الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فكل ما كان للجاهليين من آراء ومذاهب وميول قد عبروا عنها بالشعر، ففي الشعر كانت تنطلق نفوسهم على سجيتها، وتكشف عما تحب وتكره. وفي الشعر يعظمون القوة، ويمجدون الشجاعة والبطولة، بينما كرسوا النثر للخطب والوصايا، والأقاصيص والأمثال والحكم، وفيه كانت تتجلى آراؤهم ومناهج تفكيرهم1.
1 كمال يازجي: المصدر نفسه، ص23، 24.
معارف العرب:
صحيح أن العرب كانوا يؤمنون ببعض المعتقدات الخرافية، وكثير منها مقتبس من غيرهم، وما ذلك إلا لعجز عقولهم عن تكوين نظرة شاملة عن الكون واتساق حوادثه، وهذا ناتج عن طبيعة بيئتهم التي لم تهيئ لهم الاستقرار المادي والنفسي؛ ليتمكنوا من التفكير السليم والملاحظة الدقيقة الهادئة، والنظر في حوادث الكون، وربط النتائج بالأسباب، وتعليلها تعليلا منطقيا صحيحا، فآمنوا بوجود الجن والأرواح الخفية، وكونها العلل التي تجلب الأمراض والشرور، غير أنهم مع ذلك قد عرفوا صنوفا من الثقافة، تتناسب مع ما هيأه لهم مجتمعهم البدوي من فرصة النظر في الكون. فما كان منه متعلقا بالعلم والفلسفة، فقد كان مبنيًّا على التجربة القاصرة. ولذلك لا نستطيع أن نقول: إنه كان لديهم علوم، بل معارف اقتضتها ظروف حياتهم اليومية.
فإذا نظروا في السماء ورصدوا النجوم؛ فلكي تهديهم في أسفارهم، ويستدلوا بها على المواقع والمسالك التي يريدون سلوكها. ومع ذلك فقد هداهم نظرهم إلى معرفة مواقع الكواكب، وتنقلها في بروجها بين فصل وآخر من فصول السنة، وميزوا السيارة من الثابتة منها.
وقد ركزوا اهتمامهم على القمر الذي يهتدي به السارون، واستعملوا كالبابليين السنة القمرية والشهر القمري والتقسيم الأسبوعي للشهر. ولكنهم لما أدركوا عدم انطباق السنة القمرية على السنة الشمسية، وتتابع الفصول سنة بعد أخرى، لجئوا إلى ما يسمى بالنسيء -أي إضافة شهر إلى السنة القمرية كل ثلاث سنوات كي توافق السنة الشمسية- وقد أعطوا بعض الكواكب أسماء لا تزال معروفة حتى الآن مثل: عطارد، سهيل، العيوق،
الدبران، الزهرة، الثريا، المجرة، الفرقدان، السماكان، الشعريان. وسموا أولادهم بأسماء بعضها مثل: سهيل، هلال، الزبرقان1.
ومما يلاحظ أن معلومات العرب الجاهليين الفلكية عملية، ولا تعتمد على المسلمات العلمية والحساب، وكانت تتناقل بالرواية وتحفظ بالمران والمخالطة، ولم يُعن أحد بتدوينها أو التأليف فيها. ويظهر أن بعض معلوماتهم الفلكية قد تسربت إليهم من جيرانهم البابليين والكلدانيين في العراق.
أما الطب، فبالرغم من أنه كان يعتمد في كثير من الأحيان على التعاويذ والرقى والعزائم وطرد الجن من جسم المريض، أو بعبارة موجزة على الشعوذة، فإنهم قد اعتمدوا أيضا على التجربة. فقد عرفوا التداوي بالحشائش، واستعملوا البتر لمداواة الأعضاء الفاسدة في الجسم، والكي والحجامة ومداواة العيون وغير ذلك. كما كان لهم أطباء تعلموا في فارس أو بلاد الروم، فالحارث بن كلدة تعلم في فارس وتمرن فيها، وعرف تشخيص الداء ووصف الدواء. ونشأ ابنه النضر طبيبًا كأبيه، وهو الذي أمر الرسول بقتله، وكان قريبا له "ابن خالته"؛ لأنه حارب الدعوة الجديدة حربًا شعواء، وكان كثير الأذى للرسول2.
ومن وصف طرفة بن العبد لناقته بثلاثين بيتًا، جاء فيها قوله:
وجمجمة مثل العلاة كأنما
…
وعى الملتقى منها إلى حرف مبرد
وأروع نباض أحذّ ململم
…
كمرداة صخر في صفيح مصمد3
يتضح أنه لاحظ بعض الأمور من تشريح الحيوان، لا تدل على مجرد ملاحظة عابرة، بل على مشاهدة عاقلة وواعية، هي بعلم الطب والتشريح ألصق. فقد شبه جمجمة الجمل بالسندان، وأدرك أنها مؤلفة من عظام مسننة الأطراف، متداخلة يمسك
1 جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي: 3/ 12-15.
2 الألوسي: 3/ 327-335.
3 العلاة "السندان"، أحذ "ضامر"، ململم "مجتمع، مدور، مضموم"، مصمد "ملفوف في مثل المنديل".
بعضها ببعض. وكذلك وصف القلب بأنه ضامر مدور ملء اليد، قاسٍ كالحجر، ملفوف في مثل المنديل، فيه نبض وحركة1.
وقد عرف الجاهليون الكهانة، وكانت منصبًا دينيًّا يدعي صاحبه أنه قريب من الله يعرف الغيب، تُقدَّم إليه النذور، فيتقبلها باسم الأصنام التي يزعم أنه يترجم عن إرادتها، وينظر في النجوم.
ومارسوا العرافة، والعراف يشبه الكاهن في ادعائه معرفة الغيب، وكان مثله يطبب الناس روحيا ونفسيا بما هو أقرب إلى الشعوذة. وقد اشتهر من الكهنة والعرافين عدد من الرجال والنساء.
كما مارسوا القيافة، وهي تتبع الأثر على الرمال، ومعرفة بصمات الأقدام، وتمييزها عن بعضها، ولو تزاحمت وتراكمت. ولا يخفى ما لهذه المعرفة من أثر في الصحراء، حيث تقضي الحاجة الماسة بتتبع آثار اللصوص والفارين والشاردين والقوافل. ونبغوا في الفراسة وهي معرفة انتماء الأشخاص بمجرد التفرس في وجوههم، أو معرفة القرابة بين شخص وآخر بمجرد ملاحظة وجوههم وبعض أعضائهم. ومارسوا الريافة، وهي معرفة استنباط الماء من الأرض بواسطة بعض الأمارات الدالة على وجوده، فيعرف بعده وقربه بشم التراب، أو برائحة بعض النباتات فيه.
وعرف عرب الجاهلية حركات الأنواء، وأحوال الجو، والاستدلال منها على تقلبات الطقس. وكانوا يستدلون على هطول المطر قبل نزوله بلون الغيوم، وعرفوا المسالك والاتجاهات، وهي نوع من المعارف الجغرافية تفيدهم في الأسفار، يهديهم إلى ذلك مسامتة الكواكب الثابتة ومنازل القمر، إذ لكل كوكب سمت يهتدى به2.
غير أن ملاحظاتهم كانت مبنية على تجربة ناقصة، قد تصيب حينا وتخطئ أحيانا، إنما لم تخلُ من ذكاء ونباهة في كثير من الأحيان.
1 د. عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص169-170.
2 الألوسي: 3/ 343، 344، 358، 361؛ عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص100-102؛ جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/ 12-25.
ومن بعض أبيات للنابغة الذبياني، نستدل أنهم عرفوا الحساب1، فقد قال في معلقته:
واحْكُمْ كحكم فتاة الحي إذ نظرت
…
إلى حمام سراع وارد الثمدِ
قالت: ألا ليتما هذا الحمام لنا
…
إلى حمامتنا مع نصفه فقدِ
فحسبوه فألفوه كما ذكرت:
…
تسعًا وتسعين لم تنقص ولم تزدِ
فكلمت مائة فيها حمامتها
…
وأسرعت حسبة في ذلك العددِ2
ولنلاحظ أن نقل هذه العملية الحسابية إلى علم الجبر، يعطينا المعادلة البسيطة التالية، على اعتبار أن العدد 66 هو عدد الحمام الذي أشارت إليه الفتاة3:
س + س/2 + 1 = 100
ولا نستطيع أن نقول: إنه كان للجاهليين فلسفة، غير أن كثيرًا من الخطرات الفلسفية نشاهدها في شعرهم، كقول زهير بن أبي سلمى:
رأيت المنايا خبط عشواء من تصب
…
تمته ومن تخطئ يُعَمر فيهرم
ومثل هذه الخطرات كثيرة في الشعر الجاهلي الذي نتبين فيه آراء كثيرة تتصل بالسياسة والعدل والحرية والحكم والأخلاق، ولا سيما في معلقتي زهير بن أبي سلمى وطرفة بن العبد.
ولطرفة بن العبد آراء في الأخلاق، تكاد تشبه آراء الفلاسفة الأبيقوريين في اللذة، ولا تختلف عن آراء هؤلاء إلا بكونها أكثر ميلًا إلى اللذة المادية، فهو يرى لذته في الخمرة، وإكرام الضيف واللهو مع النساء:
1 يذكر الألوسي أنهم كانوا يحسبون بواسطة عقود الأصابع، إذا وضعوا كلًّا منها بإزاء عدد مخصوص، ثم رتبوا لأوضاع الأصابع، آحادًا وعشرات ومئات وألوفًا، ووضعوا قواعد يتعرف بها حساب الألوف فما فوقها بيد واحدة "الألوسي: 3/ 397".
2 الألوسي: 3/ 383؛ والثمد: الماء القليل، وكلمة فقد: أي فحسب؛ ويقصد بفتاة الحي: زرقاء اليمامة.
3 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص169.
فلولا ثلاث هن من لذة الفتى
…
وجدك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبقي العاذلات بشربة
…
كُمَيْتٍ متى ما تعل بالماء تزبد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
…
ببهكنة تحت الخباء المعَمَّد
كريم يُرَوِّي نفسه في حياته
…
مخافة شرب في الممات مصرد
إنه يرى أن الغاية من الحياة هي اللذة المادية العاجلة، ثم إنه لا يبالي بموقف الناس منه في ذلك، ما دام هو وحده سيتحمل نتائج سلوكه:
وذرني وخلقي، إنني لك شاكر
…
ولو حل بيتي نائيًا عند ضَرْغَد
فقالوا: ذروه، إنما نفعها له
…
وإلا تردوا قاصي البرْك يزدد
وهو يريد أن يتمتع بهذه اللذائذ في الحياة؛ لأنه لن يكون بعد الموت شيء من ذلك1:
فذرني أروي هامتي في حياتها
…
ستعلم إن متنا غدًا أينا الصدى
كما أننا نشاهد عند شعراء آخرين آراء تشابه ما قال به الدهريون والجبريون بعد ظهور الإسلام. والدهرية هم المؤمنون بأن الدهر قديم واجب الوجود، بل هو الله ينقلب بالإنسان كيف يشاء إلى أن يفنيه. والجبريون هم القائلون بأن كل ما يصيب الإنسان من خير أو شر إنما هو محتم عليه، مقدر بقدرة الخالق، ولا حيلة للإنسان فيه، فهو كالريشة في مهب الريح، لا إرادة له ولا قدرة على أفعاله.
فمن شعراء الجاهلية من تظهر في أشعاره النزعة الدهرية ممزوجة بالنظرة المادية الطبيعية، التي تفيد أن الحياة تقوم على تجمع العناصر الطبيعية، ويحل الموت بتحلل تلك العناصر "أو الطبائع". "فالطبع المحيي هو الذي يجمع هذه الطبائع ليهب الحياة، والدهر المفني هو الذي ينهك القوة ويسلب الحياة"2. يقول الشاعر تميم بن مقبل:
إن ينقص الدهر مني مرة لبِلى
…
فالدهر أورد بالأقوام ذو غير
1 عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، ص171.
2 د. عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي، 161-162.
أو كقوله طرفة بن العبد:
أرى العيش كنزًا ناقصًا كل ليلة
…
وما تنقص الأيام والدهر يَنْفَدِ1
ويظهر الجبر في الاعتقاد، بأن الموت حتم على كل حي في أجل معين، ليس فيه متقدم ولا متأخر. يقول عمرو بن كلثوم:
وإنا سوف تدركنا المنايا
…
مقدرة لنا ومقدّرينا
ويقول طرفة بن العبد:
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى
…
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي؟
فإن كنت لا تستطيع دفع منيتي
…
فدعني أبادرها بما ملكت يدي
لعمرك، إن الموت ما أخطأ الفتى
…
لكالطول المرخى وثنياه باليد
أرى الموت أعداد2 النفوس ولا أرى
…
بعيدًا غدًا ما أقرب اليوم من غد
ويرى طرفة أن الإنسان لا ينال في هذه الحياة من خير أو غنى وكثرة ولد، ولا يصيبه فيها من شر أو فقر، إلا ما كان الله قد أراد له:
ولو شاء ربي كنت قيس بن خالد
…
ولو شاء ربي كنت عمرو بن مرثد
فأُلفيت ذا مال كثير وعادني
…
بنون كرام سادة لمسود
ولكعب بن زهير مثل هذا الرأي في قوله:
فقلت: خلوا سبيلي لا أبا لكم
…
فكل ما قدر الرحمن مفعول
كل ابن أنثى وإن طالت سلامته
…
يومًا على آلة حدباء محمول
1 راجع عن دهرية العرب قبل الإسلام وديانة العرب "مجلة العربي الكويتية - عدد 168 ص49، مقال لمحمد الدش".
2 أعداد "بالفتح" إما جمع عديد من قولهم: هذه الدراهم عديد هذه الدراهم، أي مثلها في العدد، أو جمع عِدّ وهو الماء الجاري لا ينقطع، وهو المقصود في هذا البيت، إذ يقول الشاعر: إني لأجزم أن لكل نفس ميتة، فالموت شبيه بالماء الجاري غير المنقطع على نفوس البشر، ولكل نفس ميتة، وإن المرء وإن لم يمت اليوم مات غدًا، والناس جميعا سواء في ذلك، عاجلا أو آجلا.