الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
عرش الأكاسرة، إذ كان هذا الأمير قد تربى في قصور المناذرة، فكان على المنذر أن ينصره ويهزم خصومه. وقد أعقب المنذر ملوك لم تذكر لهم أعمال مهمة حتى تسلم الملك:
المنذر الأول بن ماء السماء
…
المنذر الثالث بن ماء السماء "514-554م":
وماء السماء هو لقب لأمه ماريا، وقد عاصر من الملوك المجاورين الحارث بن جبلة الغساني، والحارث بن عمرو "ملك كندة" والملك الفارسي "قباذ". ومما يروى أنه بعد أن ناصر الملك الفارسي ضد الروم ساءت العلاقات بينهما، ذلك أنه في عهد قباذ، قام "مزدك" الفارسي بالدعاية لمذهب ديني يقول بشيوعة النساء والمال، فاستهوى القلوب واعتنقه قباذ: وحاول فرضه على المنذر فرفضه، فما كان من قباذ إلا أن أعان عليه الحارث بن عمرو ملك كندة الذي روي أنه اعتنق المزدكية نكاية بالمنذر -وهو قول يكتنفه الشك، وسأناقشه عند الحديث عن دولة كندة- وهاجم الحيرة واحتلها، وجلس على عرشها مكان المنذر الذي التجأ إلى القبائل العربية في الصحراء، إلى أن مات قباذ وتولى بعده ابنه كسرى أنوشروان فأعانه على الرجوع إلى عرشه بعد أن فتك بمزدك ونكل بأتباع المزدكية.
وقد قامت في عهد المنذر حروب طويلة بين المنازرة والغساسنة، أثارتها رغبة الفرس في التنكيل بالبيزنطيين في عهد الإمبراطور "جوستين" الأول، الذي مطل في دفع أتاوة كان الروم البيزنطيون يدفعونها للفرس بناء على بنود صلح عقد بين الطرفين عام 506م.
بدأت هذه المعارك سنة 519 م، وقام المنذر فيها بدور مهم، إذ تمكن من أسر قائدين بيزنطيين إثر هجوم شنه على سورية. ثم تجددت الحرب سنة 528-529م فتوغل حتى حمص وأفامية وأنطاكية، وحتى الأناضول، وبعد أن أضرم الحرائق في بعض المدن عاد وفي ركابه كثير من الأسرى بينهم 400 راهبة، روي أنه قدمهن ضحية للآلهة، أو اصطفاهن لنفسه.
ولما تولى الإمبراطور "جوستنيان" العرش البيزنطي أدرك أنه لا سبيل إلى وقف التحدي الفارسي إلا بدعم الغساسنة، فعين الحارث بن جبلة بن أبي شمر "الملقب بالحارث
الثاني" ملكًا عليهم، ومنحه بعض الألقاب الشرفية، وأوكل إليه حماية حدود الشام مع العراق.
وكان لا بد من وقوع الصدام بين الإمارتين العربيتين، بالرغم من إبرام صلح بين بيزنطة وفارس، وعدم تدخل كل منهما تدخلًا مباشرًا في منازعات الإمارتين، ذلك أن ظروفًا جديدة قد دفعت الدولتين الكبيرتين إلى الاصطدام من جديد، فقد استفاد الإمبراطور "جوستنيان" من الهدنة المعقودة مع الفرس كي يتفرغ إلى توسيع إمبراطوريته في أوروبا وإفريقيا، واستعادة الممتلكات التي انسلخت عنها، إما بسبب نوازع وطنية محلية، أو بسبب استيلاء الأقوام البربرية الغازية عليها؛ وبالتالي كي يستعيد مجد الإمبراطورية الرومانية القديمة، مما يخل بتوازن القوى بين الدولتين.
وقد وجد "كسرى أنوشروان" الذريعة التي يستطيع بها أن يجعل حلفاءه المناذرة يتحرشون بالغساسنة وبحلفائهم البيزنطيين، إذ كان ثمة نزاع بين المناذرة والغساسنة على أرض تسمى "أستراتا" تمتد بين دمشق وتدمر وتشكل الحد الفاصل بينهما، فحرض المنذر بن ماء السماء على احتلالها، فادعى تبعية القبائل النازلة فيها له ووجوب دفعها الجزية إليه، وكان لا بد للملك الغساني الحارث بن جبلة من مقاومة هذا الادعاء، فنشبت الحرب بين الطرفين "540م" واضطرت بيزنطة وفارس إلى التدخل المباشر، كل منهما لنصرة حليفتها، ونقض "كسرى" بنود الهدنة المعقودة بينه وبين "جوستنيان" وهاجم سورية.
غير أن الحارث بن جبلة الغساني الذي كان يرافق القائد البيزنطي "بليزاريوس" في المعارك الناشبة لم يلبث أن تخلى عن مؤازرة البيزنطيين، بعد أن كان قد تمكن من اجتياز نهر دجلة نحو الشرق، إذ أدرك أن الحرب ضد الفرس لا بد خاسرة؛ لانشغال كتلة الجيش البيزنطي الرئيسية في الحروب التي تخوضها في أوروبا، ففضل العودة بدلًا من أن يعرِّض رجاله للهلاك. والواقع أن ظنه قد تحقق، ذلك أن جوستنيان لم يلبث أن عقد اتفاقا جديدا مدته خمس سنوات مع كسرى، تعهد له فيه أن يضاعف الجزية التي تدفعها بيزنطة لفارس1.
1 د. جواد علي: 4/ 59.
ومن أهم المعارك التي جرت في هذه الحروب الطويلة المتصلة تلك التي جرت عام 544م. والتي تمكن فيها المنذر الثالث من أسر أحد أبناء الحارث وقدمه ضحية للآلهة، الأمر الذي ملأ قلب الحارث بالحقد، وحدا به إلى الاستعداد للانتقام منه. وفعلًا لم يلبث أن حقق عليه النصر في معركة جديدة إذ دحره وأسر اثنين من أولاده، حتى إذا كان عام 554م داهمه قرب قنسرين -بالرغم من الهدنة المعقودة بين الفرس والروم- وقتله في المعركة التي أطلق عليها اسم "يوم حليمة" والتي قد تكون سميت باسم ابنته "حليمة" التي روي أنها عطرت مائة من فرسان أبيها، وألبستهم الدروع بيديها تشجيعًا لهم على القتال، أو باسم مرج منسوب إلى هذه الابنة. ويسمي بعض المؤرخين هذه الوقعة باسم معركة "عين أباغ".
والمنذر الثالث هو الذي تحدث الأخباريون عن قصة بنائه للغرييين، هذه القصة التي ينسبها بعضهم لجذيمة الأبرش، ولها اتصال بنديميه اللذين أعادا إليه ابن أخته، وينسبها بعضهم الآخر إلى النعمان بن المنذر المعروف باسم أبي قابوس، وملخصها أنه كان له نديمان من بني أسد ثملا مرة فراجعاه في بعض كلامه، فأمر بهما وهو سكران، فدفنا حيين في حفرة. ولما صحا ندم على فعلته، وأمر بأن يبنى فوق ضريحيهما صومعتان لا يمر أحد من وفود العرب إلا بينهما، وجعل له يومين في السنة: يوم نعيم لا يأتيه فيه أحد إلا خلع عليه، ويوم بؤس لا يأتيه فيه أحد إلا أمر بضرب عنقه وغرَّى الصومعتين بدمه، ويرى أن عبيد بن الأبرص قد ذهب ضحية يوم بؤسه1. وقد عد يومه من أيام الشؤم فضرب به المثل "يوم عبيد" كما في قول أبي تمام:
لما أظلتني سماؤك أقبلت
…
تلك الشهود علي وهي شهودي
من بعد ما ظن الأعادي أنه
…
سيكون لي يوم كيوم عبيد
بينما تمكن حنظلة بن عفراء الطائي من النجاة بفضل وفائه، إذ استمهل الملك ليذهب إلى أهله2 ويصلح من شأنهم ثم يعود في وقت حدد له، بكفالة رجل شهم يسمى
1 د. جواد علي: 4/ 73-74.
2 الألوسي: 1/ 127-130.