الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية
مدخل
…
الفصل الرابع عشر: الحياة الفكرية عند عرب الجاهلية
قد يتبادر إلى الذهن أن عرب الجاهلية كانوا أمة منعزلة عن العالم؛ بسبب الوضع الجغرافي لشبه جزيرة العرب، التي تحيط بها الصحارى والبحار من جميع الجهات. غير أن الدراسات الحديثة قد كشفت عن خطأ هذا الاعتقاد، وأثبتت أن العرب لم يكونوا في منأى عن الحضارات الكبرى التي جاورتهم1، بل اتصلوا بها وتفاعلوا معها. وكانت صلة الوصل بينهم وبينها، أولًا التجارة، ثم المدنيات العربية التي اضطلعت بها بعض الإمارات العربية المتاخمة لحدود بيزنطة وفارس، كدول الأنباط والغساسنة والمناذرة، أو بواسطة الجاليات المسيحية واليهودية التي استقرت في بعض المدن الحجازية، كيثرب ومكة ونجران.
فقد كان لوقوع مكة والمدينة على طرق القوافل التجارية أثر كبير في ازدياد أهميتهما وارتقائهما فكريا وحضاريا؛ ذلك أن أهلهما قد احتكوا بالأمم المجاورة، واعتنق بعضهم الديانات السماوية كاليهودية والمسيحية، وأصبح بعضهم يعرفون القراءة والكتابة وتقدموا فكريًّا. وعلى رأي بعض المستشرقين أن بعض أجزاء شبه جزيرة العرب قد تفاعلت مع مظاهر الحضارة الهللينية، وأن كثيرا من الأفكار، ومن نتاج الثقافات اليونانية والرومانية، ومن العقائد المسيحية والمزدكية قد اختلطت وامتزجت فيها. وهكذا لم يبق العرب سادرين في عزلتهم، بل أخذوا بنصيب من يقظة عارمة، زاد في وضوح معالمها وقوعهم في أطراف المدنيات الكبرى2. ومن الجدير بالذكر أن من أهم
1 Henri Masse: L'Islam "Paris 1930". P. 7.
2 Claude Cahen: Ibid. ، P. 11.
إدوار بروي: تاريخ القرون الوسطى، ص110-111.
النتائج الفكرية التي أسفرت عنها رحلات المكيين إلى الحيرة أنهم قد نقلوا منها حروف الهجاء، الأمر الذي استتبع نشوء الخط المعروف باسم الخط الكوفي.
يقارن الجاحظ بين العرب وغيرهم من الأمم فيقول: "بأنه وإن عرف عن الهند واليونان وفارس تطرقهم إلى صنوف من العلم والفلسفة والمنطق والخطابة، إنما لم يتصفوا بالبيان وزلاقة اللسان وانثيال البديهة، بل كان ما خرج عنهم، إنما هو عن "طول فكرة، وعن اجتهاد وخلوة" بينما "كل شيء للعرب، إنما هو بديهة وارتجال، وكأنه إلهام ليس فيه معاناة ولا مكابدة" وأنهم بالرغم من كونهم أميين، كانوا مطبوعين لا يتكلفون، "تأتيهم المعاني إرسالًا، وتنثال عليهم الألفاظ انثيالًا" وأن كل ما خلفوه من شعر أو نثر لشاهد صادق على الديباجة الكريمة، والرونق العجيب، والسبك والنحت الذي لا يستطيع أشعر الناس اليوم أن يجاريه"1.
ويقول أحمد أمين: "إن العربي الجاهلي عصبي المزاج سريع الغضب، والمزاج العصبي يستتبع عادة ذكاء. وفي الحق: إن العربي ذكي، يظهر ذكاؤه في لغته، فكثيرا ما يعتمد على اللمحة الدالة، والإشارة البعيدة، كما يظهر في حضور بديهته، فما هو إلا أن يفاجأ بالأمر فيفجؤك بحسن الجواب"2.
مما تقدم تتضح لنا الخطوط الأساسية لمميزات الفكر العربي في الجاهلية. فالعربي الجاهلي لم يمارس العلم، ولم تكن له فلسفة ولا منطق، إنما تميزت ثقافته بالفنون الأدبية من خطابة ونثر وأمثال وشعر، تنثال عليه المعاني انثيالًا دون تكلف. فالسليقة الشعرية فيه طبع أصيل، وقد فطر على البديهة والارتجال والإلهام. وهو ذكي سريع الخاطر يعتمد على اللمحة الدالة والإشارة البعيدة.
إن هذه الثقافة لمما يتفق مع بداوة العيش، وهي طور مر العرب فيه. والبداوة كما قال ابن خلدون في حديثه عن العرب "جيل في الخلقة طبيعي" مثلهم كمثل غيرهم من
1 الجاحظ: البيان والتبيين، 3/ 27-29.
2 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص31.
الأمم المتبدية، كالبربر والترك والأكراد، وهي حالة اجتماعية تمر فيها الأمم في طور نشوئها وارتقائها1.
غير أن حالتهم الفكرية كانت من التقدم النسبي بحيث إن الدين الإسلامي بما انبثق عنه من نظم انقلابية ثورية، قد لقي استجابة منهم، فنفذ إلى قلوبهم ونقلهم بأيسر وجه إلى ميادين الحضارة، إذ تفهموا علوم اليونان والسريان وغيرهم، وتمثلوها وصهروها في بوتقة العروبة، وأقاموا على أسسها صروح حضارتهم العربية الإسلامية، التي استتمت جميع مقومات العبقرية والإلهام، وسحرت الكتاب والمستشرقين، فأفاضوا في وصفها، وتعمقوا في دراستها.
وبالرغم مما انطوى عليه العهد الجاهلي من عبادة للأوثان، ومن اعتقادات وطقوس اجتماعية بدائية جلها خرافي، فليس من العدل أن ترتسم عنه في الأذهان صورة سيئة ومشوهة، بحيث نتصوره وكأنه عهد ظلم وقاتم. ذلك أننا لو أمعنا النظر فيما اتصل بنا من ترك الجاهلية في الأدب والشعر والنثر والخطابة والأمثال والحكم، لرأينا أنه لا يمكن أن يصدر إلا عن شعب بلغ درجة كافية من التطور الفكري، وأن اللغة التي صيغ بها، لم تكن لتبلغ ما بلغته من كمال التركيب، والغنى بالمفردات، والدقة في التعبير، والبلاغة والمقدرة على أداء المعاني، لو لم يكن قد مضى على تطورها آنذاك قرون عديدة لا ندرك مداها. فقد قطعت شوطًا بعيدًا في التكامل والاستقرار2، وبلغت في عبقرية التعبير عن المعاني بألفاظ وتراكيب توافق الجرس والحركة والإيقاع شأوًا بعيدًا3، وأوفت على الكمال حتى أصبحت أتم اللغات السامية صرفا ونحوا وبلاغة4.
فالشعر الجاهلي بما اشتمل عليه من رائع الوصف وجمال الصور ونبل الأخلاق والمشاعر، وما يخلب اللب من فن الإيقاع5 لدليل ساطع على أن قائليه قد وُهبوا قسطًا
1 مقدمة ابن خلدون: ص121.
2 إدوار بروي: المصدر نفسه ص100.
3 راجع عن ذلك تفصيلًا في: الألوسي، المصدر نفسه، ص40-45.
4 د. عمر فروخ: العصر الجاهلي، ص50.
5 د. كمال اليازجي: معالم الفكر العربي في العصر الوسيط، ص23.
وفيرًا من رهافة الإحساس ورقة الشعور، وبرهنوا عن تقديم فني مرموق، وذوق أدبي مصقول. وعلى العموم، إننا نجد في الأدب الجاهلي شعرًا كان أو نثرًا، من المثل العليا والآراء في الحياة، ما يجعله أدبا إنسانيا خصبا وغزيرا1.
يقول الشاعر سليمان العيسى في حديث له في مجلة الموقف العربي2:
"إننا لا ندري من أية غاية مجهولة موغلة في القدم انحدرت إلينا القصيدة العربية بشكلها الذي نعرفه جميعًا. كل ما تعلمناه في المدارس وسمعناه من أساتذتنا، أن أقدم ما وصلنا من تراثنا الشعري هو الشعر الجاهلي، وعلى رأس الشعر الجاهلي هذه القصائد الساحرة: المعلقات.
والشعر الجاهلي يرجع إلى الوراء، فإذا هو لا يتعدى مائة وخمسين سنة قبل الإسلام. والمعلقات تحوم حول الإسلام، ومن أصحابها من أدرك الدعوة الجديدة وآمن بها، ومنهم من مات قبل الدعوة بقليل.
وتلقي بنظرك إلى هذه المعلقات، إلى هذه الأشكال التقليدية الأولى، فإذا أنت أمام شعر قد بلغ الذروة؛ ذروة في اللغة، وذروة في الخيال والفكر، وذروة في الموسيقى، وذروة في نضج التجربة وأصالة التعبير، أفيعقل أن يكون مثل هذا النضج الفني بداية؟ أفيمكن أن يكون القطرات الأولى التي تألف منها نهر الشعر العربي؟.
إني لأرى، ويشاركني في هذا الرأي كثيرون، أن منابع الشعر ما تزال أقوى وأغنى من مصبه حتى الآن، وأن شعرنا الجاهلي ما يزال النموذج الرائع الجدير بأن نعود إليه، وأن نغترف منه، وأن نتتلمذ عليه إذا أردنا أن نكون كتابًا أو شعراء مجيدين".
ثم ينتهي إلى القول: "إن تاريخ القصيدة العربية قديم قديم، ما أحسب إلا أن البحث الجدي سيبلغ جذوره، ويكشفها في يوم من الأيام". والواقع كما يقول سليمان العيسى، إن تاريخ القصيدة العربية قديم، وهو أقدم بكثير من التاريخ الذي حدده لقدمه "150 سنة قبل الهجرة". فلكي تبلغ اللغة العربية والشعر العربي الكمال والروعة،
1 د. عمر فروخ: العصر الجاهلي، ص50-51.
2 العدد 1، ص65.
اللذين بلغاهما عند ظهور الإسلام، وكي يتجلى رونق اللغة العربية بأجمل وأروع ما يمكن أن يتجلى به في القرآن الكريم، لا بد أن يكون قد مضى على تدرجهما في الرقي أضعاف أضعاف هذه المدة.
والعصر الجاهلي بما اتصف به من تفتح الخصائص القومية، ذلك التفتح الذي يتجلى في تكامل اللغة العربية، أحرى بأن نعتبره عصرًا من العصور المرموقة للعروبة. وليس في هذه النظرة أي "تناقض، ولا هي تعليل لتعصب العرب لجنسهم" كما يزعم المستشرق الفرنسي كلود كاهن1. وبالإضافة إلى ذلك، وكما يقول كلود كاهن، لا بد لنا من الوقوف على التقاليد الجاهلية كي نفهم النصوص الإسلامية المقدسة، ولندرك إدراكًا كاملًا التشريع الإسلامي سواء من حيث نقضه لتلك التقاليد، أو إقراره لبعضها.
ومن التراث الأدبي الجاهلي كان الشعر يؤلف الكثرة المطلقة، فأكثر ما بلغنا منهم الشعر وأقله النثر2. وكان للشعر والشعراء مكانة عظيمة في المجتمع الجاهلي، وبوسع الشاعر أن يرفع من شأن الذليل والوضيع إذا مدحه، أو أن يذل الرفيع والعزيز إذا هجاه3. وكان لظهور الشاعر في المجتمع الجاهلي أهمية عظيمة، إذ تقام الأفراح في القبيلة وتجري الاحتفالات وتنحر الذبائح، وتأتي الوفود لتهنئ القبيلة التي نبغ فيها الشاعر. والشاعر يدافع عن قبيلته بشعره كما يدافع الفارس عنها بسيفه4. والشعر كما قيل عن حق ديوان العرب، يستطيع الباحث الاستعانة به؛ ليجلو الكثير من نواحي المجتمع العربي الجاهلي، ومن أخلاق الجاهليين وعاداتهم وتقاليدهم.
1 Claude Cahen: Ibid. ، p. 9.
2 د. كمال اليازجي: المصدر نفسه، ص23.
3 والأمثلة على ذلك كثيرة نجتزئ ببعضها "راجع عنها: جورجي زيدان: تاريخ التمدن الإسلامي، 3/ 32؛ د. أحمد شلبي: التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية، 1/ 58-59" ومنها أن بني أنف الناقة من تميم كانوا يخجلون من تسميتهم، وقد زارهم الحطيئة يومًا فأكرموه فمدحهم بقوله:
قوم هم الأنف والأذناب غيرهم
…
ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا
فاحترمهم العرب لهذا النسب وأصبحوا هم يفتخرون به. كان عبد العزى بن عامر كثير البنات سيئ الحال، وقد زهد الخاطبون في بناته فكسدن. ولما قال الأعشى شعرا في مدحه سار ذكره بين العرب فأقبل الخطاب يطلبون يد بناته.
4 الألوسي: 3/ 84.