الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الدولة التدمرية
مدخل
…
الدولة التدمرية
نشأت تدمر في الظروف نفسها التي نشأت فيها دولة الأنباط بصفتها محطة تجارية في واحة تقع في طرف البادية، التي تفصل الشام عن العراق، وتحيط بها مناطق صحراوية، وهي تقع إلى الشرق من مدينة حمص على بعد لا يتجاوز 165كيلومترًا عنها. وكان لموقع المدينة على طرق القوافل التي تسير بين بلاد الشام والعراق، ولوجود آبار المياه العذبة والحلوة ومجاري المياه المعدنية فيها فضل كبير على نشوئها وارتقائها من محطة للقوافل إلى مدينة عامرة، بعد أن استقرت فيها بضع قبائل عربية لم يتأكد بعد المكان الذي أتت منه، إنما يعتقد بعض المؤرخين المحدثين أنها أخذت تسكن شرقي إقليم كنعان بعد سقوط الدولة البابلية، وبدأت تتعلم التكلم والكتابة باللغة الآرامية1. كما أثرت في نشوئها عوامل سياسية، ذلك أنها كانت تقع بين إمبراطوريتين كبيرتين: البارثية Parthia والرومانية المتعاديتين، فحافظت على توازنها واستقلالها بينهما زمنا طويلا، مستغلة موقعها المنعزل في قلب الصحراء، وصعوبة وصول الفرق الفارسية والرومانية إليها لإخضاعها2، وحرص كل من الطرفين على استمالتها لجانبه.
على أن أهميتها وازدهارها كانا بين مد وجزر تبعًا لميزان العلاقة بين حكام العراق وفارس من آشوريين وبارثيين وساسانيين من جهة، وبين حكام سورية من سلوقيين ورومان من جهة أخرى. إذ كانت تتقدم وتزدهر عندما تتمكن إحدى هذه الدول من السيطرة على المنطقة برمتها من البحر المتوسط إلى العراق، وتصبح تدمر عقدة المواصلات بين الشرق والغرب، فتنتعش انتعاشًا كبيرًا، لكنها تتأخر عندما تسوء العلاقات بين حكام
= رحيل نفر منهم إلى العراق أو الشام، حيث اقتبسوا من أهلهما الكتابة ثم عادوا وبعضهم يكتب الكتابة بالحرف النبطي، وبعضهم الآخر بالعبراني أو السرياني. لكن النبطي والسرياني ظلا عندهم إلى ما بعد الفتوح الإسلامية، فتخلف عن الأول الخط النسخي "الدارج" وعن الثاني الخط الكوفي نسبة إلى مدينة الكوفة. وكان الخط الكوفي يسمى قبل الإسلام باسم "الحيري" نسبة إلى الحيرة، وهي مدينة عرب العراق قبل الإسلام، وقد ابتنى المسلمون الكوفة بجوارها.
"جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي 3/ 58".
"سهيلة ياسين الجبوري: المرجع نفسه 22-23".
1 د. جواد علي: 3/ 76، محمود كامل المحامي: الدولة العربية، ص21.
2 فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين 1/ 433.
المنطقتين فتقوم الحروب وتفقد ميزتها كوسيط تجاري بين الجهتين فيتحول النشاط التجاري إلى شواطئ البحر الأحمر.
فقد انْصَبّ نشاط التدمريين على خدمة القوافل، يتولون قيادتها والإشراف على صيانة آبار الماء على الطرق التي تسلكها. كما أن تعرض القوافل أحيانًا للاعتداء والنهب من قبل قطاع الطرق واللصوص قد دفعهم إلى تأمين سلامتها من هذه الأخطار، وهكذا فإننا نجد في النقوش التدمرية القديمة ترديدًا لذكر "رئيس الخفر" الذي تسير القوافل في ظل سطوته، وقد بلغ من النفوذ ما يخوله أن يفعل ما يشاء ولا يلقى معارضًا، وكان إلى جانبه موظف آخر يسمى "رئيس السوق".
إن تاريخ تدمر خلال الألفين الثانية والأولى قبل الميلاد غامض، غير أن أقدم ذكر لها، باسمها المعروف الآن "تدمر"، قد ورد في نقشين كتابيين أولهما يعود إلى عام 1800 ق. م، والثاني إلى عهد الملك الآشوري "تغلات فلاسر" الأول عام 1100 ق. م. ويختلف الباحثون حول منشأ هذا الاسم ويفرضون بعض الاحتمالات منها: أن لفظ "Palmyra" الذي عرفها به اليونان والرومان يعني النخيل في اللغة اللاتينية، فهي على هذا الاعتبار "مدينة النخيل" وكلمة "تدمر" تقابل في العبرانية كلمة "تامار" التي تعني التمر، وهو الأمر الذي حدا بأحد المؤرخين العبرانيين إلى الخلط بين "تدمر" وبين بلدة يهودية أخرى تسمى "تامار" في جنوب البحر الميت، فروى أن سليمان الحكيم هو الذي بناها؛ فانساق بعض المؤرخين المسلمين وراء هذا الخلط فرددوا أسطورة كون المدينة قد بنيت من قبل الجن بأمر من سليمان1، لاعتقادهم أن ما تشتمل عليه من روائع عمرانية هي فوق طاقة الإنسان2. أما الساميون والكتاب الكلاسيكيون فقد عرفوها منذ أقدم العصور باسم "تادامورا Thadamora"
1 فيليب حتي: تاريخ سورية ولبنان وفلسطين، 1/ 422؛ د. جواد علي: 3/ 71-75.
2 وفي ديوان النابغة الذبياني قوله:
إلا سليمان إذ قال الإله له
…
قم في البرية فاحددها عن الفند
وخيس الجن، إني قد أذنت لهم
…
يبنون تدمر بالصفاح والعمد
احددها: امنعها، الفند: الخطأ، خيس: ذلل، الصفاح: الحجارة الكبيرة.
وإذا رجعنا إلى أخبار تدمر نرى أن أقدمها لا يعود إلى أبعد من القرن 9 ق. م. وقد كشف العلماء عن نقوش مكتوبة بالآرامية واليونانية ثم باللاتينية والآرامية، وهي وبعض الكتب الكلاسيكية القديمة تعطينا فكرة نوعًا ما واضحة عن تاريخها، ويستدل منها أن عوامل عديدة قد تضافرت على نشوئها. وأهم هذه العوامل كون الفرس قد سيطروا على آسيا الغربية بأكملها بين القرنين السادس والرابع قبل الميلاد، الأمر الذي أعان على توسع النشاط التجاري بين الشرق الأقصى وسورية وتركيا عبر العراق، وكانت تدمر المحطة الرئيسة، إذ كانت بمثابة العقدة المتوسطة في العمود الفقري لهذه المواصلات. وقد احتفظت بمكانتها حتى عهد السلوقيين الذين وحدوا بدورهم سورية والعراق وشجعوا طريق التجارة بينهما مرورًا بتدمر؛ لينافسوا بذلك غرماءهم البطالمة في مصر الذين كانوا يحرصون على ازدهار الطريق التجاري الذي يمر بالبحر الأحمر، فاستفادت تدمر استفادة عظيمة من هذه السياسة وانتعشت، بالرغم من أنها وقعت تحت نفوذهم على الأغلب، وبقيت كذلك حتى استيلاء الرومان على الشرق الأدنى.
غير أن تاريخ خضوعها للرومان لا يمكن تحديده على وجه الدقة. ويظهر أن ازدهارها وغناها قد أغراهم؛ فاستهدفت لحملة رومانية بقيادة "مرقس أنطونيوس" الذي كان عائدًا من حرب شنها على الفرس في الشرق، فأرسل سنة 41 ق. م. إلى أهل تدمر ينبئهم بأنه سيمر بمدينتهم للاستراحة، بينما كان يضمر الاستيلاء عليها. ففطنوا إلى المكيدة، وأخلوا مدينتهم من كل ما تحوي من أموال ومتاع ثمين، واستعدوا لقتاله وأحبطوا حملته، ولكن بعد أن أحدث بعض التخريب فيها1.
لكنها ربما تكون قد خضعت للرومان في الربع الأخير من القرن الأول للميلاد، بعد أن أخضع الرومان بلاد الشام لسيطرتهم وسيادتهم. وإذا استثنينا بعض الأحوال التي لجأ فيها الرومان إلى سياسة القسر والإخضاع، فإن العلاقات الودية قد ظلت سائدة بين روما وتدمر لمدة طويلة. ففي سنة 130م زارها الإمبراطور "هدريان" -وهو الذي بدأ عهده بعلاقات سلمية مع البارثيين- ولقبها بلقب "هادريانا بالميرا" ومنحها درجة "مستعمرة
1 د. جواد علي: 3/ 75.
رومانية عليا" فنال التدمريون حقوق الإيطاليين في الملكية المطلقة، وأُعفيت تجارتهم من الضرائب، ومنحت لهم حريتهم التامة في إدارة سياستهم.
وهكذا انتعشت تدمر اقتصاديًّا كما انتعشت سياسيًّا؛ ذلك أنها لم تخضع لروما إلا خضوعا اسميا وشكليا، إذ كانت في الواقع مستقلة في أمورها الداخلية، واحترم "هدريان" هذا الاستقلال الذي قامت على توطيد أركانه سلطة تنفيذية يرأسها شيخان وبجانبهما ديوان مؤلف من عشرة أعضاء، بالإضافة إلى مجلس شيوخ يتمتع بحق إصدار القوانين وتقرير الضرائب، فازدهرت واتسعت تجارتها وتضخمت ثروتها ونشط عمرانها، وعاشت بين سنة 130-170م أزهر أيامها1.
ومما زاد من أهمية تدمر السياسية أن تطورات مهمة قد حدثت في مملكة الفرس، ففي القرن الثالث الميلادي اغتصبت الأسرة الساسانية العرش من الأسرة البارثية، واتبعت سياسة العنف مع جيرانها، فتجددت الحروب بينها وبين الرومان. وكان الحكم آنئذٍ لأسرة وطنية عريقة يقوم على رأسها زعيم يسمى "أذينة بن خيران" الذي وصل إلى منصب عضو في مجلس الشيوخ الروماني وحمل لقب "سبتيم" فأحسنت هذه الأسرة الاستفادة من هذه الحروب والحصول على مركز مرموق عند الرومان. كما استغلت المشاكل الداخلية المختلفة التي كانت تحيط بالإمبراطورية، إذ تعرضت لغزوات الجرمن البرابرة التي كانت تهددها من الشمال، فأهملت شئون الشرق، فانصرف اهتمام حكام تدمر إلى تكوين جيش من المليشيا مؤلف من القبائل الموالية لهم، ومن العناصر التدمرية المسرحة من الجيش الروماني، أو التي اضطرتها حالة الفوضى إلى ترك الخدمة العسكرية، أو فرت من المعارك الناشبة بين الفرس والروم.
واعتنى حكامها بتسليح وتقوية جيشهم حتى أصبح في المستوى الذي يسمح لهم بأن يقوموا بدور سياسي وعسكري مهم في سياسة الشرق. وقد اضطلع به زعيم الأسرة أذينة الأول الذي نسبه الطبري إلى العرب العمالقة، قائلًا: إنه أذينة بين السميذع بن هوبر العملقي. فقد تقرب من القياصرة وأظهر لهم من التأييد ما أكسبه ودهم وعطفهم على أسرته، فمنحوه الألقاب والأوسمة والمال، كما أرضوا طموحه بمنحه درجة العضوية في مجلس
1 د. جواد علي: 3/ 87.
الشيوخ الروماني وكان لقبه الرسمي "رأس تدمر" غير أن طموحه لم يقف عند حد فأطلق على نفسه لقب "ملك". عندئذ أدرك الإمبراطور "إسكندر سيفيروس Alexandre Severus" ما يكمن وراء هذا التصرف من مخاطر تهدد الإمبراطورية في الشرق، بالإضافة لما أصبح لأسرته ولتدمر من نفوذ يوحي بطموحها للاستقلال التام عن روما، فأوعز إلى أعوانه بتدبير خطة لقتله، فاعتلى ابنه الأكبر سبتيموس خيران الحكم، لكن المنية سرعان ما أدركته ولم يزل ابنه معن صغير السن قاصرًا، فتولى الحكم عمه "أذينة الثاني" بن "أذينة الأول".
في هذه الفترة وقعت الحرب بين الرومان والفرس، وتقدم الملك "سابور" الفارسي نحو الغرب، فاجتاح ولاية أنطاكية، وأحرز الغلبة على الإمبراطور "فاليريان" وتمكن من أسره "260م". ويظهر أن "أذينة الثاني" قد اغتنم هذه الفرصة للانتقام لوالده، لا سيما وأن فاليريان كان قبل أسره قد رفض طلبًا قدمه إليه أذينة بوجوب إنزال العقاب بقاتل والده، فأرسل إلى "سابور" رسلًا للتفاوض معه في سبيل العمل المشترك ضد الرومان في بلاده الشام، فلم يكن من الملك الفارسي إلا أن استخف بالرسل وبمن أرسلهم وأهانهم. عندئذٍ تحول "أذينة" إلى الرومان الذين بادروا إلى الاستنجاد به فخف لمساعدتهم، وحارب الفرس ليرد الإهانة التي وجهوها إليه وانتصر عليهم وتعقب ملكهم سابور حتى أبواب عاصمته طيسفون "المدائن" وألحق بمملكته خسائر فادحة، فأنعمت عليه روما بلقب قائد عام على جميع جيوش الشرق "Due romanorum"1 أو "Due Orientis". وفي هذه الحملة كادت العاصمة الفارسية أن تسقط في يديه، لولا أن بلغة خبر ثورة قام بها أحد قادة الرومان لاقتطاع آسيا الصغرى وسورية ومصر، فخف لقمع الثورة وقضى على القائمين بها، فأضافت إليه الدولة لقبًا جديدًا "إمبراطور على جميع أنحاء الشرق" مكافأة له على أعماله في نصرتها. لكن "أذينة" لم يكتفِ بهذه الألقاب بل اتخذ لنفسه لقب "ملك الملوك" وضرب النقود باسمه. فهل يستدل من تصرفه هذا أنه لم يقم بمساعدة الرومان إلا في سبيل تقوية مركزه، ونفوذ أسرته ودولته تمهيدًا لتحقيق مراميه السياسية؟ هذا هو الذي يغلب على الظن لأول وهلة، لكن فقدان الأدلة والأحداث التالية تقلل من هذا الظن.
1 د. جواد علي: 3/ 89 Rene'groussel: L'Empire du levant، p. 26.