الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حكم تكرار «إلّا» للتوكيد]
قال ابن مالك: (فصل: تكرّر «إلّا» بعد المستثنى بها، توكيدا، فيبدل ما يليها ممّا يليه إن كان مغنيا عنه وإلّا عطف بالواو).
ــ
قال الشيخ: وإنّما أجاز المصنف أن يعود إلى الجميع لأنّ العامل عنده (1) إنّما هو (إلّا)، لا الأفعال السابقة المسلطة على المستثنى منهم (2). اه.
قال ناظر الجيش: يؤتى بـ (إلّا) بعد المستثنى بها لتوكيد (إلّا) الّتي قبلها، ولغير توكيد، بل لقصد الاستثناء، كما قصد بما قبلها، أمّا التي لغير توكيد فسيأتي الكلام عليها، وأما الّتي للتّوكيد فالمذكور بعدها إمّا أن يكون هو الأوّل في المعنى - أعني المذكور بعد «إلّا» الأولى - أو غيره إن كان هو الأول كان بدلا منه ولا احتياج إلى العطف بل لا يجوز، وذلك كقولك: ما مررت إلّا بأخيك إلّا زيد، تريد: ما مررت إلّا بأخيك زيد، فأكّدت (إلّا) الأولى بالثّانية، داخلة بين البدل والمبدل منه، ومثله أيضا: قام القوم إلّا زيدا إلّا أخاك، إن كان (زيد) هو الأخ. ومنه قول الشاعر (3):
1712 -
ما لك من شيخك إلّا عمله
…
إلّا رسيمه وإلّا رمله (4)
لأنّ الرسيم والرمل ضربان من العدو، وكلاهما بدل من (عمله)، وهذا القسم الذي الثّاني فيه هو الأول، عبّر عنه المصنف بقوله: إن كان مغنيا عنه أي: إن كان ما يلي (إلّا) الثانية مغنيا عمّا يلي (إلّا) الأولى، وهو لا يغني عنه إلّا إن كان بمعناه، فلو قيل في الأمثلة المتقدّمة: ما مررت إلّا بزيد، وقام القوم إلّا أخاك، وما لك من شيخك إلّا رسيمه، وإلّا رمله؛ صحّ (5). قال المصنّف (6): وقد يكون مثل: إلّا رسيمه وإلّا رمله قول الفرزدق: -
(1) أي: العامل في المستثنى.
(2)
ينظر: التذييل والتكميل (3/ 585، 586).
(3)
أي: على سبيل الجواز. رجز لم يعلم قائله.
(4)
الشيخ: - هنا - هو الجمل، والرسيم، والرمل: ضربان من السير.
والشاهد فيه: تكرار (إلا) في (إلا رسيمه)(وإلا رمله) تأكيدا؛ إذ هما بيان لقوله: (إلا عمله) ويغنيان عنه، ينظر: الكتاب (2/ 346)،
والمقرب (1/ 170)، والعيني (3/ 117)، والتصريح (1/ 356).
(5)
ينظر: التذييل والتكميل (3/ 587).
(6)
شرح التسهيل (2/ 296).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
1713 -
ما بالمدينة دار غير واحدة
…
دار الخليفة إلّا دار مروانا (1)
فظاهر كلامه أنّ (غير واحدة) استثناء وإنّ (دار مروان) بدل منه و (إلّا) تأكيد لـ (غير) الواقعة استثناء فهو من باب التّأكيد بالمرادف، وقد عدّوه من أقسام التأكيد اللّفظي، كقولهم: أنت بالخير حقيق، مقتضى هذا التقدير أنّ الدار الواحدة هي دار مروان، فكأنّه قال: ما بالمدينة دار إلّا دار مروان، لما تقدّم أنّ من شرط الحكم بالبدلية صحّة الاستغناء بالثّاني عن الأوّل، وكان الأصل ما بالمدينة دار إلّا واحدة إلّا دار مروان.
وفي قول المصنّف: وقد يكون مثل (إلّا رسيمه وإلّا رمله) قول الفرزدق، كذا وإنشاده البيت المذكور إشعار بأنّ البيت يحتمل وجها آخر وبأنّه قيل في غير ذلك، وقد قال سيبويه بعد إنشاده لحارثة بن بدر (2):
1714 -
يا كعب صبرا على ما كان من حدث
…
يا كعب لم يبق منا غير أجلاد
إلّا بقيّة أنفاس نحشرجها
…
كراحل رائح أو باكر غاد (3)
وحكم على (غير) في البيت الأوّل بأنّها بمنزلة (مثل) كأنّه قال: لم يبق منّا مثل أجساد إلّا بقية أنفاس، وعلى ذلك أنشد بعض النّاس هذا البيت رفعا للفرزدق:
ما بالمدينة دار
…
البيت
ثمّ قال: جعلوا (غير) صفة بمنزلة (مثل)(4) فأشار سيبويه إلى أنّ غير واحدة ليست -
(1) البيت من بحر البسيط وهو للفرزدق في بعض مراجعه، وليس في ديوانه، وهو في كتاب سيبويه (2/ 340، 341)، ومعاني الفراء (1/ 90)، والمقتضب (3/ 425)، والغرة لابن الدهان (2/ 181)، والبحر المحيط (1/ 442)، (3/ 321)، والتذييل والتكميل (3/ 589).
(2)
حارثة بن بدر القداني من فرسان بني تميم، ووجوهها وساداتها، أدرك النبي صلى الله عليه وسلم في صباه وحداثته وليس بمعدود من فحول الشعراء، ولكنه كان يعارض نظراءه في الشعر، ينظر: الأغاني (6/ 4)، (21/ 13، 31).
(3)
البيتان من بحر البسيط، كعب: هو مولى حارثة بن بدر، والأجلاد: جسم الإنسان، نحشرجها:
نرددها في حلوقنا.
والشاهد: في قوله: «غير أجلاد، إلّا بقية أنفاس» ؛ حيث رفعت (غير) وكذا الاسم بعد (إلّا) دون عطف الثاني على الأول، وقد أخرجه سيبويه على أن «غير» ليست استثنائية بل هي صفة، ثم أبدل منها (إلا بقية). ينظر: الكتاب (1/ 339، 340)، والتذييل والتكميل (3/ 588).
(4)
ينظر: الكتاب (1/ 339).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
استثناء على هذا الإنشاد وهو الوجه الّذي قلنا: إنّ في عبارة المصنّف إشعارا باحتماله.
وقال سيبويه - بعد ذلك -: ومن جعلها بمنزلة الاستثناء - يعني (غير) - لم يكن له بدّ من أن ينصب أحدهما (1) كأن يقول: لا يجوز رفعهما جميعا، على أنّ كلّا منهما بدل من المستثنى منه؛ لأنّه لا يبدل إلّا واحد كما يأتي تقريره، وإنما إذا أبدلت واحدا نصبت الآخر، والّذي قاله حقّ؛ لأنّه قصد أنّ «إلّا دار مروان» مقصود - في الأصل - بها معنى الاستثناء، كما يقصد بغير، وليس مقصودا بها التوكيد كما في مثل: ما مررت إلّا بأخيك إلّا زيد، وإنّما قلنا: إنّ مراده ذلك؛ لأن البيت المذكور أتى به في القسم الذي لم يقصد بـ (إلّا) الثانية فيه توكيد، بل قصد فيه الاستثناء، وإذا تقرّر هذا فلا منافاة بين قول المصنّف، وقد يكون مثل «إلا رسيمه وإلّا رمله» وقول الفرزدق:
1715 -
ما بالمدينة دار
…
البيت
وبين قول سيبويه: ومن جعلها بمنزلة الاستثناء لم يكن له بدّ من أن ينصب أحدهما (2)؛ لأنّ المصنف وإن جعل غير واحدة استثناء لم يجعل (إلّا) في «إلا دار مروان» استثناء بل توكيدا لـ (غير) باعتبار تأولها بـ (إلّا) كما تقدّم، وما بعدها بدل من المستثنى لا من المستثنى منه (3)، وأمّا سيبويه فلم يجعل (إلّا) في «إلا دار مروان» تأكيدا، بل أخذها على معنى الاستثناء وحيث أبدل إنما يبدل من المستثنى منه كما تقدّم. وهذان اعتباران صحيحان، وإن كان المذكور بعد (إلّا) التي للتوكيد غير الأول في المعنى كان معطوفا نحو: ما قام إلّا زيد وإلّا عمرو، وقام القوم إلّا زيدا وإلّا جعفرا، وإليه الإشارة بقوله: وإلّا عطف بالواو أي: وإلّا يكن الثّاني مغنيا عن الأول يعطف عليه، وتقييد العطف بالواو هنا يشعر بأنّ غيره لا يجوز والظاهر أنّه كذلك، وإن قيل بجواز وقوع غيرها من الحروف العاطفة ففيه نظر، وأنشد المصنف شاهدا على التكرار مع العطف (4):
1716 -
وما الدّهر إلّا ليلة ونهارها
…
وإلّا طلوع الشمس ثمّ غيارها (5)
-
(1) المرجع السابق (1/ 340).
(2)
ينظر: الكتاب (1/ 340).
(3)
ينظر: شرح الجمل الكبير لابن عصفور (2/ 257).
(4)
شرح المصنف (2/ 296).
(5)
قائله أبو ذؤيب الهذلي، والبيت من الطويل. والشاهد: في قوله: «وإلّا طلوع الشمس» ؛ حيث كررت (إلا) توكيدا، وعطف بالواو وعلى ما قبله لأنه مباين للأول، والبيت في ديوان أبي ذؤيب (ص 8)، ديوان الهذليين (1/ 21)، ومجالس ثغلب (ص 583)، وشرح المفصل (2/ 41)، والعيني (3/ 115).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
وجعل الشيخ من هذا الضرب (وإلّا رمله) من البيت المتقدم قال: لأنّ قوله (وإلّا رمله) لا يغني عن قوله: (عمله)؛ لأنّ هذا من البدل [3/ 45] التّفصيليّ الّذي يجب في ثانيه الواو (1)، نحو قوله:
1717 -
وكنت كذي رجلين رجل صحيحة
…
ورجل رمى فيها الزمان فشلّت (2)
وهو بدل شيء من شيء إلا أنّه فصل، وأشار سيبويه إلى أنّه يجوز ترك العطف في مثل هذا، وإن كان الثّاني غير الأوّل، قال - بعد أن مثّل بـ (ما أتاني إلّا زيدا إلّا أبو عبد الله) -: على أنّ أبا عبد الله هو زيد، وقد يكون غير زيد على الغلط والنّسيان، كما يجوز أن يقول: رأيت زيدا عمرا؛ لأنّه إنّما أراد عمرا فنسي فتدارك (3). انتهى كلام سيبويه.
وهذا التأويل الّذي يذكره رجعت المسألة إلى القسم الأول وهو ما كان الثاني فيه هو الأول لكنّه على جهة الغلط، وإلى هذا الذي أشار إليه سيبويه جنح ابن عصفور في قول الشاعر:
1718 -
أمّا قريش فلن تلقاهم أبدا
…
إلّا وهم خير من يحفى وينتعل
إلّا وهم جبل الله الذي قصرت
…
عنه الجبال فما ساواهم جبل (4)
فجعل (إلّا) الثانية مع الجملة التي بعدها بدلا من (إلّا) الأولى، والجملة الّتي دخلت عليها وإن لم يتّحد معنى الجملتين على جهة الإضراب كأنه أضرب عن الأولى -
(1) ينظر: التذييل والتكميل (3/ 587، 588).
(2)
البيت من الطويل، وهو لكثير عزة، شاعر أموي مشهور، أجاد فنّ الغزل، واختلف في معناه فقيل:
تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها حتى لا يرحل عنها وقيل: لما خانت عزة العهد فزلت عنه وثبت هو عليه صار كذي رجلين رجل صحيحة هو ثباته على العهد، ورجل مريضة وهو زللها عنه، وقيل:
معناه أنه بين خوف ورجاء وقرب وثناء.
والشاهد في قوله: «رجل صحيحة ورجل رمى فيها الزمان» ؛ حيث إنه من البدل التفصيلي من قوله:
(رجلين) لذا عطف الثاني منها وهو (رجل رمى فيها الزمان) على الأول، وهو (رجل صحيحة) ينظر:
ديوان كثير عزة (69)، والكتاب (1/ 433)، والمقتضب (4/ 290)، وشرح المفصل (3/ 88).
(3)
ينظر: الكتاب (2/ 341).
(4)
البيتان من البسيط وهما في ديوان القطامي (ص 29)، وجمهرة القرشي (ص 153)، والتذييل والتكميل (3/ 590).