الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أهل الميت وولده لتعلمه بخبرهم. فأرواح أمواتهم تبقى بينهم، ومن المفروض عليهم تقديسها.
كان تقديسهم للسلف وعبادتهم لهم، ناشئًا عن حبهم وتقديرهم لأجدادهم العظام، وأبطالهم ورؤسائهم، كالذي أورد ابن الكلبي عن بني شيث بن آدم أنهم كانوا يأتون جسد أبيهم في المغارة التي دفن فيها، فيعظمونه ويترحمون عليه، فقال رجل من بني قابيل بن آدم:"يا بني قابيل! إن لبني شيث دوارًا يدورون حوله ويعظمونه، وليس لكم شيء" فنحت لهم صنمًا، فكان أول من عملها. كما قال ابن الكلبي:"كان ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر قومًا صالحين، ماتوا في شهر، فجزع عليهم ذوو أقاربهم، فقال رجل من بني قابيل: يا قوم! هل لكم أن أعمل لكم خمسة أصنام على صورهم، غير أني لا أقدر أن أجعل فيها أرواحًا؟ قالوا: نعم، فنحت لهم خمسة أصنام على صورهم ونصبها لهم. فكان الرجل يأتي أخاه وعمه وابن عمه فيعظمه ويسعى حوله". وهكذا بمرور القرن بعد القرن استمروا على تعظيمهم قائلين: "ما عظم أولونا هؤلاء إلا وهم يرجون شفاعتهم عند الله".
فعبدوهم، وعظم أمرهم واشتد كفرهم1.
وقد يعمد بعضهم إلى نصب الحجارة والشواهد على قبور أسلافهم المتوفين، فيطوفون حولها ويعبدونها بمرور الزمن؛ ولذا فإن الرسول صلى الله عليه وسلم قد لعن المتخذين على القبور المساجد والسرج، ونهى عن الصلاة عليها، وأمر بتسوية القبور مع الأرض معتبرا أن "خير القبور الدوارس" كما أمر بطمس التماثيل.
1 ابن الكلبي: الأصنام، ص50-52.
عبادة الجن:
يقول "نولدكه": إن فكرة عبادة الجن عقيدة قديمة، وجدت عند أقوام من غير العرب، وتسربت إلى العرب من جيرانهم الشماليين. والواقع أن العرب تأثروا بمؤثرات خارجية متعددة الجوانب، ومنها العقائد الدينية.
كان من معتقدات الجاهليين أن بعض الأرواح تكون من الجن، وأن الجن وإن
كانت من الأرواح غير المنظورة، إلا إنه بالإمكان رؤيتها ومخاطبتها حتى والتزوج منها. ذلك بأن باستطاعتها أن تظهر وتختفي بسرعة، وتغير أشكالها بسرعة، تتجسم متى شاءت، وتظهر بالشكل الذي تريده، بصورة إنسان أو بصورة حيوان ولا سيما في صورة حية، وللناس قصص كثيرة عن ظهورها بالشكل الأخير. وهناك أيضا قصص عن مصاهرة أناس للجن، وظهور نسل وأسر من هذا التصاهر. وفي روايات العرب أنه كان لعمرو بن يربوع بن حنظلة التميمي زوجة من الجن1.
وأهم الأماكن التي زعموا أن الجن تسكنها المواضع الموحشة، التي لا يطرقها الناس إلا نادرًا، والمواضع التي تصيبها الكوارث، كمواطن عاد وثمود، إذ تعيش في الخرائب والقبور والصحارى، وقرب عيون الماء وفي بعض الوديان. وأهم منطقة سكنها الجن في رأيهم وادي عبقر ومفازة صيهد في الربع الخالي، والحجر ديار ثمود. وهي تختار الظلام للظهور، فإذا انبلج الصبح ولت واختفت. ولذا فإن الناس إذا مروا ليلًا بمكان موحش، كانوا يحيون ساكنيه من الجن بقولهم "عموا ظلامًا".
والمواضع المذكورة، وإن كانت هي الأماكن المفضلة لإقامة الجن، غير أن مواطنها غير محدودة ولا معينة، بل ترتاد كل موضع ومكان في زعمهم، حتى بيوت الناس لا تخلو منها. وفضلا عن ذلك فإنها شعوب وقبائل وفصائل مثل البشر، ولها رؤساء وملوك وحكام. فإذا أناخ قوم في مكان اعتقدوا أن فيه جنًّا استعاذوا بعظيم هذا المكان منهم، عساه يستجيب لنداء المستعيذ، ولا يسمح بإلحاق الأذى بالقوم2. وإلى ذلك يشير التنزيل الحكيم في قوله:{وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} 3 أي: ضلالًا، كما يشير إلى عبادتهم للجن في قوله تعالى:{قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ} 4.
واعتقدوا أن تقاليد قبائل الجن شبيهة بتقاليد قبائل الإنس، مثل إدراك الثأر والتحكيم بعد الحرب، كالذي يُروى عن قتل رجل من بني سهم لواحد من الجن، قضى
1 جواد علي: 5/ 40.
2 جواد علي: 5/ 42-44.
3 [الجن: 6] .
4 [سبأ: 41] .
طوافه حول الكعبة، ودخل أحد دور بني سهم، فهاجت الجن وقتلت كثيرًا من بني سهم ثأرًا لقتيلها، فهب بنو سهم وحلفاؤهم ومواليهم وعبيدهم وقصدوا الجبال والشعاب، فلم يتركوا حية ولا عقربًا ولا خنفساء ولا دابة من شأن الجن أن تتجسد فيها إلا قتلوها، حتى اضطرت الجن إلى التوسط لدى قريش؛ لإنهاء النزاع بينها وبين سهم التي قتلت من الجن أضعاف ما قتله الجن منها، فنجحت الوساطة وانتهى النزاع بين الطرفين1.
ومما اعتقد الجاهليون به، أن الجن قد تسرق الأطفال والرجال والنساء، وينسبون إلى الجن في الغالب فقدان الأشخاص في البوادي. وقد يتعرض الجن لبعضهم فيقتلونه عمدًا كالذي اشتهر عن تعرض من يدعي "شِقّ" من الجن لعلقمة بن صفوان جد مروان بن الحكم وإرغامه على المبارزة، فضرب كل منهما الآخر في لمحة بصر واحدة، فخرا ميتيْنِ. كما يروى أن حرب بن أمية وغيره من الأشخاص المعروفين قد قتلهم الجن2.
وكما أن الجن تلحق الأذى بالإنس، فإن منها من تسدي لهم الجميل من الفعال؛ لأن من الجن من هو طيب النفس مفيد ونافع، وإن كانوا قلة. من ذلك ما يروى عن الشاعر عبيد بن الأبرص أنه رأى حية فسقاها، فلما ضل له جمل وتاه ناداه هاتف بصوت مسموع، يشير إلى الموضع الذي ذهب إليه الجمل. فذهب عبيد إلى المكان فوجد جمله، وكان الهاتف صوت الحية التي تمثل فيها الجن.
وينسب الجاهليون للجن كثيرًا من المصائب التي تصيب البشر مثل الأمراض والأوبئة والجنون بخاصة، وبين الجن والجِنَّة والجنون علاقة لفظية. ولتفادي هذه المصائب تجب مكافحة الجن وطردها بطرق مختلفة يقوم بها السحرة والكهان، ويستخدم الكاهن في ذلك الرقى والتعاويذ والعزائم لطرد الجن من جوفه. ومن الشائع لديهم أن لكل كاهن تابعًا من الجن "رئيًا" يستعين به، ويسترق له التابع الأخبار والأسرار من السماء، فيخبره بها فينقلها بدوره للسائلين3.
1 جواد علي: 5/ 45.
2 راجع عن ذلك: مروج الذهب، 2/ 140-141.
3 ابن الكلبي: الأصنام، ص54؛ عمر فروخ: تاريخ الفكر العربي ص167.