الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية
مدخل
…
الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية
يقصد بأيام العرب تلك الحروب والوقائع التي نشبت بين القبائل العربية في المجتمع الجاهلي الذي كان يضطرم بالمنازعات. وتعتبر هذه الأيام بما اشتملت عليه من أحداث ومناسبات توضح أسباب ودواعي ما وقع بين مختلف القبائل الجنوبية "القحطانية" أو بين شتى القبائل الشمالية "العدنانية" أو ما وقع بين القحطانية والعدنانية، أو بين العرب عامة وبين الأقوام غير العربية، كالفرس والروم والبيزنطيين من حروب مصدرًا من مصادر التأريخ للعلاقات التي كانت سائدة بين القبائل العربية. كما أنها بما روي في أثنائها من مأثور الكلام ورائع النثر وحماسي الشعر، وبما اشتملت عليه من طريف القصص، وما تخللها من بيان للطبائع والتقاليد البدوية، تعتبر ينبوعًا من ينابيع الأدب، وبابًا كبيرًا من أبوابه، ومرآة تعكس أحوال العرب وعقليتهم، وعاداتهم وتقاليدهم في الحرب1 والسلم والأسر والفداء، كما تنبئ بفضائلهم وشيمهم التي فطروا عليها، كالشهامة والوفاء بالعهد وحماية الجار والانتصار للقبيلة والصدق والصبر في القتال2.
وتختلف أهمية هذه الأيام باختلاف حدتها وشمولها ومدتها. فقد يقتصر بعضها على مناوشات بسيطة يذهب ضحيتها بضعة أشخاص، وقد تحتدم احتداما شديدا فيربو عدد ضحاياها على المئات، وقد تشترك فيها عدة قبائل متحالفة في كل جانب، أو قد تقتصر على قبيلتين تتقاتلان، وقد تدوم مدة طويلة تصل أحيانا إلى أربعين سنة، تكون فيها
1 راجع عن أدوات الحرب التي كانت تستعمل عند العرب:
Wacif Boutros Ghali: Les traditions chevaleresques Des Arabes، PP. 192-193.
2 محمد أحمد جاد المولى بك ورفاقه: أيام العرب في الجاهلية، ص ط من المقدمة: أحمد أمين: فجر الإسلام، ص66.
الوقائع متقاربة أو متباعدة، يفصل بين الواحدة والأخرى سنون عديدة، إذ تثار حينما تتجدد المناسبات أو قد لا تدوم سوى أيام أو أسابيع قليلة. إنما تغلب عليها بوجه عام صفة الغزوات السريعة الخاطفة في أغلب الأحيان، وتنتهي عادة بصلح يتفق فيه الجانبان على دفع ديات القتلى، وحل المشكلات التي سببت الحرب. وغالبا ما تثابر القبيلة المنتصرة على الفخر بفعال أبطالها في الحرب، مما يثير القتال بين الطرفين من جديد، بسبب جواب أو رد فعل عنيف قد يصدر من سفيه عابث لا يرضيه سماع ذلك الفخر، أو من القبيلة المغلوبة التي يعز عليها أو على أفرادها أن يسمعوا ذلك الكلام1. وكان العرب يحفظون أخبار هذه الأيام، ويفتخرون بالنصر الذي أحرزوه فيها، أو يتحينون الفرصة السانحة للأخذ بثأر الهزائم التي لحقتهم فيها.
لقد ألَّفت مادة هذه الأيام القسط الأكبر من المعلومات التي ذكرها الأخباريون في تأريخهم للعهد الجاهلي، استنادًا إلى ما تناقله الناس من قصص سمعوه ممن شهدوها، فحفظوه في صدورهم إلى أن كان عهد التدوين فدُوِّن. وقد أحب الناس هذه المادة، وتناولها بلذة وشوق، سواء في الجاهلية أو في الإسلام، وكانت موضوع سمرهم في هذين العهدين. وهي مادة عربية خالصة، تخللها شعر قيل في تلك المناسبات الدامية، وهو وإن كان من باب الفخر والحماسة، وتضمن صورًا شتى من هجاء الخصم والانتقاص منه، مما لا يخول المؤرخ الحديث أن يستنتج منه مادة تاريخية يثق بصحتها تمام الثقة؛ لما تخلله دون شك، من مبالغات هي من جانب الحليف أو القريب أكثر مما هي في جانب الخصوم والأعداء، إلا أن فضله لا ينكر في كونه العامل الأكبر في حفظ تلك الأخبار وصيانتها من النسيان، ذلك أن الشعر أدعى للحفظ عند العربي من النثر، وأن الراوي والسامع يضطر في العادة إلى البحث عن المناسبة التي قيل فيها ذلك الشعر، فيطلع على الحوادث ويحفظها. فعلى هذه المادة كان اعتماد المؤرخين القدامى في التأريخ للتطورات السياسية التي حدثت قبيل الإسلام، وقد وصلت إلينا في كتب المؤرخين العرب، تلك التي صنفت بعد قرنين من الهجرة، وهي المصادر الوحيدة التي تحدثنا عنها.
لكن هذه الأيام غير مبوبة، وغير منسقة على حسب ترتيب وقوعها، ولا حسب
1 جواد علي: 4/ 246-247.
ترتيب حوادثها، وعددها عظيم من الصعب حصره، وقد روي أن بعض المؤرخين القدامى قد ألفوا فيها كتبًا خاصة، بعضها تضمن 750 يومًا أو 1200 يوم، وأن أبا الفرج الأصبهاني ألف كتابًا جمع فيه 1700 يوم منها، لكن ما صنف من هذه الكتب لم يصلنا1. والأيام التي وصلت أخبارها إلينا قد حدثت في الجاهلية القريبة من الإسلام، في مدى قصير من الزمن، وفي الفترة الواقعة -على التقريب- ما بين عام 150 قبل الإسلام وبين بزوغ فجره2.
أما أسباب تلك الحروب فأحيانا ما تكون تافهة، مثال أن تنشب حرب تدوم أربعين سنة بين عبس وذبيان بسبب سباق خيل، أو تنشب حرب كأحد أيام الفجار بسبب تحقير رجل لآخر لم يؤد ما عليه من دين له في ذمته، أو كأن تنشب أخرى من هذه الحروب بسبب جهالة من رجل يفتخر بقومه قائلًا: من كان يعرف نفسه أعز قبيلًا مني فليضرب هذه الرِّجْل بسيفه، ويمد رجله فيضربها رجل من قبيلة أخرى فيقطعها، وتقع الحرب بين القبيلتين، غير أنها لم تكن تنشب دوما لأسباب تافهة، بل ترجع في أحيان أخرى إلى أسباب اقتصادية، كحرب البسوس، أو كحرب الأوس والخزرج في المدينة، وكانت سياسية اقتصادية، أو قد تكون لبواعث أجنبية ناشئة عن النفوذ البيزنطي والفارسي. وبعض الأسباب ترجع إلى عسف الحكام بالقبائل الضعيفة التابعة لهم؛ بسبب الإتاوة التي كانوا يلحفون في جمعها وفي الحصول عليها، بقطع النظر عن الظروف والأوقات، كتلك الأيام التي حدثت بين العدنانية والقحطانية، والتي غلب عليها طابع التخلص من سيطرة اليمن ومن نفوذها على القبائل المعدية. وتكاد روايات الأخباريين تجمع على أن الحكم في عرب الشمال كان للتبابعة، سواء كان حكما مباشرا أو بالواسطة، أي: بتدخلهم في اختيار الرؤساء والمشايخ وتعيينهم على تلك القبائل. ومن أسباب الحروب نزاع القبائل على الماء والمرعى، أو للأخذ بثأر أو غير ذلك من أسباب، كمحاولة التخلص من حكم قبيلة أخرى بظهور شخصية قوية فيها، أو أمثال ذلك من أسباب3.
1 محمد أحمد جاد المولى بك ورفاقه: المصدر نفسه، المقدمة.
2 الدكتور عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص62.
3 جواد علي: 4/ 346-348.
وأما نتائج تلك الحروب فلا تختلف عن النتائج التي تنشأ عادة عن مثيلاتها من الحروب، كاستحكام الضعف في القبائل العربية، وإشاعة الفرقة فيما بينها، واستمرار تفكك العرب وإمعان الدول الأجنبية في التحكم بهم، وفرض نفوذها الاستعماري على أغلب مناطقهم القريبة منها، كالحيرة وجنوبي العراق، وحوران وجنوبي سورية، ومنطقة الخليج العربي وحتى اليمن البعيدة عنها.
على أن تلك الأيام وإن تكن دليلًا على عدم الشعور بالأمة الواحدة، بل بعصبية القبيلة، إلا أننا إذا نظرنا إليها من زاوية أخرى، ولم نسقط من حسابنا اقترانها بحركة التحالف النشيطة التي رافقت هذه الحروب الكثيفة، فإنه يكون من الظلم أن يتهم العرب بالفردية، والمجتمع العربي بالجمود والتشتت. فالواقع أن القبائل العربية كانت متصلة متداخلة، متحركة تمور بالحيوية. فلقد كان ثمة حركة نشيطة بين القبائل، فهي تلتقي وتتباعد، وتارة تفرقها الحروب والغارات والعداوات، وطورًا يؤلف بينها الحلف والجوار، ولم تكن الحروب الضارية التي كانت تنشب فيما بينها، إلا دليلا على مزيد من القوة الكامنة في نفوسها، ومن الحيوية والنشاط. ولقد أخذت حركة التحالف في الازدياد والاتساع قبيل ظهور الإسلام، وراحت القبائل تتكتل في مجامع كبيرة، وتضطرم شبه الجزيرة بحروب عنيفة بين أطراف متكتلة في أحلاف واسعة، يحاول كل من متزعميها فرض سيطرته ونفوذه على ما يجاوره من وحدات وابتلاعها، مما يدل على عدم استطاعة القبيلة العربية أن تعيش في مجالها الضيق، فهي بحاجة إلى من تؤاخيه من القبائل الأخرى، وتربط مصيرها بمصيره، والواقع أن هذا الاندفاع نحو التحالف والتجمع، قد ساير النهضة العربية التي بدت ملامحها على المجتمع العربي الجاهلي1 قبيل الإسلام، وتناولت شتى مظاهر حياته، إذ شملت السياسة والدين والفكر، فكانت تمهيدًا لظهور الإسلام ونهضته الرائعة الشاملة.
وبعد: أكرر ما أسلفت بأن هذه الأيام لا يمكن تصنيفها تصنيفًا يراعي تسلسل وقوعها زمنيا، إنما يمكن أن نعطي كشفًا عن أهمها بحسب الفئات التي اشتركت فيها. فنبدأ بما وقع منها بين مختلف قبائل القحطانية:
1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص61-62.