الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
إلا أن بعض المحدثين قد ذهبوا إلى القول بأن هذا التقسيم إن هو إلا من صنع الأخباريين اليمنيين الذين أرادوا الحط من قدر خصومهم عرب الشمال بنفي العروبة الأصلية عنهم، وقد رد بعضهم سبب الخصومة والعداء إلى ما يكون عادة من نزاع بين البداوة والحضارة1.
وأما قصة عدنان فيكتنفها الشك من جميع جوانبها؛ ذلك أن النسابين قد اختلفوا في نسبه اختلافًا كبيرًا، أضفى على حياته وشخصيته ظلالًا كثيفة من الغموض. لقد اختلفوا في عدد الآباء والأجداد الذين تعاقبوا بينه وبين إسماعيل، كما اختلفوا في طول المدة التي فصلت بينهما، لا سيما وأن أسماء من ذكروا من هؤلاء الآباء والجدود تبدو عليها المسحة الأعجمية؛ إذ إنها غريبة عن الأسماء العربية، ولا بد أن الأخباريين قد أخذوها من أهل الكتاب وقصصهم، بينما يلاحظ أن الأسماء التي وردت بعد عدنان من أولاد وذرارٍ هي أسماء عربية صحيحة، لا علاقة لها بالتوراة، ويبدو أن النسابين العرب لم يقتبسوها من روايات أهل الكتاب.
1 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص6.
نقد نظرية الأنساب:
لقد أبدى العلماء تحفظات شديدة على نظرية الأنساب العربية، وشكوا في صحتها، إذ ليس هناك من الأدلة العلمية الحاسمة ما يثبت صحة التقسيم الذي جاءت به، أو ما يدعو إلى الجزم ببطلانها. والانتقادات التي وجهوها إليها كثيرة؛ إذ عثروا على أدلة تناقض ما جاء في التقسيم، منها على سبيل المثال:
إن النسابين العرب قد بينوا أن سبأ هو حفيد قحطان جد عرب الجنوب، بينما يورد العلماء أدلة تشير إلى أن السبئيين كانوا في أول أمرهم يقطنون في شمالي شبه جزيرة العرب، ثم هاجروا إلى جنوبها، واستقروا في أرض اليمن حيث أقاموا حضارتهم المعروفة في التاريخ، خلافًا لحركة الهجرة التي كانت تدفع القبائل العربية الجنوبية نحو الشمال، بحيث شُوهد العديد منها منتشرًا في جهات الحجاز ونجد والبحرين عند ظهور الإسلام.
أما الانتقاد الشديد فهو الذي تناول مسألة قسمة العرب إلى جدين كبيرين:
قحطان وعدنان. وقد أوضح العلماء أن هذا التقسيم يبدو ضعيفًا لأسباب عديدة منها:
كون القرآن الكريم لم يشر بأية إشارة إلى هذين الجدين، لا بل خاطب العرب المسلمين بكونهم من نسل إسماعيل بن إبراهيم. ومنها أن الحروب التي وقعت بين علي ومعاوية ليس فيها أية إشارة إلى قحطانية وعدنانية. وكذلك بالنسبة لما فعله الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب عندما نظم جداول العطاء على أساس القبائل ومن ألحق بها، دون أن يكون ثمة إشارة ما إلى هذا التقسيم. والواقع أنه لم يكن لمفهوم "يمن" و"يمنية" مدلوله الذي توسع في العصر الأموي، وهذا ما يقلل من أهمية دعوى النسابين بانقسام العرب منذ القديم إلى أصلين: قحطاني وعدناني.
ثم إن ثمة شكًّا وغموضًا يكتنف كلًّا من قحطان وعدنان، وحتى نزارًا حفيد عدنان؛ فالعلماء يقولون: إن أهل الكتاب من العبرانيين هم الأصل في ذيوع هذا التقسيم بين العرب، لا سيما وأن الأنساب قد دونت بعد أواخر القرن الثاني للهجرة، بعد أن كانت الروايات الإسرائيلية قد شاعت بين المسلمين، سِيَّمَا بين رواة أهل اليمن. واليمنيون كان بينهم وبين الشماليين منازعات وعداوات تعود إلى ما قبل الإسلام -تلك المنازعات التي سميت باسم "منازعات يثرب - مكة"، وكانت بين الأوس والخزرج من جهة وقريش من جهة أخرى- واستمرت بعد الإسلام. لكن ظهور الإسلام قد سجل رجحانًا لكفة الشماليين على الجنوبيين، فأراد هؤلاء أن يعيدوا شيئًا من التوازن في المفاضلة، وحاولوا أن يضفوا على أصلهم رواءً زاهيًا، فاستغلوا ما أشيع من قصص وروايات إسرائيلية؛ ليجعلوا من اليمنيين نسلًا لقحطان العربي القح أصلًا، وكونهم أصل العرب، بينما جعلوا الشماليين في المنزلة الثانية بل الثالثة في سلم طبقات العرب، بوصفهم دخلاءَ على العروبة "مستعربون"1. والعالم "نولدكه" هو أول من شك من المستشرقين في هذا النسب العام وأول من نبه إلى أثر اليمنيين في وضعه. ويشير الدكتور جواد علي إلى أن الإسرائيليين لم يكونوا مخلصين في إعطاء هذه التقسيمات للأخباريين المسلمين؛ فوقع هؤلاء في أخطاء كثيرة حتى جاءت رواياتهم مضطربة2.
1 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص6.
2 د. جواد علي: 1/ 225، 295.
وقد يكون مرد التقسيم في الأساس -على رأي بعض العلماء- إلى انقسام العرب إلى طبقتين رئيسيتين من حيث التماس المعاش: طبقة البدو من الأعرب "أهل الوبر" من جهة، وطبقة العرب المستقرين "أهل المدر" من جهة ثانية. لا سيما وأن النسابين قد حشروا غالبية قبائل العرب المستقرة من سكان الحواضر في النسب القحطاني، وغالبية القبائل البدوية في النسب العدناني. وبديهي أن مناطق الحضر أغلبها في الجنوب الذي يتمتع بشروط الخصب والزراعة، ومناطق البدو وهي في الشمال القاحل، فالتقسيم على هذا النحو تتحكم فيه على ما يظهر الاعتبارات الجغرافية.
أما الشك الذي يكتنف الجدين الكبيرين فهو نابع من كونهما لم يعرفا في الجاهلية على نحو واضح، والقرآن الكريم لم يذكر أيًّا منهما، كما أن اسمهما لم يذكر في الشعر الجاهلي إلا نادرًا، بينما ذكر اسم معد بن عدنان أكثر من اسم أبيه سواء في الشعر الجاهلي أو فيما أتانا من كتابات المؤرخين الكلاسيكيين الذين لم يذكروا اسم عدنان بتاتًا. وهذا ما دعا العلماء إلى الشك في أمر عدنان إذ قالوا:"لو كان عدنان جدا كبيرا في الجاهلية -كما صوره أصحاب الأخبار والأنساب- لوجب عقلًا أن يتردد اسمه بكثرة في الكتابات الجاهلية أو في المؤلفات الكلاسيكية أو في الشعر الجاهلي"1. وقد خامر العلماء الشك في أمر نزار حفيد عدنان أيضا بسبب أن اسمه لم يرد في الشعر الجاهلي المتقدم، وأن وروده كان متأخرا جدا بالنسبة لورود اسم أبيه "معد"، وأن بعض الكتبة البيزنطيين قد ذكروا اسم "معد" ولم يذكروا اسم "نزار". ويعزز الباحثون شكوكهم هذه بأن العرب الشماليين قد عمدوا في الغالب على ربط نسبهم بمعد ولم يعمدوا إلى ربطه بنزار إلا نادرًا.
على أن الشك في أمر هذه الأنساب لم يقتصر على المحدثين وحسب، بل خامر القدماء أيضا، فقد أنكر الرسول صلى الله عليه وسلم ما ذكر أمامه من إرجاع نسبه إلى عدنان قائلًا:"من ها هنا كذب النسابون". كما أنكر الإمام مالك من الرجل يرفع نسبه إلى آدم أو إلى إسماعيل قائلًا: "من يخبره ذلك؟ "2. ويعلق الواقدي على اختلاف النسابين حول سلسلة الأجداد التي تصل نسب عدنان بإسماعيل بقوله: "إنها لم تحفظ، إنما أخذت من أهل الكتاب
1 د. جواد علي: 1/ 196، 297.
2 راجع: القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص24.
واختلف فيها، ومن الأفضل الانتهاء إلى معد، والإمساك عما وراء ذلك إلى إسماعيل".
والواقع أننا إذا رجعنا إلى أسماء الآباء والأجداد الذين تعاقبوا من إسماعيل إلى معد نلاحظ أنها كلها أعجمية؛ مما يدل على أنها قد أخذت من أهل الكتاب اليهود وكانت من وحيهم، بينما نجد أن الأسماء التي تسلسلت بعد معد كلها أسماء عربية خالصة. لذلك فإننا وبعض الباحثين المحدثين على وفاق بأن الأنساب العربية في تقسيماتها المتأخرة، اعتبارًا من معد نزولًا، قد تكون مما يوحي بالثقة والاطمئنان إلى حدٍّ ما.
وقد تصدى بعض المستشرقين إلى انتقاد نظرية الأنساب بدعوى أنها قد لفقت في العهد الأموي، عندما انقسمت القبائل العربية في تنازعها إلى يمنية ومضرية. والواقع أن الدوافع السياسية قد حملت السلطة الحاكمة في العهد السفياني من الخلافة الأموية إلى سلوك هذا السبيل، ولكن في نطاق ضيق اقتصر على بعض قبائل من قضاعة.
كما رأى بعضهم الآخر أن نظرية الأنساب العربية مخالفة للحقائق الثابتة علميًّا؛ ذلك أن سلاسل الأنساب العربية تعتمد على النظام الأبوي، بينما أثبتت الحقائق العلمية أن هذا النظام لم يعرف في شبه الجزيرة العربية إلا بعد أن مر العرب في دور النظام التوتمي1 الذي يجعل النسب في الأمهات، شأنهم في ذلك كشأن سائر المجتمعات القديمة، وأن العرب -عدا ذلك- قد مروا في أطوار كان الزواج فيها يتبع طرقًا أخرى غير التي عرفت في العصر الحاضر؛ إذ كان هنالك ما يسمى بالزواج الموقت الذي لا يدوم أحيانا أكثر من بضعة أسابيع، أو أن المرأة كانت تتزوج عدة رجال في وقت واحد، بحيث لا يمكن معرفة من هو الوالد الحقيقي للطفل المولود في كلا نوعي الزواج. وهكذا فإن الانتساب في كلتا حالتي التوتمية وطرق الزواج القديمة يكون إلى الأم لا إلى الأب.
ويبدو أن هذا النقد ليس له قيمة كبيرة؛ لأن النظام التوتمي والزواج الموقت وزواج
1 التوتم: حيوان أو نبات أو شيء آخر يشترك في تقديسه أو عبادته أفراد قبيلة من القبائل ويقسمون باسمه، ويعتقدون أنه جدهم الأعلى، وأنهم من دم واحد، مرتبطون بعهود متبادلة ترجع إلى ذلك التوتم، وينتسبون إليه لا إلى الأب الذي أنسلهم. ويدور محور القرابة على الأم وحدها ويحمل الابن لقب أمه وتوتمها. ويعتبر الأب كالغريب فيما إذا اعتدى على قدسية التوتم؛ وعندئذٍ يحق لأولاده قتاله بحسب ما تجيز التقاليد. "راجع عن التوتم: جورجي زيدان: طبقات الأمم، ص49".
المرأة بعدة أزواج معًا قد اندثرت في شبه جزيرة العرب بانتهاء عصور ما قبل التاريخ، فتجاوز العرب هذه المرحلة إلى نظام الأبوة.
غير أن ما ذكره المستشرقون من مرور شبه الجزيرة بالنظام التوتمي ربما يكون قد ترك أثره في تسمية القبائل بأسماء تمت بصلة إلى الرموز التوتمية. ذلك أننا نلمس في أسماء بعض القبائل العربية بعض ما يدل على ذلك، مثال قبائل: كلب، أسد، نمر، نمير، فهد، ليث، وغيرها. والواقع أن ثمة قبائل ترجع أنسابها إلى آباء وأجداد، تنتمي إليهم وتفاخر بهم، وليس من الضروري أن يكون هؤلاء آباء وأجدادًا عاشوا وماتوا، بل قد يكون أحدهم اسم مدينة أو قرية أو أرض أو صنم أو حيوان أو نبات. نجد مثلا في كتب أنساب العرب أسماء لآباء وأجداد أو قبائل ما ليست في الواقع إلا أسماء لمواضع وأمكنة مثل: سبأ، غسان، عمان، حضرموت، وغير ذلك من الأسماء التي أصبحت بمرور الزمن أسماء رجال جعلهم النسابون ينسلون وتصبح لهم ذرارٍ وقبائل وبطون1.
وأخيرًا هناك الانتقاد المهم الذي وجهه العلماء لنظرية الأنساب أن المحالفات والمؤاخاة ورابطة الجوار قد تؤدي إلى نشوء أنساب مشتركة هي في الأصل غير مشتركة، فإذا انفصمت عرا التحالف أو انقلب حسن الجوار إلى عداء تنفصم على أثره رابطة النسب، وتتكون رابطة نسب جديدة. وإذا علمنا أن القبائل العربية كانت في نزاع دائم فيما بينها، وأن كل فريق من الفرقاء المتحاربين كان يلجأ إلى عقد المحالفات ليواجه بها أحلافًا تعقد في الجانب الآخر، وأن هذه المحالفات قد تنقلب أحيانا فتخرج منها بعض القبائل لتنضم إلى الجهة المقابلة، أدركنا احتمال ما يطرأ من التغيير على أنساب القبائل. هذا إلى أن القبائل المتحدة قد تنسى أسماءها الأصلية وشخصيتها بمرور الزمن وتعاقب الأجيال وتندمج في اسم القبيلة الأقوى التي تنضوي إليها، فيزعم أفراد القبائل المندمجة فيما بعد أنهم ينحدرون من أب واحد أو جد واحد، بينما يكونون في الواقع منحدرين من آباء وأجداد متعددين ومختلفين2.
1 د. جواد علي: 336.
2 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص4.
غير أننا يجب أن نحيط هذا الانتقاد ببعض التحفظ؛ ذلك أن التحالف الذي يستتبع إمحاء ونسيان نسب بعض القبائل المتحالفة لم يكن يتعدى بعض القبائل الصغيرة التي لا شأن لها، وأن التحالف حينما ينفرط تعود القبائل المتحالفة إلى نسبها الأول. لذلك فإن نتائج مثل هذه الأحلاف من حيث طمسها لنسب بعض القبائل أحرى أن تنحصر في نطاق ضيق.