الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياسة والاجتماع، فهي معرض من معارض الأدب والخطابة، إذ تعقد فيها حلقات الأدب والشعر، ويتناشد الشعراء قصائدهم، يحكم فيها أخصائيون يكونون في الغالب من فطاحل شعراء الجاهلية. ففي الروايات أن نابغة بني ذبيان كانت تضرب له قبة من أدم أحمر اللون في سوق عكاظ، يجتمع إليه فيها الشعراء، ويستمع إلى ما ينشدونه من قصائد، فيعطي رأيه فيها. ولعل ما عرف باسم المعلقات هو مما كان يعجب به هذا الشاعر الكبير، وهذا يتم في كل موسم من مواسم السوق. ومعلقات الشعراء الجاهليين كثيرة، وهي من عيون الشعر في الجاهلية ولعل تسميتها جاءت من تشبهها، لجودتها، بالقلائد التي تعلق في نحور الغانيات. ولم يكن أقل من ذلك شأن الخطباء والوعاظ، إذ يحتشد الناس حول أحدهم وتشخص إليه الأبصار، فيطلع عليهم بخطبة كخطبة قس بن ساعدة الإيادي التي يقول فيها: "أيها الناس اسمعوا وعوا، من عاش مات، ومن مات فات
…
إلخ" وهي معروفة1.
وكان إلى جانب سوق عكاظ أسواق أخرى أقل أهمية، مثل "مجنة" و"ذي مجاز"، وهي قريبة من مكة. وفي يثرب وحولها قامت بعض الأسواق مثل سوق بني قينقاع في يثرب نفسها، حيث كان العرب يبتاعون مصنوعات اليهود الذهبية والمعدنية وغيرها، وقد اشتهر بنو قينقاع بالصياغة. كما وجد في يثرب سوق يقيمها النصارى من سكانها تسمى "سوق النبط" والمعتقد أن نبط الشام كانوا ينزلون فيها للاتجار بالحبوب، كما قام خارج يثرب وإلى مسافة غير بعيدة منها سوق بدر، حيث وقعت الموقعة الشهيرة في الإسلام بين الرسول وكفار قريش، وهو موضع توفر فيه الماء.
1 الأفغاني: أسواق العرب، ص277-315.
حماية التجارة في الأسواق:
تعارف العرب على تقاليد يلتزمون بها في أمور تجارتهم، ومواسم حجهم إلى الكعبة. وهي تقضي بتحريم القتال خلال أربعة أشهر في السنة سموها الأشهر الحرم، ثلاثة منها متتابعة هي: ذو القعدة، ذو الحجة، المحرم، وشهر واحد منفرد هو رجب الفرد أو رجب الأصم، وربما كان السبب في تسميته "الأصم" كونه لا تسمع فيه قعقعة السلاح.
وكان من أعظم العار عندهم، أن يخرق أحدهم حرمة هذه الأشهر، فيسفك فيها
دمًا، حتى تنقضي تمامًا، وحتى يغادر الناس المكان الحرام، أي الكعبة وما يجاورها من أماكن محدودة المعالم، والحرب محرمة فيها طوال أيام السنة، فإذا لقي المرء قاتل أبيه ما وسعه التعرض له بسوء فيها. ولذا سمى العرب الحروب التي جرت بين كنانة وقيس عيلان في عكاظ باسم "حروب الفجار" لأنهم اقتتلوا في الأشهر الحرم، وامتدت اشتباكاتهم حتى الأماكن المقدسة.
والسبب الذي حمل العرب على اتباع هذه التقاليد، هو حرصهم على توفير جو من السلام والطمأنينة خلال مواسمهم الدينية التي يشترك الناس والقبائل من أرجاء شبه الجزيرة العربية كافة فيها. وقد حرصوا على جعل أكبر أسواقهم تقام في الأشهر الحرم؛ لتوفير جو السلام والهدوء للتجارة أيضا. فكانت سوق حُباشة وسوق صحار في رجب، وسوق حضرموت في ذي القعدة، وأسواق عكاظ ومجنة وذي مجاز في ذي الحجة1، بحيث لا ينتهي بيعهم وشراؤهم من سوق عكاظ حتى ينصرفوا إلى السوق التي تعقد بعدها، ويستمر تنقلهم على هذا المنوال طوال أيام السنة تقريبًا، كما تقدم معنا في أول هذا الفصل.
كما أن من الأسواق ما كانت تقام في غير الأشهر الحرم، الأمر الذي أوجب أن يكون قدوم الناس إليها بعروضهم التجارية بخفارة، ورجوعهم منها بخفارة؛ خوفًا على هذه العروض من أن تكون نهبًا مقسمًا للصوص وقطاع الطرق. فتجارة العرب كانت أروج ما يكون حيث يستتب الأمن، ويعم الهدوء، وتعم الثقة. وقد تميزت مكة وما يجاورها من مناطق بهذه الميزة لمجاورتها الكعبة، فغنيت وازدهرت من التجارة، وفرضت نفوذها الأدبي على القبائل العربية كافة.
بيد أن رعاية التقاليد الآنفة الذكر ليست بالشيء المطرد على إطلاقه، بل قد يحدث أن بعض القبائل لا تعرف لهذه الحرمات حقًّا، فتسفك الدم ولو في الشهر الحرام وفي البلد الحرام2، أو أن طالب ثأر لا يملك أعصابه حينما يشاهد قاتل أخيه أو أبيه فيقتله، الأمر الذي حمل القوم على التفكير في توفير الحماية لهذه الأسواق. وقد أُطلق على من يقومون
1 الأفغاني: أسواق العرب، ص70.
2 الأفغاني: أسواق العرب، ص73.