الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وقد وجد في مكة أثرياء كبار نعموا بالحياة الدنيا وغرقوا في الترف، مثل عبد الله بن جدعان، الذي لم يكن يشرب إلا بكأس من الذهب فعرف باسم "حاسي الذهب"، والوليد بن المغيرة المخزومي، وقد اشتهر بنو مخزوم بالثروة والمال، وأبو أحيحة الذي أورث بناته أموالًا طائلة، فأصبحن من أغنى أغنياء مكة، وعبد المطلب بن هاشم الذي بلغ ثمن الحلل التي كُفِّن بها ألف مثقال من الذهب، وطرح على جثمانه المسك حتى غمره1.
ومن التجارة التي راجت في مكة تجارة الرقيق، فأصبحت أكبر سوق لها. كما اصطبغت مكة بصبغة دولية؛ لكثرة ما كان يرتادها من غرباء جاءوا من أمم ومن أصقاع مختلفة، وأصبحت تعج بهم عجًّا، بينهم فرس وروم وأحباش وزنوج، كما كان منهم النصارى واليهود، يشكلون جاليات جاء أفرادها للتجارة أو للعمل اليدوي في البناء والزراعة والصناعة، أو جاء بعضهم هربا من الاضطهادات الدينية في بلادهم الأصلية، مثل المسيحيين واليهود، وهذا ما يفسر لنا ما دخل لغة قريش من ألفاظ رومية أو فارسية أو حبشية أوغيرها.
1 أحمد إبراهيم الشريف، المصدر نفسه، ص213.
Dermenghem: Ibid. ، P، 32.
أسواق العرب
مدخل
…
أسواق العرب:
كان للعرب أسواق تجارية عامة، يقصدها الناس من شتى أنحاء شبه الجزيرة للبيع والشراء. وقد اختيرت لها الأماكن المناسبة، من حيث الاتساع والقرب من المدن المتحضرة وتوفر الماء. وهي تكون عادة محاذية للسواحل، حيث المنخفضات التي تتجمع فيها السيول الهابطة من المرتفعات المجاورة، أو مجاورة للوديان التي تتوفر فيها الينابيع، أو متمركزة في واحات هي في الوقت نفسه محطات للتزود بالغذاء والماء، ومراكز تجارية ترتادها القوافل للبيع والشراء والراحة. ولم يكن عرب شبه الجزيرة فقط هم الذين يقصدون هذه الأسواق، بل كان يأتيها تجار من خارج البلاد. فقد كان الروم مثلا يتوغلون إلى مسافات بعيدة في أراضي العرب الشاسعة للبيع والشراء1.
1 جواد علي: 4/ 413.
من هذه الأسواق ما هو دائم، ومنها ما هو موسمي موقت، يعقد في شهر معين من السنة، ومنها ما هو عام يرتاده العرب من شتى أنحاء شبه الجزيرة، أو ما هو محلي يتم فيه التبادل بين التجار والبدو المجاورين. ومع أن هذه الأسواق أقيمت لغاية أساسية هي التجارة وتبادل السلع المختلفة من طعام وشراب وثياب وسلاح وخيل وإبل، غير أنها لم تكن تقتصر على هذا الأمر، بل كان الشعراء والخطباء والمبشرون الدينيون من مسيحيين وغيرهم، يقصدونها للمباراة في الشعر والخطابة وبث الدعوات الدينية. ومما يروى أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يخرج إلى هذه الأسواق، ويعرض دينه على القبائل العربية التي ترتادها لهدايتهم. وربما جاء أحدهم ليبحث عن غريم، أو عن عبد هرب من داره، أو عن دابة سرقت له1، أو ليسعى في فداء أسير من ذويه.
وفي هذه الأسواق، لا سيما في سوق عكاظ، كان العقلاء ينتهزون فرصة التقاء الزعماء من شتى القبائل؛ ليوفقوا بين المتخاصمين منهم والمتنازعين، وليصلحوا بين قبيلة وأخرى تقتتلان، وتحل المشاكل الموجبة للنزاع من دفع ديات، أو وفاء بالتزامات، أو دفع ديون. كما تعقد فيها عهود الجوار والمحالفات، وتعلن فيها القرارات التي تتخذها القبائل لخلع السفهاء من أفرادها.
كانت الأسواق منتشرة في جميع أنحاء شبه جزيرة العرب، وموزعة على أيام السنة كلها بوجه التقريب. يقول القلقشندي2: "كان للعرب في الجاهلية أسواق يقيمونها في شهور السنة، وينتقلون من بعضها إلى بعض، ويحضرها سائر قبائل العرب من بَعُدَ منهم ومن قَرُبَ، فكانوا ينزلون دومة الجندل أول يوم من ربيع الأول فيقيمون أسواقها بالبيع والشراء، والأخذ والعطاء، فيعشرهم رؤساء آل بدر في دومة الجندل، وربما غلب على السوق بنو كلب فيعشرهم بعض رؤساء كلب، فتقوم سوقهم إلى آخر الشهر. ثم ينتقلون إلى سوق هجر، من البحرين، في شهر ربيع الآخر فتقوم أسواقهم بها. وكان يعشرهم المنذر بن ساوى أحد بني عبد الله بن دارم، ثم يرتحلون نحو عمان بالبحرين، فتقوم سوقهم بها، ثم يرتحلون فينزلون عدن من اليمن أيضًا، فيشترون منه اللطائم وأنواع
1 الدكتور عمر فروخ: العرب في حضارتهم وثقافتهم، ص86.
2 القلقشندي: نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب، ص464.
الطيب، ثم يرتحلون فينزلون الرابية من حضرموت، ومنهم من يجوزها إلى صنعاء، ثم تقوم أسواقهم بها، ويجلبون منها الخرز والأدم والبرود، وكانت تجلب إليها من معافر، ثم يرتحلون إلى عكاظ في الأشهر الحرم، فتقوم أسواقهم ويتناشدون الأشعار ويتحاجون، ومن له أسير سعى في فدائه، ومن له حكومة ارتفع إلى الذي يقوم بأمر الحكومة، وكان الذي يقوم بأمر الحكومة فيها من بني تميم، وكان آخر من قام بها منهم الأقرع بن حابس التميمي، ثم يقيمون بعرفة ويقضون مناسك الحج، ويرجعون إلى أوطانهم".
إن أشهر أسواق شرقي شبه الجزيرة العربية: سوق "المشقَّر" بالبحرين قرب هجر، وكان يرتادها ساكنو الجهات الشرقية والغربية من شبه الجزيرة، كما يرتادها تجار الهند وفارس. ويرتاد هؤلاء سوقًا أخرى في البحرين هي سوق هجر. وفي عمان وجد سوقان إحداهما سوق "دبا" وكانت مقصد الصينيين والهنود إلى جانب من يقصدها من سكان شبه الجزيرة، والأخرى سوق "صحار".
واشتهر في جنوبي شبه الجزيرة العربية: سوق "الشحر" في المهرة، وسوق "عدن" وسوق "الرابية" بحضرموت وسوق "صنعاء" في اليمن. وفي شمالي شبه الجزيرة سوق "دومة الجندل" وتقع على منتصف الخط الواصل بين العقبة والبصرة تقريبًا، وبالقرب من جبلي طيء "أجأ وسلمى"، وكان يتنافس على رئاستها كل من أكيدر العبادي من السكون، وقنافة من بني كلب أيهما كانت له الغلبة عشَّر السوق. وأكيدر هو صاحب حصن دومة الجندل الشهير، وقد دهمه خالد بن الوليد بمناسبة وقعة تبوك، وتغلب عليه فأسلم بعدئذٍ. كان البيع يجري في هذه السوق بطريقة "بيع الحصاة" ولم يكن أحد ممن يرتاد السوق يشتري أو يبيع حتى يبيع "الأكيدر"، ملك السوق، كل شيء يريد بيعه، ثم يشرع في استيفاء المكس على بيوع رواد السوق1.
أما غربي شبه الجزيرة، ولا سيما الحجاز، فقد حفل بكثير من الأسواق، وكان السبب في كثرتها أولًا: وجود الكعبة كمركز ديني يستقطب الوافدين إليه لإقامة الشعائر الدينية، وبالمناسبة للقيام بالأعمال التجارية في أسواق أقيمت لمد الحجاج بما يحتاجون
1 الأفغاني: أسواق العرب، ص232-238.