الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
من بيزنطة والحبشة وفارس الساسانية، وصممت إما على انتزاع مقاليد التجارة من يدها، بالسيطرة على المسالك التجارية المهمة التي تصلها بالشرق الأقصى، أو باختلالها. والواقع أن بعض أطراف شبه الجزيرة قد رزحت تحت الاحتلال الحبشي، أو تحت احتلال دولة الفرس الساسانية1.
1 Clande cahen: L.htm'islam des Origines au Debut de L'Empire Oftoman، P. 10.
- إدوار بروي: القرون الوسطى، ص111.
تجارة مكة:
يقول "درمنجهايم": إن الازدهار التجاري الذي تصيبه شبه جزيرة العرب بعامة ومكة بخاصة، كان مرتهنًا بطريق الهند، فبحسب أن يمر الطريق إلى الهند من الشمال، عبر وادي الرافدين، فارس، أفغانستان، أو من الجنوب والغرب، عبر شبه جزيرة العرب والخليج العربي واليمن، يكون العرب إما فقراء أو أغنياء1.
والواقع أن مكة قد استفادت من وقوعها على طريق الهند، ذلك أن القوافل التجارية الآتية من اليمن ببضائع الهند والذاهبة إليها، كانت تمر فيها بوصفها محطة تجارية لا بد لها من النزول فيها. كما أعان على ازدهار مكة وارتقائها، من محطة تجارية إلى مدينة عامرة، تدهور العلاقات بين حكام فارس وحكام بلاد الشام البيزنطيين، ونشوب حروب طويلة بين الطرفين في القرنين اللذين سبقا ظهور الإسلام، مما أدى إلى تعطيل التجارة بين بلاد الشام والهند عبر إيران وأفغانستان، وإلى انتقال النشاط التجاري إلى شبه جزيرة العرب، وبخاصة ساحلها الغربي الواقع على البحر الأحمر، فاتجه المكيون إلى التجارة وانصرفوا إليها بكليتهم، لا سيما وأن سقوط اليمن في أيدي الأحباش قد أدى إلى خروج مقاليد التجارة من أيدي اليمنيين، وانتقالها بطبيعة الحال إلى أيدي المكيين، فعوضتهم التجارة ما حرمتهم الطبيعة من موارد الزراعة؛ بسبب كون الحجاز إقليمًا بسوده الجفاف والفقر في النبات.
أسهم المكيون بالإضافة إلى نشاطهم التجاري الداخلي، في التجارة العالمية، فتاجروا مع مصر والحبشة، عبر البحر الأحمر عن طريق ميناء الشعيبة الذي كان ميناء لمكة في
1 Emile Dermenghem: Ibid. ، P. 27.
العهد الجاهلي1، ومع اليمن لا سيما بعد أن نظم هاشم بن عبد مناف رحلتي الشتاء والصيف، الأولى إلى اليمن والثانية إلى الشام، فجعلهما منتظمتين. وكان لقريش عداهما رحلات تجارية تسير في أوقات مختلفة غير معينة، فأرسل المكيون قوافلهم إلى أسواق الحيرة، كما أرسلوها إلى الشام، يحملون إليها بضائع الهند من مجوهرات وتوابل وأفاوية وأقمشة نادرة، وبضائع الصين من ملابس حريرية مترفة للأباطرة والرهبان ورجال البلاط ومن عطور، وبضائع شرقي إفريقيا من ريش نعام وعاج ومسحوق الذهب وصموغ للكنائس، علاوة على صادرات الجنوب العربي من بخور ولبان ومر وجلود ومعادن ثمينة وعطور2، ويعودون منها بالحبوب والزيوت والخمور، والمنسوجات القطنية والكتانية والحريرية، وحتى بالأسلحة التي كانت بيزنطة تفرض الحظر على تصديرها، فيلجأ العرب إلى تهريبها. وكان ارتحال القوافل أو قدومها يثير ضجة عظيمة في مكة، فما أن يعلن عن قدوم إحداها حتى يهب سكانها في شبه هيجان، ويستقبلوها بالدفوف والهتافات3.
لم تكن تجارة قريش ضيقة المجال، بل كانت عظيمة الاتساع، ولم تكن قوافلها ملك أفراد، بل كانت تعبيرا عن آمال مدينة بأسرها، تحمل أموالا لأهل مكة جميعا، منهم من يسافر معها، ومنهم من يستأجر رجالًا يقومون بهذه المهمة، ويسهم الجميع في رأس مالها. وقد تبلغ قيمة أسهم أحدهم كأبي أحيحة بن سعيد بن العاص بن أمية، وهو من أبرز أثرياء مكة، ثلاثين ألف دينار، وقد لا يتجاوز سهم أحد الفقراء منهم نصف دينار. ويصل عدد الإبل السائرة فيها إلى أكثر من 1500 بعير شاهد "إسترابون" إحداها فقال: إنها أشبه بجيش سائر، إذ يرافقها حراس يتراوح عددهم بين 200-300 مسلح4.
والواقع أن تجارة قريش كانت تسير بقوافل لضمان حماية الأموال، إذ يرافقها رؤساء وحراس وأدلاء يقل عددهم أو يكثر، بحسب قلة الأموال الثمينة التي تحملها أو كثرتها.
1 جواد علي: 4/ 203 - كان المكيون يفضلونه على المرور بأرض اليمن إلى إفريقيا؛ تجنبًا لدفع ضريبة المرور، ولتأمين حماية القوافل في أثناء مرورها في مناطق القبائل اليمنية.
2 Henri Masse: L'Islam، P. 21.
3 Emile Dermenghem: Ibid.، PP. 27، 28.
4 Dermenghem، 29: أحمد أمين، فجر الإسلام، ص14.
ويختار الأدلاء من القبائل التي تمر القافلة في أراضيها؛ لأنهم أعلم بطرقها من غيرهم، وأكثر خبرة بمواطن الماء والكلأ، وأكثر علما بمكامن الخطر الذي قد تتعرض له القافلة، كوجود عوارض طبيعية، يمكن أن يتخذها اللصوص وقطاع الطرق كمائن للإغارة عليها.
كما يحرص المكيون أن يكون رؤساء القوافل وحراسها من الشجعان القادرين على تأمين حمايتها. ويعقدون الاتفاقات مع رؤساء القبائل التي تمر القوافل في أراضيهم، ويدفعون لهؤلاء الرؤساء إتاوات وهدايا كي يسمحو لها بالمرور، ويتعهدوا بحمايتها من اللصوص وقطاع الطرق، حتى إذا تعرض للقافلة أحد من هؤلاء بسوء، كان من واجب الرئيس المتعاقد معه، والذي يقع الاعتداء في منطقته، أن يتعقب المعتدين ويؤدبهم، وأن يعيد الأشياء المنهوبة إلى أصحابها، وكان التجار يضيفون مبالغ هذه الإتاوات والهدايا إلى أسعار مبيع البضائع، الأمر الذي يجعلها غالية الثمن.
وكثيرا ما كان أصحاب البضائع يلجئون إلى الوسائل المعنوية لحماية تجارتهم، مثل تقديم الهدايا والقرابين للآلهة عند مغادرة قوافلهم أو عند عودتها، وقد اتخذ بعض الأقوام كالأنباط والتدمريين إلهًا خاصًّا لحماية القوافل:"ذو الشرى" عند الأنباط و"ساعي القوم" أي حامي القوافل عند التدمريين.
ويعقد القائمون على الحكم العهود والمواثيق مع رؤساء وحكام الدول المحيطة بهم، التي تقصدها قوافلهم، وهي التي تخولهم حق المرور في أراضيهم والاتجار فيها، وتوفير الأمان لها وحسن الجوار. وهذا هو الإيلاف الذي ورد ذكره في القرآن الكريم:{لإِيلافِ قُرَيْشٍ، إِيلافِهِمْ، رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْف} 1، أشبه شيء بالاتفاقات التجارية التي تعقد بين الدول في أيامنا الحاضرة، ووفقا لهذه العهود يتاح للتجار القرشيين التنقل في البلاد التي تعقد معها دون أن يعترضهم أحد، كما يتاح لأي دولة منها إذا شاءت أن تراقب الوافدين إليها. فالقوافل العربية التي كانت تقصد الشام كانت تتسوق من أسواق عينتها الحكومة البيزنطية لتحصِّل منها الضرائب، ولتراقب الوافدين الأجانب إلى بلادها2.
1 قريش: 1-2.
2 أحمد إبراهيم الشريف: المصد نفسه، ص207.
وقد اعتمد الروم البيزنطيون على تجارة مكة في كثير من شئونهم ووسائل ترفهم، لا سيما الحصول على الأقمشة الحريرية المزركشة الموشاة، ولم يكن بوسعهم الاستغناء عما يأتونهم به. وقد ذكر بعض مؤرخي الغرب أنه كان للبيزنطيين بيوت تجارية في مكة، يستخدمونها للشئون التجارية وللتجسس على أحوال العرب1.
وتقاسم بنو عبد مناف النشاط التجاري في مختلف البلدان المجاورة، فكان هاشم الذي يروى أنه قد حصل على عهد أمان من القيصر البيزنطي لتجار مكة، يذهب إلى الشام، وعبد شمس الذي حصل على عهد مماثل إلى الحبشة، والمطلب إلى اليمن، ونوفل إلى فارس، وكل منهما حصل على عهد "إيلاف" من كل من ملكي اليمن وفارس2.
وقد نشطت التجارة في عهد عبد المطلب بن هاشم، وازدهرت مكة وأصبحت مركزًا للصيرفة، كما يقول المستشرق "أوليري" ويمكن أن يدفع فيها التجار أثمان السلع التي يُتَّجر بها مع بلاد بعيدة، وكانت عمليات الشحن والتفريغ للتجارة الدولية تتم في مكة، ويجري فيها التأمين على التجارة عند نقلها من مكة إلى مختلف الجهات عبر طرق محفوفة بالمخاطر3. وقامت طبقة من الصيارفة، يؤمنون للتجار عملات الدول الأجنبية التي يتعامل معها القرشيون.
ومثلما كان لبيزنطة وفارس، وربما للحبشة أيضا، ممثلون تجاريون في قلب مكة، كان لمكة أيضا وكلاء تجاريون في أماكن مختلفة مثل غزة والشام ونجران. كما كان يأتي إلى مكة تجار أجانب من روم وفرس وغيرهم سكنوا فيها، وخالطوا أهلها وتحالفوا مع أثريائها، وأقام بعضهم فيها لقاء جزية سنوية يدفعونها لهم؛ لتأمين حمايتهم ولحفظ أموالهم وتجارتهم، وقد اتخذ بعض التجار الأجانب مستودعات فيها لخزن بضائعهم التي يأتون بها كالقمح والزيت والزيتون والخمور4.
1 O'Leary: Arabia before Muhammad ،P ، 184.
2 أبو علي القالي: الأمالي 3/ 199؛ سعيد الأفغاني: أسواق العرب، ص155-156.
3 O'leary: Ibid. P. 182.
أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص212.
4 جواد علي: 4/ 202.
وقد أدى اختلاط قوافل تجار العرب من قديم الزمن بعرب الشام وغيرهم، إلى تسرب كثير من الكلمات التجارية والحضارية من يونانية وغير يونانية إلى لغة العرب، فتعربت بمرور الزمن في العهد الجاهلي1.
ومما يدل على اهتمام الحجازيين بالتجارة كثرة الكلمات والعبارات المجازية التي وردت في القرآن الكريم، سواء فيما يتعلق بالتجارة مثل: الحساب والميزان والقسط والمثقال والذرة والقرض والربا والدينار والدرهم
…
إلخ، أو فيما يخاطب التنزيل الحكيم قريشًا باللغة التي تفهمها وهي التجارة، من ذلك الآيات الكريمة:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ، تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} 2، و {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِين} ، {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَة} 3. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة مماثلة.
وحتى نساؤهم قد اشتغلن في التجارة، واشتهرت منهن عديدات مثل: خديجة بنت خويلد التي كانت تستأجر الرجال للذهاب بعروضها التجارية إلى الشمال، وهند بنت عبد المطلب، والحنظلية أم أبي جهل التي كانت تتاجر بالعطور، تستوردها من اليمن4.
يقول "درمنجهايم": إن القرشيين قد تميزوا عن العرب جميعًا بحسن تذوقهم للعمل التجاري، فدعموا عملياتهم التجارية بتنظيم مالي ومصرفي مدهش، واستعملوا عملات مختلفة منها الدينار البيزنطي، الذي كان له المقام الأول في شبه الجزيرة، ومنها عملات يونانية أو فارسية "الدرهم الفضي الفارسي"، أو حميرية كما كان لهم موازين عامة، ويعتقد بأنهم استعملوا الميزان ذا الكفتين كما يستدل من بعض الآيات الكريمة، ومكاييل "صاع، مد، ربع صاع" أشار إليها القرآن الكريم. وكان لهم موازين خاصة دقيقة يزنون بها
1 الأفغاني: أسواق العرب، ص38.
2 الصف: 10-11.
3 البقرة: 16، 86.
4 أحمد إبراهيم الشريف: المصدر نفسه، ص212.
السبائك الذهبية الخام، ومكاييل خاصة يكيلون بها مساحيق الذهب. وقد عمد التجار المكيون إلى استعمال دفاتر حسابات تولوا مسكها، كما استعملوا أختامًا وأساليب معقدة، ورموزًا في الكتابة كانت تثير تهكم البدو لجهلهم بها1.
لم يكن التجار القرشيون يجمدون أموالهم الفائضة، بل كانوا يوظفونها في مشاريع استثمارية خارج الحجاز. فقد كان آل أبي ربيعة يشغِّلون أنوالًا لنسج الحرير في اليمن، وكان لأبي أحيحة الثري الكبير أموال موظفة في مشروعات زراعية في الطائف، ولأبي سفيان أملاك وولايات تجارية في شرق الأردن وفلسطين، ولعقبة بن أبي معيط مركز تجاري في مدينة صفورية بفلسطين.
ومن الدراسات التي قام بها بعض المستشرقين يستدل على أن تجار مكة كانوا يراعون بعض المعاملات التجارية المالية، ويذكر الباحثون بعض الطرق التي كانوا يتبعونها، مثل طريقة عقد القرض، وطريقة الشراكة والمضاربة، إذ كانت تكتب بها صكوك، فيقدم امرؤ مالًا ويأخذ ربحًا، فيصبح شريكًا مضاربًا، دون أن يشترك في العمل.
وثمة طريقة للمضاربة هي أشبه بالميسر، وكانت تؤدي في كثير من الأحيان إلى الإفلاس والفقر، كأن يضارب التاجر على أسعار البضائع الأجنبية قبل ورودها، أو على قدوم القوافل في مواعيدها أو متأخرة، أو يبيعون ويشترون الثمار قبل نضجها وقطافها. وكثيرًا ما كان الفقراء أو البدو البسطاء ضحية أساليب الغش التي يلجأ إليها التجار من ذوي الضمائر الفاسدة، أو الصيارفة الجشعون الذين كانوا يقرضون المال بفائدة فاحشة تزيد على 50 في المائة أو حتى مائة في المائة، أو السماسرة والوسطاء المريبون الذين يبتغون جمع الأموال دونما حاجة إلى رأس مال2، كما كانوا فريسة للمزورين الذين يكتبون بالقروض المؤداة إلى المدين مستندات يسجلون فيها ضعف المبلغ الذي يؤدونه له، والذين كانوا يستعملون أساليب لا حصر لها في الخداع والغش، فيحصلون على فوائد القروض مضاعفة، وتضاعف كلما تأخر المدين عن أداء الدين السابق، وهو الذي عبر عنه التنزيل الحكيم باسم "الربا" وحرمه.
1 Dermenghem: Ibid. PP، 26، 29، 32.
2 Demenghem: Ibid. 33.