشعاره مثل قوله:
كأني لم ألهو بدمون مرة
…
ولم أشهد الغارات يومًا بعندل
أو مثل قوله:
تطاول الليل علينا دمّون
…
دمّون إنا معشر يمانون
وإننا لأهلنا محبون
1 من المراجع الحديثة المفيدة عن كندة:
كتاب للدكتور نبيه عاقل: تاريخ العرب القديم وعصر الرسول.
وآخر للدكتور عمر فروخ: تاريخ الجاهلية.
ولا سيما كتاب الدكتور جواد علي: تايخ العرب قبل الإسلام، المجلد الثالث.
وقد هاجرت جماعات منها، بعد الانحطاط الاقتصادي الذي أصاب اليمن؛ بسبب تأخر التجارة نتيجة للمنافسة الأجنبية والتدخل الأجنبي في شئون دولة حمير، أو بسبب نزاعات قبلية، إلى الشمال في منتصف القرن الثالث أو الرابع الميلادي، ونزلوا في أرض لمعد في موقع بنجد يسمى "بطن عاقل" على مسيرة يومين شرق مكة، سمي فيما بعد "غمر كندة" ويقع جنوب وادي الرمة بين مكة والبصرة، وسرعان ما اندمجوا بعرب الشمال وأصبحوا لا يختلفون عنهم، الأمر الذي حمل بعض المؤرخين إلى القول: إنهم من عرب العدنانية، بينما الأصح في نظرنا أن نأخذ بما روي عن كونهم من أصل يمني.
يقول المستشرق "نيكلسون": إن كندة كانت تتبع ملوك اليمن. وربما كان هذا القول مستندًا على ما ذكره المؤرخ العربي هشام بن الكلبي، من أنه كان لكندة علاقة قوية بملوك حمير التبابعة. ويظهر أن الحميريين قد استعانوا بآل كندة لتأمين سلامة القوافل التجارية التي تسير بين الشمال والجنوب. وتكاد كلمة المؤرخين تتفق على أن قبائل معد الشمالية كانت تابعة لملوك حمير الذين كان لهم إشراف عليها؛ نتيجة توسعهم في الشمال، ولذا فإن ملوك حمير، على رأي أغلب الأخباريين، هم الذين كانوا يعينون ملوك كندة، كما يروى عن تعيين حجر بن عمرو، الذي قيل: إنه أول ملوكهم، إذ كانت توليته موافقة للسياسة اليمنية؛ لأن عصبيته كانت يمنية، وكان من أسرة تولت الملك في بلادها الأصلية، كما كان قد مضى على استقرارها أكثر من قرن أو قرنين في الشمال فعرف اتجاه العصبيات القبلية، وفهم عقلية عرب الشمال. وهذا هو الذي يحمل على القول: إن الدولة لم تكن في الواقع سوى تحالف أو اتحاد يجمع عدة قبائل تخضع لرئيس واحد اتخذ لقب "ملك". ويبدو من الأخبار المروية عن بعض ملوكها، أنهم قد بسطوا نفوذهم على هذه القبائل سواء بالمحالفات أو بالمصاهرة أو بالقوة.
وقد جرت تولية حجر، بناء على طلب زعماء قبيلة بكر التي طغى سفهاؤها على عقلائها، وأكل قويها الضعفاء منها، فاختاره "حسان بن تبع" ملك اليمن لحكمهم؛ لأنه زعيم آل كندة، وكان ذا رأي راجح ووجاهة في قومه، وذلك في حوالي سنة 480م1.
ومن الرواة من ذكر أن حجرًا كان أخًا لحسان بن تبَّع من أمه، فلما دوخ حسان
1 فيليب حتي: تاريخ العرب مطول، 1/ 114.
بلاد العرب، وسار في الحجاز، وأخضع نجدًا وهم بالانصراف ولى أخاه حجرًا على معد، فدانوا له وسار فيهم أحسن سيرة. غير أن من المؤرخين من يذكر أن عدة ملوك حكموا قبل حجر، وأن مدد بعضهم في الحكم كانت طويلة، تتراوح بين 20-40 سنة1، لكن المعلومات عنهم قليلة جدًّا، ولا يُستطاع استنتاج مادة تاريخية منها.
وتذكر الأخبار أن حجرًا قام إثر توليه الملك بحملات توسع بها في أطراف نجد، إذ هاجم قبائل الحجاز وشمالي شبه الجزيرة العربية وجهات البحرين، بعد أن بسط سيطرته على أرض اليمامة في الشرق، وانتزع جانبًا من الأراضي التي كانت تحت سيطرة مناذرة الحيرة. وفي رواية أنه بينما كان في غزوة بجهات عُمان، استغل أحد أمراء الغساسنة فرصة غيابه عن بلاده، فأغار على أراضيه، وغنم أموالا كثيرة، وقينة من أحب قيانه إليه -أو في رواية أخرى: زوجته- وفيما هو منصرف قال للقينة: "ما ظنك بحجر؟ فقالت: لا أعرفه ينام إلا وعضو فيه يقظان، وليأتينك فاغرًا فاه كأنه بعير آكلٌ مرارًا
…
" فلطمها الغساني، فما لبثوا أن لحقهم حجر كما وصفت، فرد الأموال والقينة2. ويرجع الأخباريون سبب تسميته بلقب "آكل المرار" الذي غلب عليه لهذه المناسبة، بينما يذكر آخرون أن سببه تكشير كان به، يشبه تكشير الإبل إذا أكلت مرارًا فقلصت مشافرها، وغير ذلك من أسباب لا مجال لذكرها3.
ولما توفي حجر طاعنا في السن خلفه ابنه عمرو الملقب بالمقصور؛ ربما لأنه اقتصر على ما تحت نفوذه من أراضٍ، ولم يستطع الوقوف أمام القبائل التي انشقت عنه، أو لأن ربيعة قصرته على ملك أبيه، الأمر الذي يدعو إلى الظن أنه لم يكن قويًّا صاحب عزم وإرادة. ويروى أنه عقد علاقات طيبة مع المناذرة، لا سيما وأنه زوج ابنته من الأسود بن المنذر الأول ملك الحيرة، فولدت له ابنه النعمان بن الأسود الذي ملك الحيرة بين 449-503م، كما كانت له علاقات وثيقة مع ملوك اليمن وحسنة مع مختلف القبائل، إذ كان
1 اليعقوبي: تاريخ اليعقوبي، 1/ 177.
2 د. جواد علي: 2/ 322.
3 راجع عنها تاريخ اليعقوبي، 1/ 177.