الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كما كانوا متحللين من العصبية القبلية، لا يفرقون بين قبيلتهم وغيرها، من حيث الإغارة عليها والسطو على أموالها، وإن كانوا في أغلب الأحيان يؤثرون التمركز في المناطق المجاورة للأسواق التجارية أو طرق القوافل التجارية، بحيث يغيرون عليها، ويُعملون يد السلب والنهب فيها1. وقد اشتهر منهم عدد من الشعراء الذين أطلق عليهم اسم "الشعراء الصعاليك" والذين مارسوا هذه الأعمال، مثل: الشنفرى وعروة بن الورد، الذي اشتهر بعلو الأخلاق والجود والكرم، ينفق ما يسلبه على الفقراء والمعوزين، ومنهم "تأبط شرًّا" والسليك بن السلكة وجعفر بن علبة. والشعراء الصعاليك كانوا، على العموم، كرماء يتصفون بالشهامة والمروءة والأنفة. وفي شعر للشنفرى ما يبسط لنا بعض الصفات الخلقية لهؤلاء الشعراء حيث يخاطب بني قومه الذين آذوه، بأبيات من قصيدته المعروفة باسم "لامية العرب"2.
1 جواد علي: 1/ 369.
2
أقيموا بني أمي صدور مطيكم
…
فإني إلى قوم سواكم لأميل
فقد حُمَّت الحاجات والليل مقمر
…
وشُدَّت لطيات مطايا وأَرْحل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى
…
وفيها لمن خاف القِلى متعزل
لعمرك ما في الأرض ضيق على امرئ
…
سرى راغبًا أو راهبًا وهو يعقل
ولي دونكم أهلونَ سيد عملس
…
وأرقط زهلول وعرفاء جيئل
هم الأهل لا مستودع السر ذائع
…
لديهم ولا الجاني بما جر يخذل
وكل أبي باسل غير أنني
…
إذا عرضت أولى الطرائد أبسل
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن
…
بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل
…
عليهم وكان الأفضل المتفضل
أديم مطال الجوع حتى أميته
…
وأضرب عنه الذكر صفحًا فأذهل
وأستف ترب الأرض كيلا يرى له
…
علي من الطول امرؤ متطول
السجايا العربية:
يتضح مما تقدم أن القبائل العربية كانت في نزاع مستمر بينها، وقد طبعت حياة البداوة على الكفاح والذود عن الحمى، بل وممارسة الظلم في بعض الأحيان والمواقف، أي: مبادرة الخصم بالعداء قبل التعرض لعدائه. قال زهير بن أبي سلمى:
ومن لم يذد عن حوضه بسلاحه
…
يُهدَّم ومن لا يظلم الناس يُظلَم
غير أن في أخلاق البداوة ما يخفف كثيرًا من مساوئ الغزو والسلب والظلم. فالبدوي ولا سيما العربي أقرب بطبيعته الفطرية إلى الخير، ومهما تمادى في السلب والعدوان تنافسًا على أسباب الحياة من كلأ ومرعى، فإن طبيعته التي فطرت على الجود والكرم تدفعه إلى موازنة الشر الناتج عن تلك المنافسة. فقد فرضت عليه حياة البادية نوعا من السلوك، جعل من الشهامة والأريحية، والنجدة وحب الضيافة، والعفو عند المقدرة، وإباء الضيم، والوفاء بالعهد، والأمانة، والدفاع عن الجار واللاجئ والمستغيث، طبعا أصيلا وفطريا فيه1، وهو بعيد عن المداراة والمصانعة؛ لأنها بعيدة عن الفطرة، قريبة من الرياء.
وقد اشتهر العرب بالكرم شهرة عظيمة، ولهم فيه ضروب شتى، وأصبحت سيرة بعضهم مضرب الأمثال؛ كحاتم الطائي، وكعب بن مامة الإيادي، وأوس بن حارثة الطائي، وهرم بن سنان، وعبد الله بن جدعان التميمي الملقب باسم "حاسي الذهب" وفيه ضرب المثل القائل:"أقرى من حاسي الذهب". وأجواد العرب وكرماؤهم كُثُرٌ يصعب حصرهم.
ويتجلى الكرم في نحر الجُزُر -مفردها: جَزُور، وهو ما يُجزر من النوق والغنم- وإطعام الضيوف والفقراء والمساكين، أو بموجز العبارة: أن يبذل المرء أكثر مما يأخذ. وكان من عادة العرب أن يشعلوا النيران في ربوات عالية؛ ليهتدي بها السائرون في الصحراء، ويتجهوا إلى المضارب المستعدة لاستضافتهم. ومما يؤثر عن حاتم الطائي قوله لعبد له:
أوقد فإن الليل ليل قرّ
…
والريح يا واقد ريح صرّ
عل يرى نارك من يمرّ
…
إن جلبتَ ضيفًا فأنت حرّ
وكان يحرص على ألا يأكل وحده، مخافة أن يوصم بالبخل بعد موته فيخاطب زوجته قائلًا:
أيا يابنة عبد الله وابنة مالك
…
ويابنة ذي البردين والفرس الورد
إذا ما صنعت الزاد فالتمسي له
…
أكيلًا فإني لست آكله وحدي
1 جورجي زيدان: طبقات الأمم، ص334.
أخًا طارقًا أو جار بيت فإنني
…
أخاف ملامات الأحاديث من بعدي
وإني لعبد الضيف ما دام ثاويًا
…
وما بي إلا تلك من شيمة العبد1
ومن السجايا التي تحلى بها العربي المروءة، وقد تركز المثل الأعلى للأخلاق العربية في هذه السجية التي تغنى بها الشعراء، وهي تتجلى في الشجاعة، وفي كثرة ما يبذل من جهد، وما يظهر من تفانٍ دفاعًا عن القبيلة، وفي سبيل إجارة المظلوم، ونجدة الملهوف، وحماية الجار والعِرْض، والكرم، وقد فسرت بأنها كمال الرجولة، أو بعبارة موجزة، تقتضي المروءة من المرء أن "يغشى الوغى ويعف عن المغنم"2.
وقد هيأت الطبيعة كل المقومات التي تجعل من العربي رجلًا قويًّا، صحيح الجسم شجاعًا، يضطلع بالمهام التي فرضتها عليه ظروف بيئته، بالإضافة إلى ما فطر عليه من الذكاء وصفاء الذهن. فالبدوي العربي يكتسب صحة البدن وقوته من هواء البادية النقي، ومن أشعة الشمس الساطعة على الدوام، ومن الجو الطلق الذي يعيش فيه، ومن حركته الدائمة ومرانه المستمر على احتمال المشاق. ويكتسب الشجاعة من اضطراره الدائم إلى الدفاع عن نفسه وأهله، وما يملك من متاع ضد المغيرين على قبيلته، وضد الحيوانات المفترسة. فالشجاعة والقتال طبع فُطر عليهما العربي من نعومة أظفاره.
وكل ما يحلم به العربي أن ينال الذكر الحسن بين الناس، فيشيد هؤلاء بالفضائل التي يتحلى بها، فما المرء في نظره إلا أن يترك سيرة حسنة، فهو حديث من بعده. على أن الحرية واستقلال الفكر من أنبل المقاصد التي يسعى إليها العربي، وهي مثله الأعلى المنشود، وأشد السجايا اتصالا بنفسه وقلبه، فقد رضعها في المهد، وتشربت بها نفسه في آفاق الصحراء التي لا حد لها. وقد بلغ من تعلقه بحب الحرية أنه كان يكره كل قانون إلا قانون البادية، وكل نظام عدا نظام العشيرة3.
1 الألوسي: 1/ 57-85. وفي مصدر آخر أن قائل هذه الأبيات قيس بن عاصم المنقري.
2 أحمد أمين: فجر الإسلام، ص10، جواد علي: 6/ 326.
3 جواد علي: 1/ 370، 372.