الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التجارية، التي كانت تخترق شبه جزيرة العرب طولًا وعرضًا، قد استخدمتها محطات تستريح فيها من عناء السفر، فارتقت إلى مدن زاهرة، أسهمت في التجارة، وتحضرت وأَلِف سكانها حياة الاستقرار، بينما ثابرت سائر مناطقه على حياتها البدوية المألوفة. ولذا يمكن الحديث عن فئتين من سكان الحجاز:
1-
عرب مستقرون من أهل المدن، تحضروا وبنوا المساكن من الحجارة والطين فسموا "أهل المدر".
2-
عرب رحَّل من أهل البوادي، ثابروا على حياتهم القبلية المتنقلة، واعتمدوا على الغزو والرعي، وعاشوا تحت الخيام المصنوعة من الوبر، فسموا "أهل الوبر".
ولم تلبث مدن الحجاز المتحضرة مثل مكة ويثرب والطائف أن ارتقت، فأنشأ بعضها كيانات سياسية واجتماعية على شيء غير يسير من التنظيم، فهي جديرة إذن بالدراسة والاهتمام. وتأتي في مقدمة هذه المراكز الحضرية مدينة:
مكة:
التي تقع في وادٍ جديب غير ذي زرع، وفي منطقة جافة قارِّية المناخ حارة جدا في الصيف، إذ تشرف عليها جبال جرد تزيد في قساوة مناخها. ومع أن أمطارها قليلة، قد تمر سنة أو سنتان أو ثلاث لا تهطل عليها قطرة من المطر، فإنها حينما تهطل -وكثيرًا ما يحدث ذلك فجأة- تكون من الغزارة والقوة بحيث تشكل سيولا تنحدر في الشعاب والوديان وتهدد الكعبة أحيانا، بل قد تغمر جوانبها لأيام عديدة وتترك في إثرها ركامًا من الطين والحصى1.
إن مكة بلدة قديمة، ذكرها بطليموس الإسكندري الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، في كتابه الجغرافي باسم "مكورابا Macoraba" ولا بد أنها أقدم منه بكثير، غير أننا لا نجد كتابة جاهلية تدلنا على اسمها القديم. وإذا صحت تسمية بطليموس، ولم تكن محرفة عن الأصل، فهي تقابل لفظة "مكرب" التي تقدم معنا أنها
1 Emile Dermenghem: La vie de mahomet، P. 25.
كانت تطلق لقبًا على حكام قتبان وسبأ، قبل أن يتلقبوا بألقاب "ملوك" وتعني مفهوم "مقرب" في لغتنا؛ لأن مكة تقرب إلى الإله1. وفي رأي بعض المؤرخين أن اسمها الحالي "مكة" مشتق من لفظة "مكا" البابلية التي تعني "البيت" وقد ورد ذكرها في القرآن الكريم باسم "بكة" في قوله تعالى:{إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِين} 2، كما ورد باسم مكة:{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} 3، ويعلق بعضهم على ذلك بقولهم: إن مكة اسم المدينة، وبكة اسم البيت. كما ذهب بعض المؤرخين في تفسير هاتين التسميتين مذاهب لغوية ودينية، استنبطوها من مكانة الكعبة وقدسيتها، كقولهم: إن تسميتها "مكة" جاءت من كونها تمك الجبارين، أي: تذهب نخوتهم، وتسميتها "بكة" لازدحام الحجاج فيها "يبك بعضهم بعضًا بكًّا"4. وهذه التفسيرات متأخرة ولا شك، واسم مكة لا بد أن يكون سابقا لهذه المفاهيم5، على أن أهمية مكة تعود إلى عوامل عديدة أهمها: كعبتها التي وصفت بكونها "البيت العتيق".
أما بناء الكعبة فينسب إلى إبراهيم الخليل "عليه السلام". وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد ذلك: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيم} 6. لكن ما أغضى عنه القرآن من قصة قدوم إبراهيم إلى مكة، أفاض فيه الأخباريون، ورواياتهم في واقع الأمر مقتبسة من الإسرائيليات، فقالوا: إن مجيئه كان بوحي من الله، إذ أمره بالمسير إلى بلده الحرام. فقصد وزوجته هاجر وابنه إسماعيل مكة، وأنزلهما في مكان زمزم اليوم، ثم انصرف راجعًا إلى الشام7. هذه الخلاصة
1 د. جواد علي: 4/ 188.
2 آل عمران: 96.
3 الفتح: 24.
4 ياقوت الحموي: معجم البلدان، مادة مكة. وفي تفسير فعل مَكَّ يورد ياقوت بيت شعر:
يا مكة الفاجر مكي مكًّا
…
ولا تمكي مذحجًا وعكا
5 أحمد إبراهيم الشريف: مكة والمدينة في الجاهلية وعهد الرسول، ص93.
6 البقرة: 127.
7 محمد بن سعد: الطبقات الكبرى، 1/ 24؛ ابن الأثير: الكامل، 1/ 58-61.
لرواية أوردها ابن سعد وابن الأثير يتمها المسعودي1 بقوله: "إن إبراهيم استودع زوجته وابنه خالقه، وكان من ظمأ إسماعيل، وسعي هاجر بين الصفا والمروة ذهابًا وإيابًا بحثًا عن الماء، أن أنبع الله لهما زمزم". وتضيف الروايات العربية إلى ذلك قولها: "إن ظهور الماء قد جذب أول قبيلة قدمت إليها وهي جرهم2" فضرب أفرادها خيامهم قرب الماء، واستقروا وعاشوا مع الطفل وأمه. وقد ترعرع إسماعيل فيهم حتى إذا كبر زوجوه منهم. ثم جاء إبراهيم من الشام ليتفقد زوجته وولده وتعاون مع إسماعيل في بناء البيت3، وأن إسماعيل قد أنسل اثني عشر ولدًا نشأت منهم العرب المستعربة، وأنهم تركوا لجرهم الحكم في مكة رعاية للخئولة، بينما تقول روايات أخرى: إن جرهم كانت موجودة قبل ذلك في مكة، وكان معها حولها قوم العماليق، لا بل إن العماليق كانوا أسبق من جرهم في سكنى مكة.
لا شك أن هذه الروايات تستند إلى نصوص إسرائيلية، وهي موجودة فعلا في الكتب العبرية، ومنصوص عنها في التلمود، وما أورد الأخباريون العرب منها فيه من الاضطراب ما نلمسه فيما روى ابن الأثير منها "الكامل: 1/ 61". وهي وإن قصرت عن إضفاء السمة العلمية الدقيقة على تاريخ هذه الفترة، إلا أنها تشير إلى حقيقة تاريخية لا ريب فيها4، وهي قدوم إبراهيم وابنه إسماعيل، وبناؤه البيت الحرام الذي أسبغ على
1 المسعودي: مروج الذهب
…
2/ 18.
2 تقول الرواية: إن جرهم كانت بوادٍ قريب من مكة ولزمت الطير الوادي حين رأت الماء، فلما رأت جرهم الطير لزمت الوادي قالوا: ما لزمته إلا وفيه ماء، فجاءوا إلى هاجر وقالوا: لو شئت لكنا معك فآنساك، والماء ماؤك. قالت: نعم، فكانوا معها حتى شب إسماعيل وماتت هاجر فتزوج إسماعيل امرأة من جرهم "ابن الأثير: 1/ 59".
3 الحافظ أبو الطيب تقي الدين محمد الفاسي: شفاء الغرام بأخبار البلد الحرام، 2/ 4-5.
4 راجع في كتاب حياة محمد: الدكتور محمد حسين هيكل "ص89-90" ما ذكر من أن المستشرق "وليم موير Sir W. Muir" في كتابه "حياة محمد وتاريخ الإسلام Life of Mahomet and history bof islam" يرتاب في قصة ذهاب إبراهيم وإسماعيل إلى الحجاز، ويرى أنها من صنع اليهود، ابتدعوها قبل الإسلام بأجيال؛ ليربطوا بينهم وبين العرب برابطة قرابة دموية وجب على العرب حسن معاملة اليهود النازلين بينهم، وتيسر لتجارة اليهود وانسيابها الحر في شبه الجزيرة، ويستند في قوله هذا إلى أنه لا صلة بين أوضاع العبادة في بلاد العرب وبين دين إبراهيم؛ لأنها وثنية مغرقة في وثنيتها بينما كان إبراهيم حنيفا مسلما. ويرد الدكتور محمد حسين هيكل عليه بأن ما يسوقه من دليل، لا يكفي لنفي واقعة تاريخية، ويبرهن على خطل رأيه بأن إبراهيم لم يستطع أن يحول قومه الوثنيين في العراق عن دينهم، واضطر إلى الهرب من وجههم، فإذا لم ينجحوا في تحويل العرب عن وثنيتهم فلا عجب في ذلك.
مكة صفة القداسة، تلك الصبغة التي كانت من أبرز العوامل في ازدهارها وارتفاع شأنها. والمؤرخ اليوم عاجز عن إعطاء معلومات مفصلة -غير ما ورد من موجز عنها في القرآن- تتصف بالدقة العلمية عن تاريخ يرجع بمكة إلى أكثر من قرن وبعض القرن قبل الهجرة، وعلى رأي بعض المؤرخين أن تاريخ مكة الحقيقي إنما يبدأ من عهد قصي بن كلاب الجد الأكبر للرسول صلى الله عليه وسلم أي: منتصف القرن الخامس الميلادي1 حسب تقدير بعضهم، وأوائل القرن السادس الميلادي حسب تقدير آخرين.
ذلك أن حياة مكة قد قامت على التجارة، إذ كان لموقعها أهمية تجارية عظيمة، فهي نقطة التقاء لطرق عديدة تأتيها من جميع الجهات، من اليمن، ومن الخليج العربي، ومن الحبشة عن طريق البحر الأحمر، ومن مصر وفلسطين وسورية. وليس من المعلوم على وجه التحقيق متى كان منشؤها، إنما الراجح أن موقعها المهم على طريق القوافل التجارية قد جعل منها، من غابر الزمن، محطة يقيم فيها رجال القوافل أيامًا؛ بسبب إمكان العثور على ماء للشرب فيها، الأمر الذي دعا إلى ارتفاع شأنها، وإلى تحولها من محطة تجارية إلى مدينة زاهرة، لا سيما بعد أن أقيم فيها بيت عبادة.
والواقع أن عوامل كثيرة أدت إلى تحويل مجرى التاريخ في شبه جزيرة العرب من البتراء وتدمر، ونجد إلى الحجاز.
فقد تحولت الطرق التجارية من جديد إلى البحر الأحمر، منذ أن استولى الرومان على سورية ومصر، قبيل مستهل النصف الثاني من القرن الأول قبل الميلاد، وسيطروا على تجارة هذا البحر من خليجي العقبة والسويس، بعد أن قضوا على دولة الأنباط وجعلوا محطتها التجارية تحت سيطرتهم، وعلى الدولة التدمرية إذ دمروها، فقضوا بذلك على حياتها التجارية. عندئذٍ بدأت سفن الرومان التجارية تمخر عباب البحر الأحمر في طريقها إلى الشرق الأقصى، وتمر بالثغور الحجازية في ذهابها وإيابها، ولم تفقد المحطات التجارية البرية ومنها مكة أهميتها، بل ازداد نشاطها، بعد أن انحطت دول الجنوب
1 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص103.
العربي، وتخلت عن دورها التجاري المرموق، فتسلمت مكة وأهلها قريش مقاليد التجارة في شبه الجزيرة العربية، لا سيما وأن العلاقات التجارية بين قريش وبين الأحباش الذين احتلوا اليمن، وبينهم وبين البيزنطيين الذين حرضوهم عليهم كانت حسنة.
يضاف إلى ذلك أن الحروب الطويلة بين الفرس والروم البيزنطيين في مستهل القرن السابع الميلادي، قد أتاحت لتجارة مكة أن تزدهر؛ بسبب أن هذه الحروب قد عطلت طرق التجارة بين الشرق والغرب، فكان من الطبيعي، أن يتحول مركز الثقل الاقتصادي إلى جهة غربي شبه الجزيرة العربية، وكان لوقوع مكة في ملتقى الطرق المارة بين شرقي شبه الجزيرة وعالم البحر المتوسط، وبين إفريقيا السوداء وبلاد الشام أثر كبير في ازدهارها1.
ثم إن كثيرًا من رجال القبائل العربية التي كانت تفر من أواسط شبه الجزيرة، بسبب النزاع القبلي الذي استفحل في جهات نجد -كما رأينا في بحث مملكة كندة، وكما سنرى في بحث أيام العرب- كانوا يأتون إلى مكة ويستوطنون فيها، فتكاثر أهلها وازداد نشاطهم.
وكانت مكة فوق هذا مركزا دينيًا، يستقطب نفوس العرب، يحجون إلى كعبتها من جميع أرجاء شبه الجزيرة من قديم الزمن، وقد سميت "البيت العتيق" لقدمها، وكان العرب يعظمونها ويقسمون بها الأيمان، كقول زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله
…
رجال بنوه من قريش وجرهم
كما كان يرافق الطقوس الدينية التي تجري في مكة في شهور معلومة من السنة، بمناسبة الحج إلى الكعبة، نشاط تجاري مهم، إذ تقام الأسواق التجارية، وتدوم أكثر من خمسة أشهر على فترتين منفصلتين وفي أمكنة مختلفة، وكان في الحجاز شبكة واسعة منها، ويرافق البيع والشراء مظاهرات أدبية رائعة، إذ يتبارى الشعراء والخطباء في إلقاء القصائد والخطب ويتفاخرون. فاستطاعت قريش بذلك أن تفرض لغتها على سائر قبائل
1 Emile Dermenghem: Ibid. P. 27.
شبه الجزيرة. فشئون الدين والتجارة والأدب، كانت مرتبطة ارتباطًا وثيقًا في الجاهلية.
وأخيرًا، إن كثرة الجوالي الأجنبية التي كانت تقصد الحجاز من فرس وروم وزنوج وأحباش وغيرهم، يأتون للتجارة أو للعمل في البناء والزراعة والصناعة، بالإضافة إلى الهجرات التي كانت تتوارد باستمرار من اليمن، ومنها هجرة الأوس والخزرج إلى يثرب، وغيرهما من القبائل إلى الشمال، كان لها أثر كبير في توسع مكة وارتقائها.
إن الروايات عن تاريخ مكة من إسماعيل إلى قصي بن كلاب متناقضة، فيها كثير من الاضطرابات. فالمسعودي1 يذكر أن أول من نزل زمزم هم العماليق لا جرهم، فاستقروا في أسفل مكة "أجياد" ثم تبعتهم جرهم فنزلوا أعلاها "قُعَيْقعان" يُعشِّر كل منهما التجارة التي تدخلها من ناحيته، ثم احتربت القبيلتان فانتصر العماليق على جرهم، وتولوا شئون البيت، ولم تلبث جرهم أن غلبتهم، فتولت أمورها ثلاثمائة سنة، حتى إذا طغت وبغت أهلك الله معظمها، فاستقوى عليها بنو خئولتها أحفاد إسماعيل وطردوها2، واستعادوا ولايتهم على البيت، بينما يذكر ابن هشام أن ولاية جرهم قد استمرت إلى أن قدمت قبيلة أخرى من قبائل اليمن3، بعد انهيار سد مأرب، هي قبيلة خزاعة، فنازعت قبيلة جرهم، وانتصرت عليها، فأخرجتها من مكة، وحكمت مكانها، كما خرج منها أبناء إسماعيل حيث تفرقوا حول مكة وفي تهامة.
1 المسعودي: مروج، 2/ 19-23.
2 يذكر المسعودي شعرًا في ذلك لآخر ملوكهم الحارث بن مضاض الأصغر الجرهمي:
كأن لم ين بين الحجون إلى الصفا
…
أنيس ولم يسمر بمكة سامر
بلى نحن كنا أهلها فأبادنا
…
صروف الليالي والجدود العواثر
وكنا لإساعيل صهرًا ووصلة
…
ولما تدر فيها علينا الدوائر
وكنا ولاة البيت من بعد نابت
…
نطوف بذاك البيت والخير ظاهر
فبدلنا ربي بها دار غربة
…
بها الذئب يعوي والعدو المحاصر
ونابت هو أكبر أولاد إسماعيل الذي روي أنه كان أول من ولي أمر الكعبة.
3 يذكر أبو الطيب تقي الدين محمد الفاسي، شفاء الغرام، 2/ 44 أن نسب خزاعة مختلف فيه؛ إذ يذكر بعضهم أنهم من العدنانيين، ويذكر آخرون أنهم من القحطانيين.
كان عمرو بن لحي الخزاعي -كما تذكر الروايات- أول من ملك من خزاعة، وإن مكة بدأت تتطور في عهده، بعد أن كان شأنها قد انحط؛ بسبب ظلم جرهم واعتسافها الحجاج والتجار، حتى قل عدد الوافدين إليها منهم. وقد عمد إلى إقامة الولائم للحجاج، وتوفير الماء لهم في مواسم الحج، ليرغبهم في زيارة الكعبة وعبادة الأصنام. ذلك أنه كان أول من غير دين إبراهيم وبدله كما يقولون، إذ يروى أنه زار الشام، ورأى قومًا يعبدون الأصنام فأتى بصنم منها نصبه على الكعبة، وقويت خزاعة وعم ظلم عمرو بن لحي الناس. ولما أكثر عمرو من الأصنام حول الكعبة غلب على العرب عبادتها1، وامَّحت الحنيفية منها إلا قليلًا2. على أن أمر عبادة الأصنام، وامحاء ديانة إبراهيم بمجرد إحضار عمرو بن لحي صنما من الشام، وإقامته حول الكعبة تبدو غير معقولة، لولا أن تكون الحنيفية قد ضعفت في نفوس القوم. والواقع أنها ضعفت، فقد ذكر المسعودي "أن إلياس بن مضر، وقد شرف وبان فضله، كان أول من أنكر على بني إسماعيل ما غيروا من سنن آبائهم. وظهرت منه أمور جميلة حتى رضوا به
…
فردهم إلى سنن آبائهم، حتى رجعت تامة على أولها"3.
وبقيت خزاعة تلي أمر مكة وكعبتها، وتُعَشِّر التجارة التي تمر بها، مدة قدرها المسعودي بثلاثمائة سنة، بينما قدرها ابن كثير بخمسمائة سنة، وروى الأزرقي الرقمين4، إلى أن نهض قصي بن كلاب فتزعم قريشًا، وجمع شملها ووحد بطونها المتفرقة في قبيلة كنانة، واستطاع أن يستولي على مكة، وأن يفرض سيطرته عليها، وكان ذلك على أغلب الظن في النصف الأول من القرن السادس الميلادي. أما خزاعة فلم تضمحل، وكانت في عهد الرسول بالمدينة محالفة له، ومنها بنو كعب وبنو المصطلق.
1 يقول في ذلك شحنة بن خلف الجرهمي: "مروج الذهب، ص30":
يا عمرو إنك قد أحدثت آلهة
…
شتى بمكة حول البيت أنصابا
وكان للبيت رب واحد أبدًا
…
فقد جعلت له في الناس أربابا
لتعرفن بأن الله في مهل
…
سيصطفي دونكم للبيت حجابا
2 المسعودي: مروج الذهب، ص29-30.
3 تاريخ اليعقوبي: 1/ 187.
4 الفاسي: شفاء الغرام، ص 48.