الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ووصلت الدولة إلى أقصى اتساعها في عهد ملكها الحارث الثالث "87-62 ق. م" إذ بلغ اتساعها حدًّا شمل البلاد الواقعة بين دمشق وبين مدائن صالح في شمالي الحجاز، بما فيها سواحل البحر الأحمر ومنطقة شبه جزيرة سيناء وشرق الأردن وحوران.
الأنباط بين السلوقيين والبطالمة
1:
عاصرت دولة الأنباط السلوقيين والبطالمة قبل الميلاد والدولة الرومانية بعد الميلاد، إنما يظهر أنها غالبًا ما كانت تميل إلى البطالمة وتتأثر بنفوذهم مع المحافظة على استقلالها. ويبدو أن قيامها كان في أواخر النصف الثاني من القرن الرابع قبل الميلاد، حيث إنه لم يعرف عن تاريخها شيء كثير قبل عام 312 ق. م، ذلك التاريخ الذي صدت فيه حملة يونانية وجهها إليها "أنطيغونس" خليفة الإسكندر المقدوني في سورية، إذ كان في طريقه إلى مصر لإخضاع "بطليموس" الذي انتزى على مصر بعد الإسكندر، فرأى أن يستولي في طريقه على البتراء، فوجه إليها قائده "أثينايوس" على رأس حملة مؤلفة من أربعة آلاف مقاتل؛ ليقطع بذلك التجارة عن منافسه.
اغتنمت الحملة خلو المدينة من الرجال، إذ كانوا قد توجهوا إلى إحدى الأسواق التجارية، فدخلت المدينة ونهبت ما وجدته فيها من بضائع ومعادن ثمينة، وقتلت كل من قاومها من الرجال. وبينما كانت عائدة داهمها الأنباط الذين لحقوا بها بعد أن عادوا إلى المدينة، وعرفوا ما حل بها، فلقنوا الغزاة درسًا قاسيًا واستأصلوا شأفتهم، فلم يسلم منهم سوى خمسين فارسًا.
غير أنهم رأوا ألا يستفحل العداء بينهم وبين السلوقيين فكتبوا إلى "أنطيغونس" يخففون عنه وقع الحادث بإظهار أسفهم لما حدث، وبإلقاء التبعة على عاتق القائد "أثينايوس". ويظهر أن الملك السلوقي "أنطيغونس" قد استعمل المكر معهم، إذ قبل العذر ظاهرا، مدعيًا أن قائده إنما قام بهذا العمل دون علمه، وأبدى رغبته في تحسين علاقته بالأنباط، لكنه في الواقع كان يضمر لهم الغدر بإدخال الاطمئنان إلى قلوبهم؛ كي
1 لما توفي الإسكندر المقدوني تقاسم قواده دولته الواسعة في الشرق، فقامت في سورية دولة السلوقيين، وفي مصر دولة البطالمة.
يفاجئهم بالحرب على حين غرة، إذ لم تمض فترة وجيزة حتى وجه إليهم حملة أخرى تأديبية، بقيادة قائد آخر من قواده هو "ديمتريوس". فلما أدرك الأنباط الخطر المحدق بمملكتهم هرَّبوا كل ما هو ثمين من أمتعتهم وحليهم وتجارتهم إلى خارج المدينة، وتحصنوا في معاقلهم، وأخذوا يفاوضون القائد السلوقي، وعرضوا عليه مبلغًا من المال لقاء الانسحاب، وإلا فإنهم مصممون على الصمود حتى الفناء التام. وخاطبوه بقولهم:"وإذا أبيتم إلا إطالة الحصار فلا تنالون غير التعب والفشل؛ لأنكم لن تجدوا سبيلًا إلينا، ونحن في هذا الحصن المنيع. وإذا قدر لكم الظفر فلن تنالوه إلا بعد أن نموت جميعًا، ولا يبقى لكم غير هذه الصخور الصماء، وأنتم لا تستطيعون سكناها"1.
وإن أدرك القائد السلوقي استحالة احتلال البتراء المنيعة، ووجد أن لا مطمع له في هذه المملكة، آثر الانسحاب لقاء مبلغ من المال اتفق عليه.
وأما البطالمة فلما تراءت لهم أهمية موقع الأنباط التجاري والإستراتيجي، حاولوا أن يبسطوا سيطرتهم على بلادهم، غير أنهم أدركوا استحالة ذلك لمناعة البتراء، فقرروا أن يسلكوا معهم سياسة أخرى تقضي بتركهم مستقلين، والاكتفاء بجعلهم تحت نفوذهم، فشرعوا في الاستيلاء على المدن الفينيقية والفلسطينية التي لها صلات تجارية معهم والتي تمر فيها قوافلهم، وأقاموا حولهم المستعمرات، فسيطروا بذلك على منافذ تجارتهم، ثم سيطروا وأقاموا فيها من الموانئ والمحطات ما هو كفيل بالقضاء على التجارة التي تمر بالبتراء، وانتزاع مقاليدها من أيديهم للحلول مكانهم في النشاط التجاري. غير أن الأنباط لم يستسلموا لهذا الحصار والتنافس الاقتصادي، بل أخذوا في مهاجمة سفن البطالمة التي تمر بالبحر الأحمر لعرقلة تجارتهم، الأمر الذي دفع البطالمة إلى بناء أسطول حربي، يعهد إليه بحماية الأسطول التجاري2.
وقد استمر الحال على ذلك حتى القرن الثاني قبل الميلاد، عندما استرجع السلوقيون البلاد السورية التي احتلها البطالمة، واتجهوا إلى الأنباط يحسنون علاقتهم بهم لاستمالتهم، فعاد النشاط إلى التجارة النبطية، ولا سيما مع بلاد الشام ومنها صور بوجه خاص.
1 راجع جورجي زيدان: العرب قبل الإسلام، ص72.
2 د. جواد علي: 2/ 19.