المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

فكل ما كان للجاهليين من آراء ومذاهب وميول قد عبروا - تاريخ العرب القديم

[توفيق برو]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: دراسة المصادر

- ‌مفهوم التاريخ:

- ‌مصادر تاريخ العرب القديم:

- ‌النقوش الكتابية:

- ‌المصادر العربية الإسلامية:

- ‌الكتب المقدسة والمصادر اليونانية والنصرانية:

- ‌الفصل الثاني: جغرافية شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌الجبال العالية

- ‌مدخل

- ‌ جبال السراة:

- ‌ جبال اليمن:

- ‌ المرتفعات الجنوبية:

- ‌الصحاري والهضاب الداخلية

- ‌مدخل

- ‌ النفود الكبير:

- ‌ الربع الخالي:

- ‌ إقليم نجد:

- ‌الحرات:

- ‌الدارات والبرق

- ‌مدخل

- ‌الدارات:

- ‌البرق

- ‌نظام التصريف المائي في شبه جزيرة العرب

- ‌مدخل

- ‌وادي الحمض:

- ‌وادي الرمة:

- ‌وادي حنيفة:

- ‌وادي الدواسر:

- ‌وادي السرحان:

- ‌مناخ شبه جزيرة العرب:

- ‌حرارة الجو:

- ‌رطوبة الجو:

- ‌نباتات وحيوانات شبه جزيرة العرب:

- ‌الفصل الثالث: صلة العرب بالساميين

- ‌مدخل

- ‌النظرية الأولى:

- ‌النظرية الثانية:

- ‌النظرية الثالثة:

- ‌النظرية الرابعة:

- ‌النظرية الخامسة:

- ‌الفصل الرابع: أنساب العرب وطبقاتهم

- ‌أصل ومدلول كلمة عرب:

- ‌أنساب العرب:

- ‌طبقات العرب وأقسامهم

- ‌مدخل

- ‌العرب البائدة:

- ‌العرب العاربة:

- ‌العرب المستعربة:

- ‌نقد نظرية الأنساب:

- ‌الفصل الخامس: الدولة العربية القديمة في اليمن

- ‌مدخل

- ‌دولة معين

- ‌مملكة قتبان:

- ‌مملكة حضرموت:

- ‌الدولة السبئية

- ‌الدولة الحميرية

- ‌مدخل

- ‌الدول الأول

- ‌الدور الثاني من الدولة الحميرية

- ‌الدور الحبشي

- ‌الدور الفارسي

- ‌الفصل السادس: حضارة دول اليمن القديمة

- ‌مدخل

- ‌نظام الحكم:

- ‌الزراعة:

- ‌التجارة:

- ‌الصناعة:

- ‌العمران وإنشاء المدن:

- ‌اللغة والكتابة:

- ‌الديانة:

- ‌الفصل السابع: دول الشمال العربي قبل الإسلام

- ‌مدخل

- ‌دولة الأنباط

- ‌الموقع الجغرافي:

- ‌أصل الأنباط:

- ‌الأنباط بين السلوقيين والبطالمة

- ‌الأنباط واليهود:

- ‌الحارث الثالث: عصر الذروة

- ‌خضوع الأنباط للرومان وسقوط دولتهم:

- ‌مدنية الأنباط وحضارتهم:

- ‌نظام الحكم:

- ‌التجارة والزراعة والصناعة:

- ‌العمران النبطي:

- ‌الديانة:

- ‌اللغة والكتابة:

- ‌الدولة التدمرية

- ‌مدخل

- ‌حكم زنوبيا:

- ‌مدينة تدمر وحضارتها

- ‌طبقات المجتمع

- ‌الحياة الاجتماعية والاقتصادية:

- ‌نظام الحكم:

- ‌الفن التدمري والعمران:

- ‌الكتابة التدمرية:

- ‌الديانة:

- ‌المناذرة والغساسنة

- ‌المناذرة

- ‌مدخل

- ‌امرؤ القيس بن عمرو

- ‌النعمان الأول

- ‌المنذر الأول بن ماء السماء

- ‌عمرو بن هند:

- ‌النعمان الثالث بن المنذر

- ‌الغساسنة

- ‌مدخل

- ‌الحارث بن جبلة

- ‌المنذر بن الحارث

- ‌جَبَلة بن الأيهم:

- ‌حضارة المناذرة والغساسنة

- ‌مدخل

- ‌دولة كِنْدَةَ

- ‌الحارث بن عمرو:

- ‌الفصل الثامن: الحياة السياسية الحضرية في الحجاز

- ‌مدخل

- ‌مكة:

- ‌قريش:

- ‌التنظيم السياسي في مكة:

- ‌التنظيم الإداري في مكة

- ‌مدخل

- ‌ السدانة:

- ‌ السقاية:

- ‌ الرفادة:

- ‌ الراية:

- ‌ القيادة:

- ‌ الأشناق "الديات

- ‌ القبة:

- ‌ الأعنة:

- ‌ السفارة:

- ‌ الإيسار:

- ‌ المشورة:

- ‌ الأموال المحجرة:

- ‌ الندوة:

- ‌يثرب:

- ‌الطائف:

- ‌الفصل التاسع: الحياة السياسية في البادية العربية

- ‌مدخل

- ‌شكل الحكم:

- ‌الأحلاف

- ‌مدخل

- ‌طقوس الأحلاف:

- ‌الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌حروب القحطانية فيما بينها

- ‌مدخل

- ‌يوم بعاث:

- ‌حروب القحطانية والعدنانية

- ‌مدخل

- ‌يوم البيضاء:

- ‌القبائل المعدية وزهير بن جناب الكلبي ممثل اليمينة

- ‌مدخل

- ‌يوم خَزَار:

- ‌حروب العدنانية فيما بينها

- ‌مدخل

- ‌حروب البسوس

- ‌حروب المضرية فيما بينهما

- ‌مدخل

- ‌يوم داحس والغبراء:

- ‌حروب الفجار

- ‌مدخل

- ‌الفجار الأول

- ‌الفجار الثاني

- ‌يوم نخلة:

- ‌الحروب بين القبائل العربية والمناذرة

- ‌مدخل

- ‌يوم السِّلّان:

- ‌يوم طخفة:

- ‌حروب العرب مع الأقوام الأخرى

- ‌مدخل

- ‌يوم الصفقة

- ‌مدخل

- ‌يوم الكلاب الثاني:

- ‌موقعة ذي قار

- ‌مدخل

- ‌أهمية معركة ذي قار ونتائجها:

- ‌الفصل الحادي عشر: القبائل العربية ومواطنها قبل الإسلام

- ‌مدخل

- ‌القبائل العدنانية في الشمال:

- ‌القبائل القحطانية في الشمال:

- ‌الفصل الثاني عشر: الحياة الاقتصادية عند العرب

- ‌مدخل

- ‌التجارة في الحضر:

- ‌تجارة مكة:

- ‌أسواق العرب

- ‌مدخل

- ‌سوق عكاظ:

- ‌حماية التجارة في الأسواق:

- ‌طرق البيع ومصطلحاته

- ‌مدخل

- ‌بيع المعاومة:

- ‌بيع المزابنة:

- ‌بيع التصرية:

- ‌بيع النَّجَش:

- ‌بيع الناجز:

- ‌الفصل الثالث عشر: الحياة الاجتماعية والتقاليد البدوية

- ‌مدخل

- ‌المرتبة الأولى: الشعب:

- ‌المرتبة الثانية: القبائل:

- ‌المرتبة الثالثة: العمارة:

- ‌المرتبة الرابعة: البطن:

- ‌المرتبة الخامسة: الفخذ:

- ‌المرتبة السادسة: الفصيلة:

- ‌العناصر التي تتألف منها القبيلة

- ‌مدخل

- ‌ الصرحاء:

- ‌ أبناء القبيلة بالنقلة:

- ‌ أبناء القبيلة بالاستلحاق:

- ‌ العبيد:

- ‌ الموالي:

- ‌الخلع والخلعاء:

- ‌السجايا العربية:

- ‌الأسرة:

- ‌الزواج:

- ‌الطلاق:

- ‌العلاقات ضمن الأسرة:

- ‌معاملة الأولاد:

- ‌الإرث:

- ‌الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌معارف العرب:

- ‌الفصل الخامس عشر: الحياة الدينية عند عرب الشمال

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني

- ‌مدخل

- ‌المعتقدات الوثنية

- ‌مدخل

- ‌عبادة مظاهر الطبيعة:

- ‌تقديس الأرواح وعبادتها:

- ‌تقديس الأشجار والأماكن والأشياء المادية:

- ‌عبادة الملائكة:

- ‌عبادة الأسلاف:

- ‌عبادة الجن:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌طقوس العرب العبادية:

- ‌البعث والحساب بعد الموت:

- ‌اليهودية في بلاد العرب:

- ‌النصرانية في بلاد العرب:

- ‌عبادة الله

- ‌مدخل

- ‌الاستهتار بالأصنام:

- ‌الحنيفية:

- ‌شجرة أنساب القبائل العربية

- ‌شجرة النسب القرشية

- ‌القبائل الشمالية العدنانية

- ‌قبائل مضر (فرع إلياس)

- ‌قبائل مضر (فرع قيس عيلان)

- ‌شجرة النسب القحطاني

- ‌شجرة نسب كهلان

- ‌مصار الكتاب

- ‌مسرد الموضوعات

الفصل: فكل ما كان للجاهليين من آراء ومذاهب وميول قد عبروا

فكل ما كان للجاهليين من آراء ومذاهب وميول قد عبروا عنها بالشعر، ففي الشعر كانت تنطلق نفوسهم على سجيتها، وتكشف عما تحب وتكره. وفي الشعر يعظمون القوة، ويمجدون الشجاعة والبطولة، بينما كرسوا النثر للخطب والوصايا، والأقاصيص والأمثال والحكم، وفيه كانت تتجلى آراؤهم ومناهج تفكيرهم1.

1 كمال يازجي: المصدر نفسه، ص23، 24.

ص: 276

‌معارف العرب:

صحيح أن العرب كانوا يؤمنون ببعض المعتقدات الخرافية، وكثير منها مقتبس من غيرهم، وما ذلك إلا لعجز عقولهم عن تكوين نظرة شاملة عن الكون واتساق حوادثه، وهذا ناتج عن طبيعة بيئتهم التي لم تهيئ لهم الاستقرار المادي والنفسي؛ ليتمكنوا من التفكير السليم والملاحظة الدقيقة الهادئة، والنظر في حوادث الكون، وربط النتائج بالأسباب، وتعليلها تعليلا منطقيا صحيحا، فآمنوا بوجود الجن والأرواح الخفية، وكونها العلل التي تجلب الأمراض والشرور، غير أنهم مع ذلك قد عرفوا صنوفا من الثقافة، تتناسب مع ما هيأه لهم مجتمعهم البدوي من فرصة النظر في الكون. فما كان منه متعلقا بالعلم والفلسفة، فقد كان مبنيًّا على التجربة القاصرة. ولذلك لا نستطيع أن نقول: إنه كان لديهم علوم، بل معارف اقتضتها ظروف حياتهم اليومية.

فإذا نظروا في السماء ورصدوا النجوم؛ فلكي تهديهم في أسفارهم، ويستدلوا بها على المواقع والمسالك التي يريدون سلوكها. ومع ذلك فقد هداهم نظرهم إلى معرفة مواقع الكواكب، وتنقلها في بروجها بين فصل وآخر من فصول السنة، وميزوا السيارة من الثابتة منها.

وقد ركزوا اهتمامهم على القمر الذي يهتدي به السارون، واستعملوا كالبابليين السنة القمرية والشهر القمري والتقسيم الأسبوعي للشهر. ولكنهم لما أدركوا عدم انطباق السنة القمرية على السنة الشمسية، وتتابع الفصول سنة بعد أخرى، لجئوا إلى ما يسمى بالنسيء -أي إضافة شهر إلى السنة القمرية كل ثلاث سنوات كي توافق السنة الشمسية- وقد أعطوا بعض الكواكب أسماء لا تزال معروفة حتى الآن مثل: عطارد، سهيل، العيوق،

ص: 276

الدبران، الزهرة، الثريا، المجرة، الفرقدان، السماكان، الشعريان. وسموا أولادهم بأسماء بعضها مثل: سهيل، هلال، الزبرقان1.

ومما يلاحظ أن معلومات العرب الجاهليين الفلكية عملية، ولا تعتمد على المسلمات العلمية والحساب، وكانت تتناقل بالرواية وتحفظ بالمران والمخالطة، ولم يُعن أحد بتدوينها أو التأليف فيها. ويظهر أن بعض معلوماتهم الفلكية قد تسربت إليهم من جيرانهم البابليين والكلدانيين في العراق.

أما الطب، فبالرغم من أنه كان يعتمد في كثير من الأحيان على التعاويذ والرقى والعزائم وطرد الجن من جسم المريض، أو بعبارة موجزة على الشعوذة، فإنهم قد اعتمدوا أيضا على التجربة. فقد عرفوا التداوي بالحشائش، واستعملوا البتر لمداواة الأعضاء الفاسدة في الجسم، والكي والحجامة ومداواة العيون وغير ذلك. كما كان لهم أطباء تعلموا في فارس أو بلاد الروم، فالحارث بن كلدة تعلم في فارس وتمرن فيها، وعرف تشخيص الداء ووصف الدواء. ونشأ ابنه النضر طبيبًا كأبيه، وهو الذي أمر الرسول بقتله، وكان قريبا له "ابن خالته"؛ لأنه حارب الدعوة الجديدة حربًا شعواء، وكان كثير الأذى للرسول2.

ومن وصف طرفة بن العبد لناقته بثلاثين بيتًا، جاء فيها قوله:

وجمجمة مثل العلاة كأنما

وعى الملتقى منها إلى حرف مبرد

وأروع نباض أحذّ ململم

كمرداة صخر في صفيح مصمد3

يتضح أنه لاحظ بعض الأمور من تشريح الحيوان، لا تدل على مجرد ملاحظة عابرة، بل على مشاهدة عاقلة وواعية، هي بعلم الطب والتشريح ألصق. فقد شبه جمجمة الجمل بالسندان، وأدرك أنها مؤلفة من عظام مسننة الأطراف، متداخلة يمسك

1 جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي: 3/ 12-15.

2 الألوسي: 3/ 327-335.

3 العلاة "السندان"، أحذ "ضامر"، ململم "مجتمع، مدور، مضموم"، مصمد "ملفوف في مثل المنديل".

ص: 277

بعضها ببعض. وكذلك وصف القلب بأنه ضامر مدور ملء اليد، قاسٍ كالحجر، ملفوف في مثل المنديل، فيه نبض وحركة1.

وقد عرف الجاهليون الكهانة، وكانت منصبًا دينيًّا يدعي صاحبه أنه قريب من الله يعرف الغيب، تُقدَّم إليه النذور، فيتقبلها باسم الأصنام التي يزعم أنه يترجم عن إرادتها، وينظر في النجوم.

ومارسوا العرافة، والعراف يشبه الكاهن في ادعائه معرفة الغيب، وكان مثله يطبب الناس روحيا ونفسيا بما هو أقرب إلى الشعوذة. وقد اشتهر من الكهنة والعرافين عدد من الرجال والنساء.

كما مارسوا القيافة، وهي تتبع الأثر على الرمال، ومعرفة بصمات الأقدام، وتمييزها عن بعضها، ولو تزاحمت وتراكمت. ولا يخفى ما لهذه المعرفة من أثر في الصحراء، حيث تقضي الحاجة الماسة بتتبع آثار اللصوص والفارين والشاردين والقوافل. ونبغوا في الفراسة وهي معرفة انتماء الأشخاص بمجرد التفرس في وجوههم، أو معرفة القرابة بين شخص وآخر بمجرد ملاحظة وجوههم وبعض أعضائهم. ومارسوا الريافة، وهي معرفة استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده، فيعرف بعده وقربه بشم التراب، أو برائحة بعض النباتات فيه.

وعرف عرب الجاهلية حركات الأنواء، وأحوال الجو، والاستدلال منها على تقلبات الطقس. وكانوا يستدلون على هطول المطر قبل نزوله بلون الغيوم، وعرفوا المسالك والاتجاهات، وهي نوع من المعارف الجغرافية تفيدهم في الأسفار، يهديهم إلى ذلك مسامتة الكواكب الثابتة ومنازل القمر، إذ لكل كوكب سمت يهتدى به2.

غير أن ملاحظاتهم كانت مبنية على تجربة ناقصة، قد تصيب حينا وتخطئ أحيانا، إنما لم تخلُ من ذكاء ونباهة في كثير من الأحيان.

1 د. عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص169-170.

2 الألوسي: 3/ 343، 344، 358، 361؛ عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص100-102؛ جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/ 12-25.

ص: 278

ومن بعض أبيات للنابغة الذبياني، نستدل أنهم عرفوا الحساب1، فقد قال في معلقته:

واحْكُمْ كحكم فتاة الحي إذ نظرت

إلى حمام سراع وارد الثمدِ

قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا

إلى حمامتنا مع نصفه فقدِ

فحسبوه فألفوه كما ذكرت:

تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزدِ

فكلمت مائة فيها حمامتها

وأسرعت حسبة في ذلك العددِ2

ولنلاحظ أن نقل هذه العملية الحسابية إلى علم الجبر، يعطينا المعادلة البسيطة التالية، على اعتبار أن العدد 66 هو عدد الحمام الذي أشارت إليه الفتاة3:

س + س/2 + 1 = 100

ولا نستطيع أن نقول: إنه كان للجاهليين فلسفة، غير أن كثيرًا من الخطرات الفلسفية نشاهدها في شعرهم، كقول زهير بن أبي سلمى:

رأيت المنايا خبط عشواء من تصب

تمته ومن تخطئ يُعَمر فيهرم

ومثل هذه الخطرات كثيرة في الشعر الجاهلي الذي نتبين فيه آراء كثيرة تتصل بالسياسة والعدل والحرية والحكم والأخلاق، ولا سيما في معلقتي زهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد.

ولطرفة بن العبد آراء في الأخلاق، تكاد تشبه آراء الفلاسفة الأبيقوريين في اللذة، ولا تختلف عن آراء هؤلاء إلا بكونها أكثر ميلًا إلى اللذة المادية، فهو يرى لذته في الخمرة، وإكرام الضيف واللهو مع النساء:

1 يذكر الألوسي أنهم كانوا يحسبون بواسطة عقود الأصابع، إذا وضعوا كلًّا منها بإزاء عدد مخصوص، ثم رتبوا لأوضاع الأصابع، آحادًا وعشرات ومئات وألوفًا، ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة "الألوسي: 3/ 397".

2 الألوسي: 3/ 383؛ والثمد: الماء القليل، وكلمة فقد: أي فحسب؛ ويقصد بفتاة الحي: زرقاء اليمامة.

3 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص169.

ص: 279

فلولا ثلاث هن من لذة الفتى

وجدك لم أحفل متى قام عودي

فمنهن سبقي العاذلات بشربة

كُمَيْتٍ متى ما تعل بالماء تزبد

وتقصير يوم الدجن والدجن معجب

ببهكنة تحت الخباء المعَمَّد

كريم يُرَوِّي نفسه في حياته

مخافة شرب في الممات مصرد

إنه يرى أن الغاية من الحياة هي اللذة المادية العاجلة، ثم إنه لا يبالي بموقف الناس منه في ذلك، ما دام هو وحده سيتحمل نتائج سلوكه:

وذرني وخلقي، إنني لك شاكر

ولو حل بيتي نائيًا عند ضَرْغَد

فقالوا: ذروه، إنما نفعها له

وإلا تردوا قاصي البرْك يزدد

وهو يريد أن يتمتع بهذه اللذائذ في الحياة؛ لأنه لن يكون بعد الموت شيء من ذلك1:

فذرني أروي هامتي في حياتها

ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدى

كما أننا نشاهد عند شعراء آخرين آراء تشابه ما قال به الدهريون والجبريون بعد ظهور الإسلام. والدهرية هم المؤمنون بأن الدهر قديم واجب الوجود، بل هو الله ينقلب بالإنسان كيف يشاء إلى أن يفنيه. والجبريون هم القائلون بأن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر إنما هو محتم عليه، مقدر بقدرة الخالق، ولا حيلة للإنسان فيه، فهو كالريشة في مهب الريح، لا إرادة له ولا قدرة على أفعاله.

فمن شعراء الجاهلية من تظهر في أشعاره النزعة الدهرية ممزوجة بالنظرة المادية الطبيعية، التي تفيد أن الحياة تقوم على تجمع العناصر الطبيعية، ويحل الموت بتحلل تلك العناصر "أو الطبائع". "فالطبع المحيي هو الذي يجمع هذه الطبائع ليهب الحياة، والدهر المفني هو الذي ينهك القوة ويسلب الحياة"2. يقول الشاعر تميم بن مقبل:

إن ينقص الدهر مني مرة لبِلى

فالدهر أورد بالأقوام ذو غير

1 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص171.

2 د. عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، 161-162.

ص: 280

أو كقوله طرفة بن العبد:

أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة

وما تنقص الأيام والدهر يَنْفَدِ1

ويظهر الجبر في الاعتقاد، بأن الموت حتم على كل حي في أجل معين، ليس فيه متقدم ولا متأخر. يقول عمرو بن كلثوم:

وإنا سوف تدركنا المنايا

مقدرة لنا ومقدّرينا

ويقول طرفة بن العبد:

ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى

وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟

فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي

فدعني أبادرها بما ملكت يدي

لعمرك، إن الموت ما أخطأ الفتى

لكالطول المرخى وثنياه باليد

أرى الموت أعداد2 النفوس ولا أرى

بعيدًا غدًا ما أقرب اليوم من غد

ويرى طرفة أن الإنسان لا ينال في هذه الحياة من خير أو غنى وكثرة ولد، ولا يصيبه فيها من شر أو فقر، إلا ما كان الله قد أراد له:

ولو شاء ربي كنت قيس بن خالد

ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد

فأُلفيت ذا مال كثير وعادني

بنون كرام سادة لمسود

ولكعب بن زهير مثل هذا الرأي في قوله:

فقلت: خلوا سبيلي لا أبا لكم

فكل ما قدر الرحمن مفعول

كل ابن أنثى وإن طالت سلامته

يومًا على آلة حدباء محمول

1 راجع عن دهرية العرب قبل الإسلام وديانة العرب "مجلة العربي الكويتية - عدد 168 ص49، مقال لمحمد الدش".

2 أعداد "بالفتح" إما جمع عديد من قولهم: هذه الدراهم عديد هذه الدراهم، أي مثلها في العدد، أو جمع عِدّ وهو الماء الجاري لا ينقطع، وهو المقصود في هذا البيت، إذ يقول الشاعر: إني لأجزم أن لكل نفس ميتة، فالموت شبيه بالماء الجاري غير المنقطع على نفوس البشر، ولكل نفس ميتة، وإن المرء وإن لم يمت اليوم مات غدًا، والناس جميعا سواء في ذلك، عاجلا أو آجلا.

ص: 281