الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بيئة مثل هذه يسودها الطيش والرعونة لا بد أن يكون الرئيس على قسط وافر من الحلم والحكمة؛ ليستطيع السيطرة على جهالة الجهال.
وأخيرًا لا بد أن يكون الرئيس على قسط كبير من العدل؛ لكي يكون محترمًا من الجميع، باعتبار أنه -في كثير من الأحيان- يكون الحَكَم الذي يرجع القوم إليه في المنازعات1 التي تشجر بين أفراد القبيلة، ولكي يكون حكمه نافذًا على الجميع.
1 الخلافات التي قد تنشب بين أعضاء القبيلة الواحدة على ملكية شيء ما تسوى في المجالس اليومية. أما حين ينشب الخلاف بين أفراد ينتسبون إلى قبائل مختلفة، فيلجأ المختصمون إلى رجل مشهود له بالتعقل والحكمة، أو إلى امرأة تتمتع بهاتين الميزتين، وغالبًا ما يكون الحكم كاهنا أو عرافا، ولكن الحكم لا يكون ملزما للمختصمين إلا إذا ارتضاه الخصمان، أو حتمه تفوق أحدهما على الآخر بقوة بأسه. "بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، 1/ 19".
شكل الحكم:
أما كيفية ممارسة الشيخ لسلطاته، فيغلب عليها النهج الديمقراطي، ذلك أن الفرد في القبيلة له مكانة مرموقة، وليس شيئا تافها عديم الأهمية. بل قد يؤدي قتل فرد من أفرادها على يد فرد من قبيلة أخرى إلى حرب بين القبيلتين أخذًا بثأره؛ لأن أهمية القبيلة تكون بقوة أفرادها وكثرة عددهم.
ولذلك وجب على الرئيس ألا يمارس على أفراد قبيلته سلطة دكتاتورية مستبدة طاغية، بل وجب عليه أن يسود قبيلته بالتشاور مع رؤساء وزعماء بطونها وذوي الرأي والمشورة من أبنائها، بحيث يضمهم مجلس يسمى "مجلس القبيلة" الذي ينبغي عليه أن يجتمع كلما دعت الضرورة إلى اجتماعه. ومع ذلك يمكن القول: إنه كان للرئيس نفوذ كبير على قبيلته، إذ كانت كلمته مطاعة من الجميع، يتبعون رأيه فيوجههم أنَّى شاء، يقيمون بإقامته ويظعنون بظعنه، وإذا دعاهم للحرب لا يتأخرون.
وللرئيس حقوق أدبية: معنوية ومادية على أفراد قبيلته مثلما عليه واجبات نحوهم. فلقاء ما يبذل من جهود لتأمين مصالحهم وتدبير معاشهم ورفع مكانتهم، وجب عليهم -كما يقول ابن خلدون- أن يوقروه ويجلوه ويحترموه1، وأن يرضوا بما يخص به نفسه من
1 مقدمة ابن خلدون ص127.
حصص في الغنائم التي تحصل عليها القبيلة في الغزوات والحروب، وأن تكون له منها حصة الأسد: يأخذ النشيطة "ما تصيبه في طريقها إلى الغزو" والصفية "ما يصطفيه لنفسه من الغنيمة" والمرباع "ربعها" والفضول "ما يفضل منها بعد قسمتها فيهم ولا يمكن تقسيمه، كالبعير الواحد أو الشاة الواحدة". وهو يعتبر ذلك كله حقًّا من حقوق رئاسته وسيادته للقبيلة، يعده لما يطرأ من النوائب، وما يتحمل من التبعات المالية1، فيفي بما يوجب عليه الكرم والجود من موجبات هي في أخلاق البادية فرض واجب على الزعيم والرئيس. وقد جمع أحد الشعراء ما يصيب رئيس القبيلة من الغنيمة في بيت واحد من الشعر:
لك المرباع منها والصفايا
…
وحكمك والنشيطة والفضول
وعلى الرغم من أن تولي الرئاسة يكون قائما على مبدأ الانتخاب، لكنه ليس انتخابا بالمعنى الذي نفهمه اليوم، بل هو أشبه بالاختيار التلقائي، إذ يفرض الرئيس نفسه على قبيلته بما وهب من صفات ذكرناها. ومع أن الحكم في القبيلة وراثي، ينتقل في الغالب إلى أكبر أبناء الرئيس، فإنه كثيرًا ما يتعين على الابن أن يحقق هذه الزعامة لنفسه بأن يقيم الدليل2 -مستقلا- على شدة بأسه وقوة مراسه، ولا يتنكر في سلوكه للصفات التي يجب أن تتوفر لرئيس القبيلة حتى يسودها ويدير شئونها، كما يفصح عن ذلك عامر بن الطفيل أحد زعماء القبائل في الجاهلية3:
وإني وإن كنت ابن سيد عامر
…
وفي السر منها والصريح المهذب
فما سودتني عامر عن وارثة
…
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب
ولكنني أحمي حماها وأتقي
…
أذاها وأرمي من رماها بمقنب4
1 الشيخ محمد الخضري: محاضرات تاريخ الأمم الإسلامية، 1/ 38.
2 بروكلمان: تاريخ الشعوب الإسلامية، 2/ 18؛ دائرة المعارف الإسلامية، مادة "بدو".
3 المسعودي: مروج الذهب، 2/ 29.
4 أو كما يقول شاعر آخر:
لسنا وإن كرمت أوائلنا
…
يومًا على الأحساب نتكل
نبني كما كانت أوائلنا
…
تبني ونفعل مثلما فعلوا