الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والواقع أنهم قد جعلوا الأصنام شريكة لله وشفيعة لهم عنده، مقربة إليه:{وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُمْ وَلا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ} 2، {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 3. يقول ابن الكلبي:"ويوحدونه بالتلبية، ويدخلون معه آلهتهم، ويجعلون ملكها بيده" ويورد عن ذلك أن نزارًا كانت تقول إذا ما أهلت:
لبيك اللهم لبيك
…
لبيك لا شريك لك
إلا شريك هو لك
…
تملكه وما ملك4
ويقول عز وجل: {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} 5.
ومن قول لابن الكلبي أنهم كانوا يعبدون الأصنام، ولكنهم يرون أن الله أعظم منها، كقول أوس بن حجر يحلف باللات والعزى6:
باللات والعزى ومن دان دينها
…
وبالله إن الله منهن أكبر
1 [المؤمنون: 84-87] .
2 [يونس: 18] .
3 [الزمر: 3] .
4 ابن الكلبي: الأصنام، ص7.
5 [يوسف: 106] .
6 الأصنام: ص17.
الاستهتار بالأصنام:
ومما لوحظ على الجاهليين قبيل الإسلام، أن عبادة الأصنام لم تكن جدية في بعض أوساطهم، ولم تكن عميقة في قلوبهم، بل كانوا يثورون عليها من بين حين وآخر، ولا سيما بعد أن عرفوا الديانات السماوية، فيطيح أحدهم برأس صنمه، وينهال عليه تهشيمًا وسخرية لأقل سبب، مما يدل على سطحية عبادتهم لها، وأن التطور الفكري قد بلغ بهم
مبلغًا جعلهم يحكِّمون عقولهم في عبادتها. ونستطيع أن نقيم على ذلك دليلًا بمثال مما رواه ابن الكلبي، قال:"كان لطيء صنم يقال له "الفَلس" وله سادن يقال له "صيفي"، فأَطرد ناقة خلية لامرأة من كلب، كانت جارة لمالك بن كلثوم، وكان شريفًا، فانطلق بها حتى وقفها بفناء الفلس، وخرجت جارة مالك فأخبرته بذلك، فركب فرسا وتقلد رمحا وخرج في أثره، فأدركه وهو عند الفلس والناقة موقوفة عنده، فقال له: خل سبيل الناقة، قال: إنها لربك، فقال: خل سبيلها، قال: أتخفر إلهك؟ فبوأ له الرمح، فحل عقالها وانصرف بها مالك. وأقبل السادن على الفلس، وخاطبه محرضًا إياه على مالك:
يا رب، إن مالك بن كلثوم
…
أخفرك اليوم بناب علكوم
وكنت قبل اليوم غير مشئوم
وكان عدي بن حاتم قد عتر يومئذ عند الفلس، وجلس إلى نفر معه يتحدثون بما صنع مالك. وفزع لذلك عدي وقال: انظروا ما يصيبه في يومه هذا، فمضت له أيام لم يصبه شيء، فرفض عدي عبادته وعبادة الأصنام وتنصر، فلم يزل كذلك حتى ظهر الإسلام فأسلم"1. ولم يكن هذا شأن عقلائهم فحسب، بل تجاوزهم الأمر إلى العامة. ومن الأمثلة التي رويت أنه كان لبني مالك صنم يسمى "سعدًا" بساحل جدة، وقد جاء رجل بإبله يبتغي البركة له ولها عنده، فلما أدناها منه، وكان عليه آثار دماء، نفرت وتفرقت، فغضب وتناول حجرا ورمى به الصنم قائلًا: لا بارك الله فيك، إلهًا أنفرت علي إبلي، ثم جمع إبله وانصرف قائلا:
أتينا إلى سعد ليجمع شملنا
…
فشتتنا سعد فلا نحن من سعد
وهل سعد إلا صخرة بتنوفة
…
من الأرض لا يُدعى لغي ولا رشد
ولما جاء امرؤ القيس يستقسم لدى "ذي الخلصة" مستشيرًا إياه في طلب الثأر
1 ابن الكلبي: الأصنام، ص60-61.
لأبيه. وإذ خرج له "الناهي" مرتين وثالثة، كسر القداح وضرب بها وجه الصنم وقال: لو كان المقتول أبوك ما عقتني، لعنت ولعن أبوك، وانصرف ثائرًا يقول:
لو كنت يا ذا الخلصة الموتورا
…
وكان شيخك المقبورا
لم تنهَ عن قتل العداة زورا
ثم غزا بني أسد وانتصر عليهم1.
ويروى أنه كان لمزينة صنم يسمى "نهم" وله سادن خزاعي، فلما سمع بأمر الرسول صلى الله عليه وسلم ودينه الجديد، ثار على الصنم وكسره، وأنشد يقول:
ذهبت إلى نهم لأذبح عنده
…
عتيرة نسك كالذي كنت أفعل
فقلت لنفسي حين راجعت عقلها:
…
أهذا إله؟ أبكم ليس يعقل
أبيت، فديني اليوم دين محمد
…
إله السماء الماجد المتفضل
ومن الروايات التي يذكرها الأخباريون في هذا المعنى، أنه كان لبني حنيفة صنم من تمر عبدوه دهرًا، فلما حلت بهم مجاعة أكلوه، فقال شاعر في ذلك:
أكلت حنيفة ربها
…
زمن التقحم والمجاعة
وأن غاوي بن عبد العزى رأى ثعلبًا يبول على صنم، فقال:
أرب يبول الثعلبان برأسه
…
لقد ذل من بالت عليه الثعالب
من هذه الأمثلة، يتضح لنا أن العرب قبيل الإسلام لم يكن في قلوبهم خشوع حقيقي، ولا تعبد صادق لآلهتهم الوثنية، بل إن الحوادث تدل على أنهم أخذوا يشعرون في أعماق نفوسهم بحاجتهم إلى إله أجل وأسمى من هذه الأصنام، التي لا تملك نفعًا ولا ضرًّا كثيرًا. لقد كان كثير من العرب يشعرون بفراغ روحي، وينتظرون ديانة جديدة تتلاءم مع تطورهم الفكري، وتملأ هذا الفراغ.
1 ابن الكلبي: 35، 37، 45.