الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للتاريخ -في جملة ما له من أهداف- أن يقوم بدور توجيهي وتهذيبي فينبغي ألا يكون ذلك بطريقة مباشرة، بل هو يستطيع أن يحقق دوره في هذه الناحية بصورة أفضل كلما قل سعيه المباشر وراء هذه الغايات، أي أنه يقوم بدوره هذا بمجرد عرض الحوادث والوقائع التي تكون بحد ذاتها عبرة للمطالع والدارس.
وفي رأيي، أنه إذا جاز للمؤرخ أن يفسر الحوادث ويعللها، فإنه جائز له أيضًا أن يحاكم أعمال صناع التاريخ، أولئك الرجال من الأمة الذين يسهمون في صنع الأحداث وتوجيهها، وأن ينقد أعمالهم وتصرفاتهم، ويكوِّن الصورة الحقيقية لما قاموا به من منجزات، أو وقعوا فيه من أخطاء، فيعطي العناصر التي تساعد على الحكم لهم أو عليهم. فالمؤرخ يجمع إلى صفة العالم صفة القاضي المحقق الذي يفترض فيه أن يكون حريصًا على النزاهة. فكما يهتم القاضي بالتدقيق في الآثار التي يتركها المتهم، ويجمع الأدلة التي تدينه أو تبرئه، ويتمعن في شهادات الشهود لكي تأتي نتيجة تحقيقاته صحيحة، كذلك يفعل المؤرخ بالنسبة لمادته التاريخية وآثاره. وآثار المؤرخ هي الأوابد والمسكوكات والمنقوشات والمنشآت العمرانية وشتى الوثائق التي تركها أجدادنا القدامى. وشهوده هم الأخباريون والرواة الذين عاصروا الحوادث أو اشتركوا فيها، وربما يكونون قد تركوا مذكرات دونوا فيها هذه الحوادث، أو نقلوا أخبارها عن أقرب الناس إليها، ووصلت إلينا في مصنفات قديمة، فيقع عليه أن يجمع هذه الآثار ويستنطقها، ويسمع لهؤلاء الشهود ويقابل بين أقوالهم، ويمحصها، وأن يتحلى بأتم ما يكون الوعي والحس التاريخي السليم لإدراك الصحيح من المزور من آثاره، والصادق من الكاذب من أقوال شهوده؛ لكي تأتي نتائجه سليمة صحيحة.
مصادر تاريخ العرب القديم:
إن دراستنا التاريخية هذه تشمل عصور ما قبل الإسلام. ولا بد لنا قبل أن نبدأ هذه الدراسة من إعطاء لمحة عن الموارد التي يستطيع المؤرخ أن يستقي منها معلوماته التاريخية. ومن المفيد أن نبدأ بتعريف هذه الفترة التي اصطلح العرب المسلمون على تسميتها بـ"العصر الجاهلي":
لقد اختلف العلماء في تفسير معنى الجاهلية؛ فالمسلمون الذين درجوا على استهجان ما كان عليه العرب من وثنية قبل الإسلام قد قصدوا من هذه التسمية إلى وصم القوم بجهل الدين الحنيف، كما جاء في قوله تعالى:{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ} [الزمر: 64]، و {يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} [آل عمران: 154] ، بينما قصد بها بعض المستشرقين ونفر من الباحثين العرب المحدثين الجهل الذي يعني تنكب سبيل العلم، بالإضافة إلى الجهل بشريعة الله وبتعاليم الدين وسلوك سبيل التجبر والمفاخرة بالأنساب.
وقد أشار المستشرق المجري "كولدزهير" إلى ذلك بقوله: إنها "السفه الذي هو ضد الحلم"، ونفى الدكتور أحمد أمين "كونها الجهل الذي يعني تنكب طريق العلم، بل كونها التخلق بأخلاق منافية للاتزان وضبط النفس كالخفة والغضب"1. أما الدكتور جواد علي فقد عرفها "بكونها عدم الخضوع لقانون عام سوى تقاليد البادية على ما فيها من الفوضى الاجتماعية، ويقابلها الإسلام وعماده الخضوع لله والانقياد له والرضوخ لما تقتضيه مصلحة الجماعة الإسلامية، واتباع قانون عام هو القانون الإلهي الذي شرعه الدين الجديد"2. وقد جاء في القرآن الكريم ما يؤيد هذا المعنى ببيان ما كانت عليه أحكام الجاهلية من جور وضلال، وتفريق بين الناس في المنزلة والمعاملة، كقوله تعالى:{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُون} [المائدة: 50]، ولا سيما قوله تعالى:{وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاما} [الفرقان: 63]، تلك الآية التي يقول أحمد أمين أن "لعلها المفتاح الذي نصل به إلى معرفة السبب في تسمية ما قبل الإسلام جاهلية والعهد الذي تلاه إسلامًا"3. ومن هذا القبيل ما يروى عن قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم للصحابي أبي ذر الغفاري عندما عاب على رجل من المسلمين كونه ابن سوداء:"إنك امرؤ فيك جاهلية".
1 الدكتور أحمد أمين: فجر الإسلام، ص69.
2 الدكتور جواد علي: تاريخ العرب قبل الإسلام، 1/ 6-8.
3 الدكتور أحمد أمين: نفس المصدر "69-70".