الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الخطوط المستقيمة المتعامدة التي يستند بعضها على بعض، وتتألف أبجديتها من "29" حرفًا هي الحروف العربية الـ 28، مضافًا إليها السين الثانية وهي مقتبسة من الأبجدية التي كشف عنها مؤخرًا في "سرابيط الخادم" بسيناء، والتي تبين أنها أصل للأبجدية الفينيقية أيضا، إذ كان كل من العرب والفينيقيين قد تأثروا بها واستوحوا منها بعض الإشارات، وأما أبجدية سيناء فقد تكون محورة عن الخط المصري القديم بحيث اقتبست أو استوحت منه الإشارة الدالة على المخارج الصوتية، وأهملت الإشارات الدالة على المعاني، فأحالت النظام الهجائي المعقد في الكتابة المصرية إلى نظام هجائي مبسط سهل الاستعمال. والكتابة اليمنية القديمة ليس لحروفها حركات في أواسط الكلم تحدد النطق بها؛ لذلك فإن ضبط النطق بها مسألة تخمينية. وتكتب الكلمات بحروف منفصلة عن بعضها كالكتابة الأوروبية، ويفصل بين كل كلمة وأخرى بخط عمودي. وأخيرًا فإن نسق الكتابة اليمنية من اليمين إلى الشمال. وقد وجدت بعض الكتابات التي سار فيها النسق على الشكل الحلزوني، أي: إن أول سطر من الكتابة يسير من اليمن إلى الشمال ويتبعه السطر الثاني من الشمال إلى اليمين، ثم الثالث من اليمين إلى الشمال، وهكذا دواليك.
الديانة:
كانت ديانة عرب الجنوب أرقى من ديانة عرب الشمال، ولو أن الديانتين وثنيتان؛ ذلك أن مجتمع الجنوب كان عريقا في حضارته، ولهذا نجد فيه شعائرَ وطقوسًا ثابتة، وله معابد وهياكل منتشرة في كل مكان مأهول، مما لا نجد له مثيلًا لدى عرب الشمال سوى الكعبة.
وفي بحث ديانة عرب الجنوب كان الاعتماد على الآثار والكتابات المكتشفة أكثر من الاعتماد على كتب المؤرخين العرب. وقد ذكرت النقوش أسماء معابد كثيرة إلى جانب أكثر من مائة إله، بعضها كان يعبد في جميع أرجاء البلاد، وبعضها كان من الآلهة المحلية.
كان لليمنيين هياكل فيها رموز لآلهتهم يحملون إليها ربح تجارتهم، فيحتجز سدنتها ثلث الأموال التي يحملها التجار إليهم، ويتركون الباقي لأصحابها. هذا عدا ما يقدمه الأهالي من ضحايا وهدايا وبخور للآلهة في شكل قرابين؛ كي تبارك أعمالهم وتمنحم الصحة والبركة.
وأهم الآلهة التي عبدت في الجنوب ثلاثة: القمر والشمس وكوكب الزهرة1، وهي لم تصور آنذاك في أشكال آدمية؛ إذ لم تكن الصور والتماثيل معروفة لديهم. وهذه التماثيل إن وجدت عند عرب الشمال فالمعتقد أنها كانت دخيلة عليهم، أتتهم من شعوب شمالية سامية أخرى. أما الرموز التي عبر بها عرب الجنوب عن هذه الآلهة، فنشاهدها في الألواح التي عثر عليها بين أنقاض المعابد المكتشفة، حيث استعمل رمز الهلال الأفقي للدلالة على القمر وقرص الشمس المشع للدلالة على إله الشمس، والنجمة للدلالة على الزهرة، وكثيرًا ما استُعْمِل رأس الثور وقرناه رمزًا للدلالة على إله القمر.
على أن الإله الذي هيمن هيمنة مطلقة على عقول الجنوبيين وخص بكثير من الأسماء والألقاب، ونال القسط الأوفر من الاعتبار هو القمر، بينما نرى أن الذي يلعب هذا الدور عند الشعوب السامية الشمالية في الهلال الخصيب هي الشمس. والواقع أن ديانة العرب قمرية، وديانة بقية الشعوب السامية شمسية، وقد يكون للعوامل الجغرافية والمناخية الأثر الكبير في ذلك؛ بسبب أن الشمس محرقة منهكة، بينما يكون ظهور القمر مرافقًا لليالي ذات النسيم العليل، كما يكون في الوقت نفسه دليلًا للحادي، وهاديًا للقافلة، وسميرًا للقبيلة. وكثيرًا ما نرى لفظ "القمرين" يطلق على الجرمين السماويين الشمس والقمر تكريمًا لاسم القمر2.
وفي النقوش التي عثر عليها في الجنوب ما يشير إلى أن القمر والشمس والزهرة تؤلف ثالوثا إلهيا مكونا من أب وأم وابن، فهي أسرة إلهية سماوية مقدسة، باعتبار أن القمر هو الزوج، والشمس هي الزوجة، وعثتر أو عطار هو الابن.
على أن زواج القمر بالشمس يبدو وكأنه اعتقاد عالمي معروف عند أغلب الشعوب القديمة، وهو مبني على ملاحظات فلكية المظهر، إذ يلاحظ في كل شهر سير القمر في السماء مسرعًا حتى إذا جاء وقت يوشك فيه على الاضمحلال تمكن من اللحاق بالشمس في الوقت الذي يأخذ في الاختفاء التدريجي حتى يضمحل تماما، ليولد بعد ذلك هلالًا
1 عرف هذا الكتاب آنذاك بأسماء عديدة منها: عثتر وعطار، وسماه العرب فيما بعد: النجم الثاقب أو الزهراء وهو كوكب، المصباح المنير.
2 "دتلف نلسن وفرتز هومل": تاريخ العرب القديم، ص 206-207.
صغيرًا، بعد أن يكون قد لحق بالشمس ثلاث ليالٍ متتالية، ثم يأخذ في النمو والبعد عنها ليبدأ دورته الجديدة في مطاردتها، وهكذا دواليك في كل شهر. فملاحقة القمر للشمس واختفاؤه معها ثلاث ليال شهريا حمل الإنسان الفطري في معظم المجتمعات القديمة على الاعتقاد بأن ذلك إنما هو زواج سماوي.
ولعل مفهوم هذا الزواج هو الذي أكسب القمر اسم "بعل" وهو من أسماء إله القمر عند الساميين؛ ولذا نرى أن اسم الإله "بعل" كثير الورود عندهم، وهو يعطي أيضا معنى "سيد".
وليست الأسرة الإلهية مقتصرة على هذا الثالوث المقدس، فللقمر والشمس أبناء آخرون هم سائر نجوم السماء، فكما اعتقدت بعض الشعوب القديمة والحديثة أن جميع البشر هم أبناء لآدم وحواء، كذلك اعتقدت شعوب سبقتها ودانت بالوثنية أن سائر الكواكب السماوية هي منحدرة من آدم وحواء سماويين هما القمر والشمس. غير أن هذه الكواكب ليست في مرتبة الابن "عثتر = الزهرة" الذي يتمتع بمرتبة ممتازة، ولكنها مع ذلك لم تعتبر في منزلة البشر بل في منزلة أعلى منهم، إنها جعلت في مرتبة ما عرف فيما بعد في الإسلام باسم "الملائكة".
وفي الكتابات الجنوبية نجد ما يشير إلى أن لفظ "ملك" كان لقبًا من ألقاب الآلهة، وإلى أن الملك كان يعبد بوصفه إلهًا، ربما كممثل أرضي للإله "عثتر" الذي قد يكون نزل إلى الأرض وتقمص شخصية الملك حسبما يظن أنهم كانوا يعتقدون. وهذاالحلول في الملك ربما يكون قد حصل عند ولادة الملك أو قبل ذلك. فالملك العربي، بهذا الاعتبار، لم يولد ولادة عادية كسائر البشر، إنما ولد من سلالة إلهية.