المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الحارث بن عمرو: - تاريخ العرب القديم

[توفيق برو]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌الفصل الأول: دراسة المصادر

- ‌مفهوم التاريخ:

- ‌مصادر تاريخ العرب القديم:

- ‌النقوش الكتابية:

- ‌المصادر العربية الإسلامية:

- ‌الكتب المقدسة والمصادر اليونانية والنصرانية:

- ‌الفصل الثاني: جغرافية شبه الجزيرة العربية

- ‌مدخل

- ‌الجبال العالية

- ‌مدخل

- ‌ جبال السراة:

- ‌ جبال اليمن:

- ‌ المرتفعات الجنوبية:

- ‌الصحاري والهضاب الداخلية

- ‌مدخل

- ‌ النفود الكبير:

- ‌ الربع الخالي:

- ‌ إقليم نجد:

- ‌الحرات:

- ‌الدارات والبرق

- ‌مدخل

- ‌الدارات:

- ‌البرق

- ‌نظام التصريف المائي في شبه جزيرة العرب

- ‌مدخل

- ‌وادي الحمض:

- ‌وادي الرمة:

- ‌وادي حنيفة:

- ‌وادي الدواسر:

- ‌وادي السرحان:

- ‌مناخ شبه جزيرة العرب:

- ‌حرارة الجو:

- ‌رطوبة الجو:

- ‌نباتات وحيوانات شبه جزيرة العرب:

- ‌الفصل الثالث: صلة العرب بالساميين

- ‌مدخل

- ‌النظرية الأولى:

- ‌النظرية الثانية:

- ‌النظرية الثالثة:

- ‌النظرية الرابعة:

- ‌النظرية الخامسة:

- ‌الفصل الرابع: أنساب العرب وطبقاتهم

- ‌أصل ومدلول كلمة عرب:

- ‌أنساب العرب:

- ‌طبقات العرب وأقسامهم

- ‌مدخل

- ‌العرب البائدة:

- ‌العرب العاربة:

- ‌العرب المستعربة:

- ‌نقد نظرية الأنساب:

- ‌الفصل الخامس: الدولة العربية القديمة في اليمن

- ‌مدخل

- ‌دولة معين

- ‌مملكة قتبان:

- ‌مملكة حضرموت:

- ‌الدولة السبئية

- ‌الدولة الحميرية

- ‌مدخل

- ‌الدول الأول

- ‌الدور الثاني من الدولة الحميرية

- ‌الدور الحبشي

- ‌الدور الفارسي

- ‌الفصل السادس: حضارة دول اليمن القديمة

- ‌مدخل

- ‌نظام الحكم:

- ‌الزراعة:

- ‌التجارة:

- ‌الصناعة:

- ‌العمران وإنشاء المدن:

- ‌اللغة والكتابة:

- ‌الديانة:

- ‌الفصل السابع: دول الشمال العربي قبل الإسلام

- ‌مدخل

- ‌دولة الأنباط

- ‌الموقع الجغرافي:

- ‌أصل الأنباط:

- ‌الأنباط بين السلوقيين والبطالمة

- ‌الأنباط واليهود:

- ‌الحارث الثالث: عصر الذروة

- ‌خضوع الأنباط للرومان وسقوط دولتهم:

- ‌مدنية الأنباط وحضارتهم:

- ‌نظام الحكم:

- ‌التجارة والزراعة والصناعة:

- ‌العمران النبطي:

- ‌الديانة:

- ‌اللغة والكتابة:

- ‌الدولة التدمرية

- ‌مدخل

- ‌حكم زنوبيا:

- ‌مدينة تدمر وحضارتها

- ‌طبقات المجتمع

- ‌الحياة الاجتماعية والاقتصادية:

- ‌نظام الحكم:

- ‌الفن التدمري والعمران:

- ‌الكتابة التدمرية:

- ‌الديانة:

- ‌المناذرة والغساسنة

- ‌المناذرة

- ‌مدخل

- ‌امرؤ القيس بن عمرو

- ‌النعمان الأول

- ‌المنذر الأول بن ماء السماء

- ‌عمرو بن هند:

- ‌النعمان الثالث بن المنذر

- ‌الغساسنة

- ‌مدخل

- ‌الحارث بن جبلة

- ‌المنذر بن الحارث

- ‌جَبَلة بن الأيهم:

- ‌حضارة المناذرة والغساسنة

- ‌مدخل

- ‌دولة كِنْدَةَ

- ‌الحارث بن عمرو:

- ‌الفصل الثامن: الحياة السياسية الحضرية في الحجاز

- ‌مدخل

- ‌مكة:

- ‌قريش:

- ‌التنظيم السياسي في مكة:

- ‌التنظيم الإداري في مكة

- ‌مدخل

- ‌ السدانة:

- ‌ السقاية:

- ‌ الرفادة:

- ‌ الراية:

- ‌ القيادة:

- ‌ الأشناق "الديات

- ‌ القبة:

- ‌ الأعنة:

- ‌ السفارة:

- ‌ الإيسار:

- ‌ المشورة:

- ‌ الأموال المحجرة:

- ‌ الندوة:

- ‌يثرب:

- ‌الطائف:

- ‌الفصل التاسع: الحياة السياسية في البادية العربية

- ‌مدخل

- ‌شكل الحكم:

- ‌الأحلاف

- ‌مدخل

- ‌طقوس الأحلاف:

- ‌الفصل العاشر: أيام العرب في الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌حروب القحطانية فيما بينها

- ‌مدخل

- ‌يوم بعاث:

- ‌حروب القحطانية والعدنانية

- ‌مدخل

- ‌يوم البيضاء:

- ‌القبائل المعدية وزهير بن جناب الكلبي ممثل اليمينة

- ‌مدخل

- ‌يوم خَزَار:

- ‌حروب العدنانية فيما بينها

- ‌مدخل

- ‌حروب البسوس

- ‌حروب المضرية فيما بينهما

- ‌مدخل

- ‌يوم داحس والغبراء:

- ‌حروب الفجار

- ‌مدخل

- ‌الفجار الأول

- ‌الفجار الثاني

- ‌يوم نخلة:

- ‌الحروب بين القبائل العربية والمناذرة

- ‌مدخل

- ‌يوم السِّلّان:

- ‌يوم طخفة:

- ‌حروب العرب مع الأقوام الأخرى

- ‌مدخل

- ‌يوم الصفقة

- ‌مدخل

- ‌يوم الكلاب الثاني:

- ‌موقعة ذي قار

- ‌مدخل

- ‌أهمية معركة ذي قار ونتائجها:

- ‌الفصل الحادي عشر: القبائل العربية ومواطنها قبل الإسلام

- ‌مدخل

- ‌القبائل العدنانية في الشمال:

- ‌القبائل القحطانية في الشمال:

- ‌الفصل الثاني عشر: الحياة الاقتصادية عند العرب

- ‌مدخل

- ‌التجارة في الحضر:

- ‌تجارة مكة:

- ‌أسواق العرب

- ‌مدخل

- ‌سوق عكاظ:

- ‌حماية التجارة في الأسواق:

- ‌طرق البيع ومصطلحاته

- ‌مدخل

- ‌بيع المعاومة:

- ‌بيع المزابنة:

- ‌بيع التصرية:

- ‌بيع النَّجَش:

- ‌بيع الناجز:

- ‌الفصل الثالث عشر: الحياة الاجتماعية والتقاليد البدوية

- ‌مدخل

- ‌المرتبة الأولى: الشعب:

- ‌المرتبة الثانية: القبائل:

- ‌المرتبة الثالثة: العمارة:

- ‌المرتبة الرابعة: البطن:

- ‌المرتبة الخامسة: الفخذ:

- ‌المرتبة السادسة: الفصيلة:

- ‌العناصر التي تتألف منها القبيلة

- ‌مدخل

- ‌ الصرحاء:

- ‌ أبناء القبيلة بالنقلة:

- ‌ أبناء القبيلة بالاستلحاق:

- ‌ العبيد:

- ‌ الموالي:

- ‌الخلع والخلعاء:

- ‌السجايا العربية:

- ‌الأسرة:

- ‌الزواج:

- ‌الطلاق:

- ‌العلاقات ضمن الأسرة:

- ‌معاملة الأولاد:

- ‌الإرث:

- ‌الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية

- ‌مدخل

- ‌معارف العرب:

- ‌الفصل الخامس عشر: الحياة الدينية عند عرب الشمال

- ‌مدخل

- ‌القسم الأول:

- ‌القسم الثاني

- ‌مدخل

- ‌المعتقدات الوثنية

- ‌مدخل

- ‌عبادة مظاهر الطبيعة:

- ‌تقديس الأرواح وعبادتها:

- ‌تقديس الأشجار والأماكن والأشياء المادية:

- ‌عبادة الملائكة:

- ‌عبادة الأسلاف:

- ‌عبادة الجن:

- ‌عبادة الأصنام:

- ‌طقوس العرب العبادية:

- ‌البعث والحساب بعد الموت:

- ‌اليهودية في بلاد العرب:

- ‌النصرانية في بلاد العرب:

- ‌عبادة الله

- ‌مدخل

- ‌الاستهتار بالأصنام:

- ‌الحنيفية:

- ‌شجرة أنساب القبائل العربية

- ‌شجرة النسب القرشية

- ‌القبائل الشمالية العدنانية

- ‌قبائل مضر (فرع إلياس)

- ‌قبائل مضر (فرع قيس عيلان)

- ‌شجرة النسب القحطاني

- ‌شجرة نسب كهلان

- ‌مصار الكتاب

- ‌مسرد الموضوعات

الفصل: ‌الحارث بن عمرو:

قد أصهر إلى بعضها. غير أن قبائل ربيعة قد خرجت في عهده -الذي يبدو أنه لم يكن طويلًا- عن طاعة كندة إلى حين، وذلك بظهور وائل بن ربيعة الملقب باسم "كليب" والمعروف في بني تغلب، وتختلف الروايات عن كيفية موته. فهل قتله الحارث بن أبي شمر الغساني؛ لأنه غزا الشام مع ربيعة بحسب رواية اليعقوبي؟ 1 أم أن قتله كان على يد ربيعة حينما خرجت عليه، فاستنجد بالتبابعة فأمدوه بجيش لكنه قتل في المعركة؟ وقد تولى بعده ابنه:

1 اليعقوبي: 1/ 177.

ص: 155

‌الحارث بن عمرو:

غير أن الغموض يكتنف كيفية تسنمه العرش، ويظهر أنه لم يتسنمه إرثًا من أبيه بكل بساطة وسهولة، لا بل إنه كان للتبابعة الفضل في ذلك، الأمر الذي يستدل منه أنه كان للتبابعة إشراف مستمر على ملوك كندة، ويبدو أن الاضطراب قد حل في المملكة في أواخر عهد أبيه عمرو، بخروج ربيعة عليه، فأعاد التبابعة السكينة والهدوء، وولوا الحارث بناءً على طلب من قبيلة بكر التي سادت فيهم الفوضى من جديد، فأرسل ملك حمير الحارث على رأس جيش إلى بلاد معد والحيرة، فتسنم العرش خليفةً لأبيه1.

كان الحارث أشهر وأعظم ملوك كندة، فقد استطاع أن يعيد سيطرة دولته على قبائل ربيعة، كما توسط -بعد حرب البسوس التي دامت أربعين سنة، والتي أودت بأبطال بكر وتغلب- بين القبيلتين بالصلح. واغتنم مشاكل البيزنطيين الداخلية فهاجم فلسطين، ولكن حاكمها "رومانوس" هزمه في إحدى المعارك، فلم يلبث الحارث أن شن على الروم هجوما انتقاميا هزمهم فيه، فاضطر الإمبراطور "أنستاسيوس" إلى عقد صلح معه؛ لكي يأمن هجماته على المدن السورية "502م".

وفي عهده الطويل جرى الفتح الحبشي لليمن فضعف شأن آل كندة؛ بسبب أنهم كانوا يستمدون قوتهم من ملوك حمير، فحاول الحارث التقرب من ملوك فارس، وقد عاصره منهم "قباذ". ويروي ابن الأثير أن الحارث قد اعتنق المزدكية بناء على طلب من

1 د. جواد علي: 3/ 326.

ص: 155

"قباذ"1 وأن الملك الفارسي قد أعانه على ملك الحيرة المنذر الثالث الذي رفض الاستجابة لطلب "قباذ" باعتناقها، فلم يكن من الحارث إلا أن احتل الحيرة وتسلم عرشها بمساعدة "قباذ"2. غير أن معظم الروايات العربية، وإن هي اتفقت حول استيلاء الحارث على الحيرة في هذه الفترة، تغفل ما روي عن اعتناقه المزدكية، لا سيما وأن الدينوري المهتم بتأريخ الفرس لا يذكرها، وهي تتفق في خطوطها الأساسية حول روايتين لابن الكلبي، ملخصهما أن الملك الفارسي قباذ كان ضعيف الإرادة يعوزه العزم والحزم، عاجزًا عن ضبط مملكته، فاستغل قبيلة ربيعة ضعفه وعجزه عن نصرة المناذرة، فوثبت على ملك الحيرة فأخرجته. وهنا تختلف الروايات حول من هو ملك الحيرة الذي تعرض للإخراج، أهو المنذر الثالث أم والده النعمان الثاني. ومهما يكن هذا الاختلاف، فالرواية تتابع القول بأن ربيعة لجأت إلى الحارث بن عمرو الكندي، وقاتلت معه حتى قتل النعمان، وظهر الحارث على ابنه المنذر الثالث، الذي اضطر إلى الانضواء إليه، بعد أن تنازل عن حقه في عرش أبيه. ولما حصل هذا اضطر قباذ إلى ملاطفة الحارث، وإقرار العمل الذي قام به. وليس في هذه الروايات ما يشير إلى اعتناق الحارث المزدكية، أو إلى رفض النعمان أو المنذر الثالث اعتناقها، وكل ما في الأمر ضعف قباذ، وعجزه عن مساعدة صاحبه النعمان، وانتهاز الحارث الذكي الفرصة لتوسيع مملكته وبسط سيطرته على مملكة الحيرة3. ويظهر أن أعداء ملوك الحيرة هم الذين أشاعوا عنه ذلك؛ للحط من قدره في نظر العرب.

غير أن الدكتور جواد علي يعلق على هذه الحوادث بقوله: "إن الحالة في العراق قد ساءت بين 503 و506م، ففي هذه الفترة وقعت الحرب بين الروم والفرس وارتبك الوضع، وشغلت الحرب عرب الحيرة عن حماية أنفسهم من الأعراب الذين كانوا يترقبون مثل هذه الفرصة السانحة. وربما كان هؤلاء قد استولوا على الحيرة، فأغار الحارث عليها، بعد أن غادرها ملكها ليحارب الروم مع الفرس، واستولى على ما كان تابعًا له، وأضافه

1 ابن الأثير: الكامل في التاريخ 1/ 255 "يذكر أن قباذ دعا المنذر إلى المزدكية فأبى، فدعا الحارث بن عمرو الكندي فأجابه، فسدد له ملكه وطرد المنذر عن مملكته".

2 راجع ما ذكرناه عن ذلك في بحث المناذرة.

3 د. جواد علي: 3/ 233.

ص: 156

إلى ملكه مدة من الزمن، فلما انتهت الحرب بعقد الهدنة "506م" وهدأت الأحوال استعاد ملك الحيرة -المنذر الثالث- ملكه من آل آكل المرار"1.

على أن الحارث بن عمرو بعد أن استولى على الحيرة التفَّتْ قبائل معد حوله، وتقرب رؤساؤها منه، ودانوا له بالطاعة ففرق أولاده فيهم ملوكا، إذ وضع ابنه حجرًا على أسد وغطفان وكنانة، وكانت مساكنها عند وادي الرمة بين جبل شمر وخيبر، وابنه شرحبيل على بكر بن وائل بأسرها، ومعد يكرب على قيس عيلان بأسرها، وسلمة على تغلب وما إليها.

وأما المنذر الثالث، الذي كان قد خضع له وتقرب منه وتزوج ابنته هند "عمة امرئ القيس" فإنه بعد أن انتزع ملكه منه، وكان ذلك بعد موت قباذ وتولي ابنه كسرى أنوشروان عرش فارس، قد قلب له ظهر المجن، وانتقم منه شر انتقام، فلاحقه إلى أراضي بني كلب، وأسر من عائلته أربعين شخصًا بينهم ولدان له، فذبحهم وفيهم يقول امرؤ القيس:

ملوك من بني حجر بن عمرو

يساقون العشية يقتلونا

فلو في يوم معركة أصيبوا

ولكن في ديار بني مرينا

وما زال المنذر يجد في طلب الحارث حتى أدركه فقتله. ويختلف المؤرخون حول هذه النقطة؛ فمنهم من يقول: إنه توفي حتف أنفه في بني كلب كما يدعي بنو كندة، بينما يدعي بنو كلب أنهم هم الذين قتلوه. وبموت الحارث انتقل الحكم إلى أكبر أولاده المسمى "حجر" ومن حينها أخذ نجم آل كندة في الأفول.

وتتواتر الروايات، مع بعض الاختلاف في الجزئيات، أن قبيلة أسد لم تكن راضية عن حجر، وأنه لم يكن يقيم بينهم دائمًا، وأن صلتهم به لم تكن طيبة، وأنهم قبلوه ملكًا عليهم على كره منهم. لذلك فإنهم لم يلبثوا أن أعلنوا عليه الثورة، ورفضوا أن يدفعوا له الإتاوة السنوية، فحاربهم وقبض على رؤسائهم وقتل كثيرا منهم، فانتقمت "أسد" منه حينما سنحت لها فرصة مواتية وقتلته2.

1 د. جواد علي: 3/ 236.

2 د. جواد علي: 3/ 246-247.

ص: 157

ولم يكف المنذر من جهة أخرى عن التنكيل بآل كندة، وظل يسعى إلى التفريق فيما بينهم، حتى أوقع بعضهم ببعض، فاحترب الأخوان سلمة وشرحبيل، واستمال كل منهما عددًا من القبائل إلى جانبه، وتمكن الأول من قتل الثاني1، لكنه لم يسلم من ملاحقة المنذر له، فالتجأ إلى قبيلة بكر بن وائل فملكته عليها. غير أن المنذر لم يلبث أن شن الحرب عليها في يوم "أوارة" الأول وحقق لنفسه نصرا ساحقا، وقتل سلمة مع عدد كبير من أنصاره وأحرق نساءهم.

ولما أدرك امرؤ القيس بن حجر2، الشاعر الكندي المعروف، انشغال أعمامه وإخوته بعضهم ببعض، وعجزهم عن الأخذ بثأر أبيه أخذ على عاتقه هذه المهمة، وكان أصغرهم سنًّا وأقلهم أملًا بالملك. وتذكر الروايات أن حجرا لم يكن راضيا عن ابنه امرئ القيس، فطرده وآلى على نفسه ألا يأويه في داره أنفةً من قوله الشعر، وكانت الملوك كما قيل تأنف من ذلك. وهناك روايات أخرى مضطربة عن كون السبب في طرده ناشئًا عن تغزله بامرأة من نساء أبيه كان عاشقا لها فلم يصل إليها، حتى كان منها يوم الغدير بدارة جلجل، حيث قال قصيدته المعلقة:

قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل

بسقط اللوى بين الدخول فحومل

ومما جاء فيها ذكره لها وتسميتها بـ "أم الحويرث" بينما لم تكن سوى "هرا" التي قيل: إنها زوجة أبيه:

كدأبك من أم الحويرث قبلها

وجارتها أم الرباب بمأسل

ألا رب يوم لك منهن صالح

ولا سيما يوم بدارة جُلْجُل

تجاه مثل هذه الروايات المضطربة، لا يستطيع المؤرخ إلا أن يقف حائرًا. ولطالما

1 اليعقوبي 2/ 178: وكان قتل شرحبيل في يوم الكلاب الأول.

2 لقبه امرؤ القيس، أما اسمه فمختلف فيه، قد يكون حندج أو عديًّا أو مليكة أو سليمان. ويذكر المؤرخون أن ولادته قد تكون سنة 122 قبل الهجرة "الموافقة لعام 500م" وكانت أمه فاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن زهير أخت المهلهل وكليب وائل التغلبيينِ، ومن ألقاب امرئ القيس "ذو القروح" و"الملك الضليل".

ص: 158

لا نملك من المستندات ما يسمح لنا برسم صورة أكثر علمية لهذه الأحداث، فليس لنا إلا متابعة الرواية وهي تقول: إنه بعد أن طرده والده، كان يسير في أحياء العرب، ومعه أخلاط من شذاذ العرب، فإذا صادف غديرًا أو روضة أقام فذبح لهم، وأكل وأكلوا معه، وشرب الخمر وسقاهم وغنته قيانه. وفي الأغاني1 نجد قصة وصول خبر مقتل والده إليه وهو على هذه الحالة يلعب النرد في موقع "دمون" فلم يلتفت إلى ناقله إلا بعد أن انتهى نديمه من ضرب نرده؛ لئلا يفسد عليه دسته. أي: إن الرواية تحرص على حبك القصة بالبرهان على صلابة امرئ القيس، خلافا لإخوته الذين تظهرهم وقد جزعوا وحثوا التراب على رءوسهم، وكانت وصية الوالد المحتضر ألا يُدفع كتابه إلا إلى أيهم لا يجزع للخبر. فلما التفت إلى الساعي وعلم الخبر قال:

تطاول الليل علينا دمون

دمون إنا معشر يمانون

وإننا لأهلنا محبون

ثم قال: ضيعني صغيرا وحملني دمه كبيرا، لا صحو اليوم ولا سكر غدا، "اليوم خمر، وغدًا أمر" فذهبت مثلا، ثم قال:

خليليَّ لا في اليوم مصحى لشارب

ولا في غد إذ ذاك ما كان يشرب

ثم شرب سبعًا، فلما صحا آلى على نفسه ألا يأكل لحمًا، ولا يشرب خمرًا، ولا يدهن بدهن، ولا يصيب امرأة حتى يدرك ثأره.

والواقع أن الروايات مضطربة حول هذه الناحية أيضًا، فمنها ما يقول: إنه كان مع والده حينما هاجمه بنو أسد، وإنه تمكن من النجاة على فرس له، أو إنه كان غلاما قد ترعرع، فلما بلغه الخبر وهو مقيم في بني حنظلة، وكان ناقله رجل اسمه عجل قال:

أتاني وأصحابي على رأس صيلع

حديث أطار النوم عني فأنعما

فقلت لعجلي بعيد مآبه

أبن لي وبيِّن لي الحديث المجمجما

فقال: أبيت اللعن عمرو وكاهل

أباحا حمى حجر فأصبح مسلما

ومهما يكن من أمر ما قيل، فإن امرأ القيس -كما يظهر من مجمل الروايات- قد أخذ

1الأغاني: 9/ 3207.

ص: 159

يسعى لدى بكر وتغلب في سبيل الأخذ بثأر أبيه. فلما لمست قبيلة أسد الجانية استعداده لقتالها؛ حاولت استرضاءه، وأرسلت إليه وفدًا من ساداتها ظل ثلاثة أيام يحاول مقابلته، فاحتجب عنهم ثلاثة أيام ثم خرج عليهم في قباء وخف وعمامة سوداء؛ إشعارًا بأنه مطالب بثأر أبيه. ورفض جميع عروضهم، وكان منها أنهم على استعداد لكي يسدوا إليه بمن يختار من بيت أسد "أشرفهم بيتا وأعلاهم في بناء المكرمات" فيذبحه، أو أن يرضى منهم بفداء بالغ ما بلغ. ثم فاجأهم بقوله:"لقد علمت العرب أن لا كفء لحجر، وأني لن أعتاض به جملًا أو ناقة فأكتسب بذلك مسبة". وكان قسم امرئ القيس أن يقتل من أسد مائة ويجز نواصي مائة.

ولما أدركت قبيلة أسد إصرار امرئ القيس على قتالها ثأرًا لدم أبيه، هجرت ديارها فلاحقها في قوة من بني بكر وتغلب، وقاتلها حتى كثر فيها القتلى والجرحى، ولما جاء الليل فحجز بين الطرفين هربت أسد. وفي صباح اليوم التالي رفضت بكر وتغلب الاستمرار في مساعدته؛ لأنهما رأته أنه قد أخذ بثأره ولا ضرورة لمتابعة القتال، فلما أجاب بأنه لم يصب من بني أسد ما يشفي غليل الثأر في صدره، قالوا: بلى ولكنك رجل مشئوم، وكرهوا القتال معه وانصرفوا، فحاول الاستنجاد ضد أعدائه بقبائل أخرى. ولما خاب أمله فيها طلب مساعدة أحد أقيال اليمن، فأرسل معه قوة لا يتجاوز عدد أفرادها 500 رجل، وتبعه بعض شذاذ العرب، واستأجر من القبائل رجالًا، ثم سار بهؤلاء جميعًا إلى بني أسد، فظفر بهم، وأنشد:

قولا لدودان عبيد العصا1

ما غركم بالأسد الباسل

قد قرت العينان من مالك

ومن بني عمرو ومن كاهل

حلت لي الخمر وكنت امرأً

عن شربها في شغل شاغل

غير أن ثمة روايات تنفي كون امرئ القيس قد أصاب ثأره من بني أسد، كما يُفهم من أبيات لعبيد بن الأبرص:

يا ذا المخوفنا بقتل أبيه

إذلالًا وحبنا

أزعمت أنك قد قتلت

سراتنا كذبًا ومينا

1 دودان: بطن من أسد، كان والده قد أدبهم بالعصا، فسموا عبيد العصا.

ص: 160

ومهما يكن من أمر، فإن المنذر بن ماء السماء قد أخذ يلاحق امرأ القيس، بعد أن بسط سيطرته على المنطقة، والتجأت إليه قبيلة أسد، واحتمت به، فوجه إليه جيشًا عززه كسرى أنوشروان بفصيلة من المقاتلين الفرس الأساورة، فلم يكن من القوى التي كانت بجانب امرئ القيس إلا أن انفضت من حوله خوفًا من بطش المنذر بها، ولم يستطع أن يجد نصيرا من أية قبيلة من القبائل التي طلب مساعدتها، فهام على وجهه؛ ولذلك لصق به لقب "الملك الضليل" ثم رأى في النهاية أن يسير إلى القسطنطينية متخذًا من الملك الغساني الحارث بن أبي شمر وسيطا له عند قيصرها لينصره على أعدائه، وفي ذلك يقول:

ولو شاء كان الغزو من أرض حمير

ولكنه عمدًا إلى الروم أنفرا

ويروى أنه في طريقه إلى أرض الروم مر على "تيماء" وفيها السموأل بن عادياء، فأودع عنده ابنته وأمواله وأدرعًا خمسة كانت لبني آكل المرار، وقد كتب له السموأل كتابا إلى الحارث بن أبي شمر. أما رفيقه في سفرته فكان كما تقول الرواية "عمرو بن قميئة" الذي سمته العرب "عمرًا الضائع" لموته في غربة وفي غير أرب ولا مطلب، وقد ذكره امرؤ القيس في شعره:

بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه

وأيقن أنا لاحقانِ بقيصرا

فقلت له: لا تبكِ عينك إنما

نحاول ملكًا أو نموت فنعذرا

كما يظهر من شعره أنه سلك طريق الشام ومر بحوران وبعلبك وحمص:

فلما بدت حوران والآل دونها

نظرت فلم تنظر بعينك منظرا

لقد أنكرتني بعلبك وأهلها

ولابن جريج في قرى حمص أنكرا

ولما وصل امرؤ القيس إلى العاصمة البيزنطية قبل القيصر مساعدته كما يروى، إذ وضع تحت تصرفه جيشًا، لكنه عدل عن مساعدته عندما أتاه رجل يسمى "الطمَّاح" كان امرؤ القيس قد قتل أخاه فلحقه إلى القسطنطينية، وأوغر صدر القيصر عليه قائلًا:"إن العرب قوم غدر، ولا تأمن أن يظفر بما يريد، ثم يغزوك بمن بعثت معه" أو -بحسب رواية لابن الكلبي- قال له: "إن امرأ القيس غويٌّ عاهر، وإنه لما انصرف عنك

ص: 161

بالجيش، ذكر أنه كان يراسل ابنتك ويواصلها، وهو قائل في ذلك أشعارا يشهرها بها بين العرب فيفضحها ويفضحك"1. فبعث القيصر إليه بحلة وشي منسوجة بالذهب مسمومة، بعد أن خرج بالجيش، فلما لبسها تسمم جسمه وتقرح فسمي بـ "ذي القروح" وكان ذلك سبب وفاته. وفي شعر امرئ القيس إشارة إلى ذلك وإلى الطماح الذي يقال: إنه وشى به:

وبدلت قرحًا داميًا بعد صحة

فيا لك من نعمى تحولن أبؤسا

لقد طمح الطماح من بعد أرضه

ليلبسني من دائه ما تلبسا

فلو أنها نفس تموت جميعة2

ولكنها نفس تساقط أنفسا

غير أن مثل هذه الروايات لا يمكن الوثوق بصحتها؛ إذ ليس لها من مستند ترتكز عليه، لا سيما وأن في القصيدة التي يذكر فيها الطماح بيتًا من الشعر يدل على أنه كان مصابا بداء قديم، ربما كان الجدري أو داء آخر ينتج عنه قروح في الجلد، قد كان ينتابه بين حين وآخر حتى فتك به في النهاية:

تأوبني دائي القديم فغلسا

أحاذر أن يرتد دائي فأنكسا

وبموت امرئ القيس اضمحلت مملكة كندة، وامَّحى أثرها، وحلت محلها دولة المناذرة في النفوذ على القبائل التي كانت تابعة لها، حتى إذا تضعضعت هذه الدولة إثر موقعة ذي قار، استقلت القبائل في شئونها الداخلية.

وبعد لا بد من كلمة حول قصة الوفاء التي نسبت إلى السموأل بن عادياء الذي أودع امرؤ القيس عنده دروعه وأمواله. فقد روي أن الملك الغساني الحارث بن أبي شمر، قد أرسل إلى السموأل يطلب منه تسليم الدروع والأموال، فأبى من تسليمها بالرغم من تهديد رسل الملك بقتل ولده إن لم يسلمها، وكانت تضحيته بولده مثالًا للوفاء عند العرب. ويختلف المؤرخون فيما إذا كان السموأل يهوديا أو نصرانيا أمه من غسان، وقد نسبه بعضهم إلى آل غسان، قال ابن دريد: إنه من غسان، لكنه ذكر أيضا أنه يهودي، بينما نسبه

1 الأغاني: 9/ 3218-3219.

2 وفي اليعقوبي 1/ 180: "فلو أنها نفس تموت سوية".

ص: 162

محمد بن حبيب إلى غسان، ولم يشر إلى تهوده. وهناك من يشك في القصة من أساسها، وأنها قد تكون موضوعة، يقول "ونكلر" Winekler: إن قصة الوفاء هذه إنما هي أسطورة استمدت من أسفار صموئيل الأول في التوراة. وقد جاءت أساطير العرب لتصوغها بهذه الصورة فتجعل بطليها شخصين: السموأل، وامرأ القيس1.

أما عن حضارة دولة كندة فإنها لم تترك من الآثار الحضرية شيئًا سوى ذكرى شاعرها الكبير امرئ القيس وقصائده الشهيرة، إذ لم يكن لها مدن ولا حصون ولا قصور جديرة بالخلود، إنما الذين قاموا عليها كانوا بدوا حافظوا على نظم البداوة وتقاليدها، واستعملوا الخيام مساكن لهم، ولم يستقروا في حاضرة معينة، أما ديانتهم فكانت وثنية، من أصنامهم ذو الخلصة. على أن اليهودية قد تسربت إلى بعضهم، لكن المسيحية قد انتشرت على نطاق واسع، فاعتنقها بنو تغلب وجماعة من أسد. غير أن قيام هذه الدولة يعد أول محاولة في شمالي شبه الجزيرة العربية لتكتل مجموعة من القبائل، حول سلطة مركزية لها زعيم واحد. لكنها فشلت بسبب افتقارها إلى المؤهلات التي تجعل منها دولة واحدة، ذلك الذي ستنجح فيه محاولة أخرى أقوى منها؛ لتوفر العوامل الفكرية والاجتماعية لا سيما قوة العقيدة التي جاءت بها، تلك هي الدعوة الإسلامية التي كانت كفيلة بأن تعيد لا إلى هذه القبائل وحسب، بل إلى جميع القبائل العربية في شبه الجزيرة وحدتها، وتنظمها في دولة واحدة وطيدة الأركان.

1 جواد علي: 3/ 273.

ص: 163