الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والزجاج والأرجوان والأصبغة من صور وصيدا، واللؤلؤ من الخليج العربي، ويوزعونها في مختلف المناطق التي يتصلون بها. باختصار لم تكن تجارة ما تنتقل بين الشرق والغرب وبين الشمال والجنوب إلا على يدهم أو مرورًا بمدينتهم. وقد انتقلت حضارتهم مع توسعهم التجاري إلى المناطق المجاورة لهم. وكان للأنباط عملة خاصة بهم يعود فضل سكها لملكهم الحارث الثالث اقتباسًا من اليونان السلوقيين في أثناء حكمه لسورية.
كما عمل الأنباط في الزراعة، إذ حفروا الآبار وجمعوا مياه السيول في صهاريج حفروها في الصخور، ووصلوا بعضها ببعض بأقنية نقبت في الصخر، وقد وجهوا إليها مياه الأودية والسيول، واستعملوها في المدينة، وفي الحقول للشرب وللزراعة. هذه الصهاريج تعتبر الآن من الآثار المهمة في البتراء، وهي مربعة الشكل لها فوهات ضيقة حتى إذا امتلأت الصهاريج أحكموا سد هذه الفوهات واستخدموا كل ما أُوتوا من مهارة ليخفوها عن الأنظار، فيجعلون عليها علامات لا يعرفها سواهم؛ لترشدهم إليها عند الإيجاب بينما يستحيل على الأعداء -فيما إذا هاجموهم- أن يعثروا عليها فيموتون عطشًا في هذه المنطقة الجافة المحرومة من المياه الطبيعية.
أما صناعتهم: فإنها قد تركزت في صنع الأواني الخزفية، وقد أتانا منهم العديد من القطع التي تعتبر أحسن نوع من أنواع الخزف التي أنتجتها منطقة الشرق الأدنى. منها كئوس وفناجين وصحون وأباريق وطاسات في غاية الرقة، وهي تدعو إلى الإعجاب بهذه الرقة التي لا تتجاوز رقة قشرة البيضة، مما يشهد بتفوق صناعتها. وثمة أنواع مختلفة منها: كالبسيط الخالي من الزخارف، أو المدهون المزخرف برسوم تغلب عليها أشكال الزهور أو الأوراق المنحوتة بترتيب هندسي، وهي على الأكثر من أوراق الكرمة وعناقيد العنب، تظهر على الأواني الخزفية والفخارية كما تظهر في الزخارف المعمارية. وفي رأي العلماء وخبراء الفن، أن الأنباط كانوا في الفن والبناء والهندسة وفي الصناعة الخزفية من ذوي المواهب العالية ومن أكثر الشعوب براعةً1.
1 حتي: المصدر السابق، ص431.
العمران النبطي:
وأما عمران الأنباط فإنه من النوع الفريد المدهش؛ ذلك أن معظم ما يشاهد فيها
الآن من أبنية جميلة إنما هو منحوت في الصخر، وتشكل آثارها تراثًا فنيًّا رائعًا يجذب إليها السياح، وتفيد المملكة العربية الأردنية من ريعها. ويتبع العمران النبطي أساليب فنية وزخرفية نافرة متأثرة بالفن "الهللنستي" الذي كان سائدًا في سورية ومصر في أثناء حكم السلوقيين والبطالمة. وهو فن مزيج من عناصر هللينية "يونانية" في الأصل خضعت لتأثيرات وأوضاع شرقية طورته. والملك الحارث الثالث هو الذي أدخل مملكته ضمن محور الحضارة الهللنستية، فأعطي لقب "محب الهللينية" إذ استقدم الصناع السوريين فأدخلوا معهم نماذج هللنستية تبدو ملامحها على الواجهة الجميلة لبناء يسمى اليوم "هيكل الخزنة" في البتراء، كما يبدو أن المسرح المدرج قد بني في زمن الرومان، ومن حينها بدأت العاصمة النبطية تتخذ مظاهر مدينة هللنستية نموذجية1. وبالإضافة إلى السمات الهللنستية نشاهد على عمائر البتراء السمات الفنية المصرية والآشورية واليونانية والرومانية، مما يدل على أنها خضعت لمزيج من التأثيرات الفنية المتنوعة2.
وآثار البتراء مجموعة من الهياكل والمذابح والمدافن وصهاريج الماء، بالإضافة إلى شارع رئيسي جميل، وإلى مسرح مدرج يتسع لثلاثة آلاف متفرج. وتبدو الصخور التي نحتت فيها هذه الأبنية بألوان متعددة يغلب عليها عموما اللون الوردي، مما دعا أوائل الذين اكتشفوا آثارها إلى تسميتها باسم "المدينة الوردية".
ومن أهم ما نشاهد فيها بناء شامخ على واجهته نقوش وكتابات بالقلم النبطي، وهو مؤلف من طبقتين نُقر في واجهتهما صَفَّانِ من الأعمدة الكورنثية الجميلة، والرسوم والأفاريز البديعة المزخرفة التي تعتبر من آيات الفن الرائعة. وفي أعلى الطابق الثاني ترس مثلث داخله كتلة بيضية الشكل تشبه الجرة؛ ولذا اعتقد أعراب تلك المنطقة بأنها خزنة فرعون فغلب على البناء اسم "هيكل الخزنة". وفيها أيضًا بناء آخر يسمى "الدير" يقع في مرتفع من الأرض، يظهر أنه كان مخصصا لعبادة الإله "دوشارا = ذو الشرا" وقد نحت على أسلوب البناء السابق، لكنه لا يدانيه في دقة زخارفه وجماله. وبالقرب من هذا البناء مقابر ملكية على شكل بروج واجهتها تشبه واجهة الدير. وفي البتراء كثير من القبور
1 فيليب حتي: المصدر السابق، ص420.
2 د. جواد علي: 3/ 51.