الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويربط ابن الكلبي بين هذه القصة وقصة أخرى نسبت إلى جذيمة، كما نسبت إلى عدة ملوك من خلفائه، هي قصة النديمين، إذ أراد مكافأة الرجلين فخيرهما فيما يطلبان فقالا: منادمتك ما بقيت وما بقينا، فيصبحان نديميه في القصة المعروفة، وقد ضرب بهما المثل كما في قول أبي خراش الهذلي:
ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا
…
خليلَا صفاء مالكٌ وعقيل
أو كقول آخر:
وكنا كندماني جذيمة حقبة
…
من الدهر حتى قيل: لن يتصدعا
ثم يستطرد صاحب الأغاني إلى قصة جذيمة مع الزباء التي استدرجته إلى عاصمتها بدعوى الزواج منه، لكنها فتكت به انتقامًا منه لقتله والدها -كما قدمت في بحث المملكة التدمرية- إنما يورد ما لا يقبله الذوق والمنطق التاريخي من تصوير الزباء، سواء كانت ملكة تدمر أو غيرها، بصورة لكعاء ليست بذات خفر1، مما لا يتفق مع أخلاق الملوك. وهكذا نلاحظ أن الأخباريين يتخبطون في روايات يسودها الاضطراب ويسيطر عليها الخيال، ولا نستطيع أن نستنتج منها مادة تاريخية يوثق بصحتها.
1 الأغاني: 16/ 5665، ابن الأثير: الكامل 1/ 198-200.
امرؤ القيس بن عمرو
"288-328م":
غير أن أول ملك من ملوك الحيرة نستطيع الاعتماد على الوثائق التاريخية الثابتة علميا في الاطمئنان إلى حقيقة حكمه هو امرؤ القيس بن عمرو بن عدي. وقد حكم بين 288-328م، واستفاد من فترة الاضطراب التي رافقت تسنم الملك سابور الثاني عرش فارس، وكان صبيا، فوسع سلطانه على القبائل العربية في بادية الشام وشبه الجزيرة، كما يتضح من نقش يسمى "نقش النمارة" عثر عليه في جهات حوران، وهو عبارة عن شاهدة قبر تتحدث عن هذا الملك بالكتابة التالية: "هذا قبر امرئ القيس بن عمرو ملك العرب كلهم، الذي تقلد التاج، وأخضع قبيلتي أسد ونزار، وهزم مزحج، وقاد الظفر إلى أسوار
نجران مدينة شمر، وأخضع معدًّا، واستعمل بنيه على القبائل، وأنابهم عنه لدى الفرس والروم، فلم يبلغ ملك مبلغه إلى اليوم"1.
عاصر امرؤ القيس عدة ملوك من الأسرة الساسانية الجديدة التي تسلمت حكم فارس منذ عام 226م، كان آخرهم سابور الثاني الذي تسنم العرش سنة 309م وهو صبي صغير، فنصب الفرس وصيًّا عليه. وقد ساءت أحوال المملكة في أول عهده، وكثرت الاضطرابات حتى طمع العرب في الأراضي الفارسية، وجاء منهم -زيادة على ما في العراق- عدة قبائل من البحرين منها قبيلة إياد التي أغارت على سواد العراق، وأعملت يد النهب والسلب فيه، وحذت حذوها قبائل تميم وغيرها، واستمرت الاضطرابات زمنًا غير يسير. وما أن بلغ سابور السادسة عشرة من عمره وتسلم زمام الحكم الفعلي للمملكة حتى بدأ ينكل بالعرب، لا سيما إياد وتميم فقتل منهم مقتلة عظيمة، ثم أخذ يشتت شمل القبائل العربية ويلاحقها بالتنكيل ففر بعضها إلى الروم وبعضها الآخر إلى البحرين، فلاحق هؤلاء الآخرين، وفتك بهم فتكا ذريعا، وأصدر أمره بعدم دخول العرب مملكته بدون إذنه تحت طائلة الموت. ومن شدة فتكه بهم لقب بـ "ذي الأكتاف" لأنه كان يخلع أكتاف زعمائهم2.
وقد أشار شاعر إياد إلى ذلك بقوله:
على رغم سابور بن سابور أصبحت
…
قباب إياد حولها الخيل والنعم
لكنه عندما أدرك صعوبة الاستمرار في سياسة العنف والقوة معهم -تلك السياسة التي حدت بجماعات منهم إلى مقاتلته في جانب الروم، وكانت الحرب على أشدها بينه وبين هؤلاء- لم ير بدًّا من مصالحتهم والاستعانة بهم ضد أعدائه، وتوثقت منذئذ عرا التحالف بين المناذرة والفرس ضد الروم. وقد حكم بعد امرئ القيس ابنه عمرو ثم ابنه الآخر:
1 د. جواد علي: 4/ 23.
2 علي ظريف الأعظمي: تاريخ الدول الفارسية في العراق، ص24-25.
أبو حنيفة الدينوري: الأخبار الطوال، ص48-49.
الطبري: 2/ 55-60.