الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أما "إسترابون" الذي رافق الحملة، فقد ذكر أسبابًا أخرى لفشلها، إذ عزا ذلك إلى ما زعمه من خيانة الوزير النبطي صالح، الذي اتهمه بتضليل الرومان والسير بهم في طريق مقفرة، وفي أراضٍ لا زرع فيها ولا ماء، بقصد إهلاك الجيش الروماني، وقد أنحى عليه باللائمة وحمله مسئولية الإخفاق، بينما يرى "غلازر" أن مسئولية الإخفاق إنما تقع في الحقيقة على عاتق الرومان أنفسهم لجهلهم بطبيعة أراضي العرب ولغرورهم1.
لقد أثبتت حملة "إيليوس غالوس" أن الاستيلاء على اليمن عن طريق القوة ضرب من المحال؛ لذلك عدل الرومان عن هذا الأسلوب إلى آخر هو أسلوب الدسائس والمؤامرات للوصول إلى فرض النفوذ الاستعماري الروماني غير المباشر، واتخذوا الحبشة مخلب قط لتحقيق مخططهم في إخضاع اليمن. كما ثابروا على تنفيذ سياستهم المرسومة للقضاء على احتكار اليمنيين لتجارة الشرق والحلول محلهم في امتلاك مقاليدها.
وقد نجحوا في هذه السياسة إلى حد بعيد، فما أشرف الدور الأول الحميري على الانتهاء حتى بدأت قوة عرب الجنوب في الانحدار والتضعضع لاستمرار مزاحمة الرومان لهم في النشاط التجاري وعجزهم عن مقاومة هذه المنافسة. ذلك أن الرومان قد أفادوا إفادة كبرى من تجارب أسلافهم البطالمة في هذا الميدان، ومن القناة الفرعونية التي أعادوا فتحها، فتمكنوا من تسيير سفنهم في المحيط الهندي واستطاعوا الوصول إلى الهند والتزود من محاصيلها والعودة بها إلى بلادهم، فقضوا بذلك على الاحتكار اليمني لتجارة الشرق، الأمر الذي قاد الحميريين إلى طريق الانهيار الاقتصادي فالسياسي.
1 د. جواد علي: 2/ 384-387.
الدور الثاني من الدولة الحميرية
"300 - 525 م أو عصر التبابعة":
أما من الناحية السياسية، فإن تسرب الأحباش إلى اليمن قد بدأ كما رأينا منذ القرن الثاني قبل الميلاد نتيجة النزاع السبئي الهمداني، وقد حاولوا احتلال اليمن مرات عديدة بعد ذلك، ونجحوا في الحصول على موطئ قدم لهم في بعض المدن الساحلية مرتين، كان أخراهما عام 345م. وقد أثبت ذلك ما جاء في الكتابات الحبشية الأثرية التي أصبحت تطلق على ملوك الحبشة لقب "ملوك أكسوم وحمير وريدان وتهامة".
ومن الثابت أن هذه الحملات الحبشية الأولى كانت تهدف إلى انتزاع السيادة التجارية من اليمنيين ونشر الدين المسيحي في ربوع اليمن بتحريض من الرومان، كما كانت بمثابة حملات استطلاعية مهدت السبيل لحملات تالية. غير أن الحكم الحبشي لم يستطع أن يعيش طويلًا، إذ تضافرت جهود الحميريين من مختلف الفئات، من دينية ورسمية، في مقاومة الأحباش وتمكنوا من إخراجهم سنة 378م، وعاد الحميريون إلى حكم بلادهم حتى عام 525م.
ويطلق الأخباريون العرب على ملوك هذا الدور لقب "التبابعة""جمع: تبع"، ويروون قصصًا خيالية عن قوتهم وعظمتهم، لا سيما امتداد حكم بعض ملوكهم إلى أماكن بعيدة كغزو سمرقند وفارس والسغد وأفريقية وبسط السيطرة العربية عليها1، مما يتنافى مع الحقيقة التاريخية، ولا يمكن قبوله، لا سيما في هذه الفترة التي كانت اليمن فيها مهددة بالغزو الخارجي.
في هذا الدور دخلت الديانتان المسيحية واليهودية إلى بلاد العرب. أما الديانة المسيحية فقد دخلتها بواسطة مبشرين من نساطرة سورية والحيرة تسربوا إلى الجزيرة العربية، أو بواسطة اليعاقبة أتباع مذهب الطبيعة الواحدة للمسيح، الذين جاءوا من الحبشة وأنشئوا لهم كنائس عديدة في عدن وظفار ونجران، وكان قيصر الروم البيزنطي الإمبراطور قسطنطين من وراء هذه المحاولات. فقد عمل على إدخال المسيحية إلى بلاد العرب سواء بطريقة الدعاية أو التبشير "إرسال بعثات تبشيرية برئاسة كهنة منهم: توفيل فرومنتوس" أو بطريق الفتح الحربي لتحقيق غاية مزدوجة هي نشر الدين المسيحي ونفوذ الروم السياسي والتجاري في آن واحد، مستهدفًا من ذلك كله مقاومة نفوذ الفرس الذي أخذ يتغلغل في البلاد، ومقاومة الديانة اليهودية في الوقت نفسه.
ذلك أن اليهود أخذو ينتشرون في العالم بعد أن استولى الرومان على فلسطين ونكلوا
1 نسب إليهم الأخباريون غزو أفريقية والبربر وبلاد المغرب ووصولهم إلى الشرق حتى أذربيجان وإلى بلاد السند فيما وراء النهر، وإلى بلاد الروم حتى القسطنطينية، وحتى إلى بلاد الصين في حروبهم وفتوحهم مما لم يرد له أية إشارة أو دليل في تواريخ الأمم المجاورة أو في الآثار الباقية عن المناطق المذكورة. وقد وصف ابن خلدون هذه الأقوال بأنها عريقة في الوهم والغلط.