الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الشاعر وأمه إلى وليمة، فحاولت أم الملك استخدام أم عمرو بن كلثوم في حاجة لها تناولها إياها، فأبت وقالت: لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها، فكررت عليها وألحت، فاستغاثت أم الشاعر وسمع ابنها استغاثتها من الخباء المجاور؛ فالتقط عمرو بن كلثوم سيفًا لابن هند معلقًا، لم يكن ثمة سيف غيره ففلق رأسه به وأرداه قتيلًا1. وقد تردد صدى هذه الحادثة في شعر الجاهليين2 كما أشار عمرو بن كلثوم نفسه3 إلى هذه الحادثة في معلقته:
ألا هبي بصحنك فاصبحينا
…
ولا تبقي خمور الأندرينا
1 الأغاني: 11/ 3839.
2 كالذي ينسب إلى أفنون التغلبي:
لعمرك ما عمرو بن هند وقد دعا
…
لتخدم ليلى أمه بموفق
فقام ابن كلثوم إلى السيف مُصلتًا
…
وأمسك من ندمانه بالمخنق
وجلله عمرو على الرأس ضربة
…
بذي شطب صافي الحديدة رونق
3 قال عمرو بن كلثوم في معلقته مشيرًا إلى هذه الحادثة:
إذا ما الملك سام الناس خسفًا
…
أبينا أن نقر الخسف فينا
كما جاء فيها:
بأي مشيئةٍ عمرو بن هند
…
تطيع بنا الوشاة وتزدرينا
بأي مشيئةٍ عمرو بن هند
…
نكون لقيلكم فيها قطينا
تهددنا وتوعدنا رويدًا
…
متى كنا لأمك مقتوينا
فإن قناتنا يا عمرو أعيت
…
على الأعداء قبلك أن تلينا
النعمان الثالث بن المنذر
"580-605م":
وهو الملقب بـ "أبي قابوس" وكان وثنيًّا ثم تنصر. ويروى عن تنصره رواية لا تختلف عما ألفناه من روايات الأخباريين المستمدة من الخيال، ومرجعها نصارى الحيرة، وهي تقول: إن الشيطان قد ولع به أصيب بلوثة ووسوسة، ولما لم يجد شفاء إلا على أيدي آباء الكنيسة، تنصر على المذهب النسطوري وطرد اليعاقبة من الحيرة.
وقد اشتهر عنه ميله للشعر والشعراء، ويروى أنه كان ضليعًا في الخطابة، قد قصده من الشعراء المنخل اليشكري وحاتم الطائي وحسان بن ثابت والمثقب العبدي والأسود بن يعفر، ونعموا بهباته وجوائزه، كما هجاه آخرون كعمرو بن كلثوم متخذين من كون أمه يهودية من فدك ذريعة لذلك، إذ كان العرب يعيبون الصناعة التي كان
يمارسها اليهود، وقد عيَّره عمرو بن كلثوم بخاله الذي يصوغ الحلي والعقود وينفخ في الكير.
أما قصته مع النابغة الذبياني فهي معروفة: كان النابغة أحب الشعراء إلى قلبه، الأمر الذي أثار حسد الشعراء الآخرين ومنهم المنخل اليشكري الذي أوغر عليه صدر الملك1، فغضب عليه وهدر دمه، فهرب من وجهه والتجأ إلى أعدائه الغساسنة. لكنه استرضاه في النهاية وعاد إلى بلاطه في أواخر أيام ملكه. وأما المنخل اليشكري الذي انفرد بالمكانة المرموقة في غياب النابغة، فلم ينعم طويلًا بهذه المكانة؛ لأن النعمان لم يلبث أن انقلب عليه، فأودعه السجن حيث قضى نحبه من أثر التعذيب2.
عاصر النعمان كسرى أبرويز الذي تذكر الروايات العربية أنه قتله بتحريض من زيد بن عدي انتقامًا لوالده عدي بن زيد، الذي كان النعمان قد قضى عليه، وهذه لمحة عن هذه القصة التي ذكرها الطبري وصاحب الأغاني والعقد الفريد وغيرها من المصادر العربية:
1 وفي الأغاني "11/ 3794-3799"؛ وفي تاريخ اليعقوبي "1/ 173" أن سبب غضب النعمان عليه قصيدته الدالية:
أمن آل مية رائح أو مغتدي
…
عجلان ذا زاد وغير مزود
والتي أورد فيها عن "المتجردة" زوجة النعمان أبياتًا جريئة في الوصف منها:
والبطن ذو عكن لطيف طيه
…
والأتب تنفجه بثدي مقعد
ومنها:
سقط النصيف ولم ترد إسقاطه
…
فتناولته واتقتنا باليد
ويقال: إن المنخل اليشكري قد اتخذ من هذه القصيدة وسيلة لإيغار صدر النعمان على النابغة، أو أن أعداءه لفقوا شعرًا عن لسانه فيه ما يغضبه إلا أن هذا ظل يرسل شعره في الاعتذار إليه والتبرؤ مما وصم به حتى عفا عنه، ومن قوله في الاعتذار إليه:
أتاني أبيت اللعن أنك لمتني
…
وتلك التي تستك منها المسامع
مقالة، إن قد قلت: سوف أناله
…
وذلك من تلقاء مثلك رائع
لعمري وما عمري علي بهين
…
لقد نطقت بطلًا علي الأقارع
ومنها قوله:
فإنك كالليل الذي هو مدركي
…
وإن خلت أن المنتأى عنك واسع
2 د. جواد علي: 4/ 95.
أصبح الأكاسرة في الأيام الأخيرة لمملكة الحيرة قليلي الثقة بملوك المناذرة. والواقع أن أمر المناذرة قد تضعضع في أثناء الفتنة التي حدثت قبيل اغتصاب الحارث بن عمرو الكندي لعرش الحيرة، فاغتنم الفرس الفرصة لكي يحكموا قبضتهم في عنقهم، ومالوا إلى فرض حكمهم المباشر عليهم إلى أن اعتلى النعمان الثالث "أبو قابوس" العرش. كما شعروا بأن الحاجة إليهم لم تعد كما كانت بعد أن سُويت الأمور بين الفرس والروم إثر الهدنة التي عقدت بين الطرفين في منتصف القرن السادس الميلادي، وهو الزمن الذي قتل فيه المنذر الثالث بن ماء السماء اللخمي على يد الحارث بن أبي شمر الغساني، ولم تبقَ الحروب بين الغساسنة والمناذرة على الحدة نفسها التي كانت عليها من قبل، الأمر الذي كان من شأنه أن يدخل القلق إلى نفوس الفرس، فيجعلهم يتحسبون لما قد يلفت اهتمام المناذرة إلى تقوية دولتهم وتهديد السيطرة الفارسية، لا سيما وأن سياسة كل من الفرس والروم في ضرب الإمارتين إحداها بالأخرى، كانت ترمي إلى هدفين معًا: إضعافهما من جهة، وجعلهما مجنًّا تحتميان وراءه من جهة أخرى، وقد خفف قلق الفرس من ناحية الغساسنة كون العلاقات قد ساءت بين هؤلاء وبين حلفائهم الروم، وضعف شأنهم ولم يعد ثمة خطر يهدد الفرس من جانبهم. وخوف الفرس من المناذرة جعلهم يتخذون ضدهم تدابير شديدة منها ألا يقروا على إمارة الحيرة إلا من يثقون به.
في هذه الحقبة من الزمن، أي: التي امتدت ما بين النصف الأول من القرن السادس الميلادي وأواخره، ارتفع شأن أسرة من تميم بن مر قدم جدها الأكبر أيوب بن محروف من محل إقامته في اليمامة إلى الحيرة، وكان على النصرانية، فتقرب من الأكاسرة ومن ملوك الحيرة أيضًا، وأصبح عدد من أولاده وأحفاده واحدًا بعد الآخر كُتَّابًا في ديوان كسرى؛ لتضلعهم بالفارسية والعربية، وتولى أحدهم زيد بن حماد لدى كسرى مصلحة البريد التي كانت عند الفرس بمثابة دائرة استخبارات تستطلع له أخبار رعيته، وقد خدمت هذه العائلة الفرس وأخلصت لهم، وكانت العين الرقيبة لهم على أمراء الحيرة.
وقد وثق كسرى بزيد، حتى إنه قد ولاه مؤقتا ملك الحيرة، بعد وفاة ملكها النعمان النصري، كما يسميه صاحب
الأغاني -ريثما عين المنذر بن ماء السماء خلفًا
للنعمان1. وارتفع شأن زيد وبلغ نفوذه على ملوك الحيرة مبلغًا عظيمًا بحيث تمكن بدهائه من أن يكون حاكم الحيرة الفعلي، في أثناء الفتنة التي مرت بها الحيرة، عندما قام عربها يريدون قتل الملك المنذر ليتخلصوا من ظلمه، فأبدى الملك رغبته في التنازل عن العرش، وطلب من الفرس أن يعينوا ملكًا منهم، فما كان من زيد إلا أن سوى الأمور بين الملك وشعبه بحيث يكون هو حاكم الحيرة الفعلي والمنذر ملكها الاسمى.
وكان لزيد ولد يسمى عديًّا2 -الشاعر المعروف- ربي في أحضان الفرس، وأصبح كاتبًا لكسرى، فرهبته العرب وتقربت منه، بينما هو قد تشرب دمه بالإخلاص للفرس والتفاني في خدمتهم. وقد لعب دورا كبيرا عندما شغر عرش الحيرة بمقتل المنذر وولي عليه العميل الفارسي إياس بن قبيصة بالوكالة. ذلك أنه عندما بلغ ضجر كسرى، ويأسه من العثور على من يثق به من أمراء المناذرة، مبلغًا دفعه إلى إطلاق وعيده بحكم الحيرة حكما مباشرا:"لأبعثن إلى الحيرة اثني عشر ألفًا من الأساورة، ولأملكن عليهم رجلا فارسيا، ولآمرنهم أن ينزلوا على العرب في دورهم، ويملكوا عليهم أموالهم ونساءهم"3، تصدى لحل المعضلة بأن أعمل الحيلة والمكر في مساعدة ربيبه النعمان بن المنذر، الذي ترعرع في كنف آل عدي فكانوا هم الذين أرضعوه وربوه، وحمل كسرى على إسناد العرش إليه تفضيلًا له عن إخوته الاثني عشر الآخرين4.
غير أن العلاقات لم تلبث أن ساءت بين النعمان وعدي فأرسل إليه -وهو يومئذٍ عند كسرى- رسالة رقيقة استقدمه بها وألقى به في السجن، ثم قتله عندما أبلغته حاشيته أن رسولًا من كسرى يحمل رسالة منه يطلب فيها إطلاق سراحه، وحذرته من عدي بعد أن يصبح حرا طليقا. ولما فوجئ الرسول بموت عدي، بينما كان قد زاره في اليوم السابق في سجنه، وأيقن أن النعمان هو الذي أمر بقتله، عاد إلى مليكه وأبلغه الواقع، وكان من الطبيعي أن يغضب كسرى لما حدث.
1 الأغاني: 2/ 518.
2 هو عدي بن زيد بن حماد بن زيد بن أيوب بن محروف بن عامر بن عصية بن امرئ القيس بن زيد مناة بن تميم بن مر بن أد من مضر.
3 الأغاني: 2/ 524.
4 الطبري: 2/ 193-195.
أما النعمان فقد ندم على ما فرط منه، وراح يسترضي ابنًا لعدي يسمى زيدًا ويكرمه، ثم أرسل إلى كسرى بإطرائه وبتعيينه كاتبًا لديه بدلًا من أبيه، بينما اتخذ زيد هذا التعيين وسيلة للانتقام من النعمان. وقد واتته الفرصة السانحة عندما لمس من كسرى رغبة في الزواج، فأدخل في نفسه أن يطلب من النعمان إحدى بنات أسرته، وهو يعلم أن العرب تأنف من تزويج بناتها في الأعاجم، فكلفه كسرى أن يذهب إلى النعمان بهذه المهمة، وأرفق معه مندوبًا يعرف العربية ليسمع جواب النعمان1.
ولما فوجئ النعمان بالطلب اعتذر عن وجود ما يشبه النساء اللواتي حدد كسرى أوصافهن، وأجاب زيدًا والرسول بقوله:"أما في مها السواد وعين فارس ما يبلغ به كسرى حاجته؟! "2 ولما سأل المندوب الفارسي زيدًا عن معنى "المها والعين" -ومعناهما في العربية نوع من الظباء والنساء سوداوات العينين واسعتهما- أجابه بالفارسية "كاويان" أي: البقر. وكان من الطبيعي أن يغضب كسرى للرد المنقول إليه عن النعمان "أما في بقر السواد وفارس ما يكفيه؟! " فيقول: رب عبد قد صار في الطغيان أكثر من هذا، وسكت أشهرًا ثم استدعى النعمان لزيارة العاصمة الفارسية، ولما قدم إليه أمر بقتله.
هذه الأحداث تجعلها معظم الروايات العربية سببًا لقتل النعمان. والروايات العربية على العموم تقتصر على الأسباب العرضية المباشرة للأحداث، ولا تلتفت كثيرًا إلى الأسباب الأساسية، الأمر الذي يحدو بالمؤرخين المحدثين إلى مزيد من التقصي، لا سيما عند المؤرخين القدامى الذين اهتموا بتاريخ العرب وتاريخ الفرس على السواء، كأبي حنيفة الدَّينَوَرِي الذي عني في الوقت نفسه بالتمحيص والتحليل، وقد أورد الدينوري عن هذه الأسباب نصا منقولا عن كسرى أبرويز بن هُرْمز إلى ابنه شيرويه الذي أقصاه عن العرش وسجنه، واعتلى مكانه العرش الكسروي. فلما طلب زعماء حركته الانقلابية منه قتل والده استمهلهم، وكتب إلى أبيه كتابًا وجه إليه جملة من التهم منها قتله للنعمان وعدم حفظه له ولأسرته جميلهم وخدمتهم للدولة، فأجابه والده بكتاب يبرز فيه موقفه، جاء فيه بما يخص النعمان: "
…
وأما ما زعمت من قتلي النعمان بن المنذر، وإزالتي الملك عن
1 المسعودي: مروج الذهب، 2/ 76-77؛ ابن الأثير: الكامل 2/ 286-287.
2 تاريخ اليعقوبي: 1/ 175.
آل عمرو بن عدي إلى إياس بن قبيصة، فإن النعمان وأهل بيته واطئوا العرب، وأعلموهم توكفهم "توقعهم" خروج الملك عنا إليهم، وقد كانت وقعت إليهم في ذلك كتب، فقتلته ووليت الأمر أعرابيًّا لا يعقل من ذلك شيئًا"1.
والواقع الذي تؤيده مختلف أحداث تلك الفترة أن الفرس قد تهيبوا في المدة الأخيرة ملوك المناذرة، الذين يظهر أنهم نزعوا إلى الاستقلال عن الفرس مدفوعين إلى ذلك بعواطفهم العربية، لا سيما وأن كسرى قد لمس في تصرفات النعمان بعض ما يعزز ظنونه، إذ اتجه إلى توسيع نفوذه في شبه الجزيرة العربية، فامتد سلطانه إلى البحرين وجبل طيء، وكثرت لطائمه التي يرسلها إلى الحجاز، وتعددت مشاكله مع بعض القبائل بسببها ولأسباب أخرى، فاشتبك مع بني يربوع في يوم "طخفة" ومع بني عامر في يوم السلان "وسنتحدث عن ذلك في بحث أيام العرب" ومن جهة أخرى أصبح بلاطه موئلًا للشعراء العرب ولأدبائهم، والتفَّ حوله زعماء القبائل يحرصون على التقرب منه، ويتنافسون فيما بينهم للحصول على ثقته بهم. والنعمان نفسه قد تضايق على ما يظهر من تصرفات عدي بن زيد، وأسرته العريقة في عمالتها للفرس وتجسسها على ملوك الحيرة، الأمر الذي قد يكون في نظرنا السبب الأساسي لقتله بأمر من النعمان، بينما يبدو أن السبب الذي أورده الأخباريون عن قتل الملك لعدي، إنما هو من نوع رواياتهم التي تهتم بالأسباب العرضية المباشرة.
أما الرجل الذي ولاه الفرس على الحيرة فهو إياس بن قبيصة الطائي، وكان عميلًا لهم. لكنهم لم يلبثوا أن عزلوه إثر هزيمتهم في موقعة "ذي قار" التي كانت نتيجة للأحداث المتقدم ذكرها -كما سيأتي في بحث أيام العرب- وحكموا الحيرة حكما مباشرا. غير أن ثمة روايات تقول: إن إياس بن قبيصة كان على رأس إمارة الحيرة عندما اجتاحها العرب المسلمون فيما بعد2.
وقد ذهب المناذرة إثر انتهاء حكمهم إلى جهات البحرين، حيث نجح أمير منهم هو المنذر الخامس المعروف بلقب "المغرور" في تأليف إمارة عربية مستقلة، غير أن من
1 أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، ص107-110.
2 د. جواد علي: 4/ 104.