الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وقوع الحال مصدرا وأحكام ذلك]
قال ابن مالك: (فصل: وإن وقع مصدر موقع الحال فهو حال، لا معمول حال محذوف خلافا للمبرد والأخفش، ولا يطّرد فيما هو نوع للعامل نحو: أتيته سرعة خلافا للمبرّد، بل يقتصر فيه وفي غيره على السّماع، إلّا في نحو: أنت الرّجل علما، وهو زهير شعرا، وأمّا علما فعالم، وترفع تميم المصدر التّالي «أمّا» في التنكير جوازا مرجوحا، وفي التّعريف وجوبا، وللحجازيّين في المعرّف رفع ونصب، وهو في النصب مفعول له عند سيبويه، وهو والمنكّر مفعول مطلق عند الأخفش).
ــ
الشرط، ومثّلوه بقولهم:«عبد الله المحسن أفضل منه المسيء» ولم يجوزوا «جاء زيد الراكب» ؛ لأنه ليس فيه معنى الشرط وقد تأول البصريون مثل ذلك إن ورد على أنّه منصوب بـ «كان» أي: إذا كان المحسن أفضل منه إذا كان المسيء (1).
وقد نصّ سيبويه على امتناع تعريف الحال فقال: إذا كان الاسم حالا يكون فيه الأمر لم تدخله الألف واللام ولم يضف لو قلت: «ضربته القائم» تريد: قائما؛ كان قبيحا، ولو قلت:«ضربتهم قائميهم» تريد قائمين؛ كان قبيحا خبيثا (2).
قال ناظر الجيش: قد تقدّم التنبيه على أنّ الحال خبر في المعنى، وأن صاحبه مخبر عنه، فحق الحال أن يدلّ على نفس ما يدلّ عليه صاحبه، كخبر المبتدأ بالنسبة إلى المبتدأ، وهذا يقتضي أن لا يكون المصدر حالا لئلّا يلزم الإخبار بمعنى عن جثّة، فإن ورد عن العرب شيء منه حفظ ولم يقس عليه، كما لا يقاس على وقوع المصدر نعتا (3)، فمن ورود المصدر حالا قوله تعالى: ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً (4)، والَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً (5)، وادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً (6)، وإِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (7) وقول العرب: «قتلته صبرا، ولقيته فجاءة، ومفاجأة، وكفاحا، ومكافحة، وكلمته مشافهة، وأتيته ركضا، -
(1) ينظر: مذهبي الكوفيين والبصريين في الارتشاف (2/ 337)، والتصريح (1/ 374).
(2)
ينظر: الكتاب (1/ 337).
(3)
ينظر: شرح المصنف (2/ 328).
(4)
سورة البقرة: 260.
(5)
سورة البقرة: 274.
(6)
سورة الأعراف: 56.
(7)
سورة نوح: 8.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
ومشيا وعدوا، ولقيته عيانا، وأخذت ذلك عنه سمعا، وسماعا»، وأنشد سيبويه:
1775 -
فلأيا بلأي ما حملنا وليدنا
…
على ظهر محبوك ظماء مفاصله (1)
أي: حملنا وليدنا لأيا بلأي، أي: مبطئين. قال سيبويه: كأنه يقول: جهدا بعد جهد، وأنشد أيضا:
1776 -
ومنهل وردته التقاطا (2)
أي: فجأة، فهذه المصادر في عدم القياس عليها بمنزلة الواردة نعوتا كرجل رضا وعدل وصوم وزور، إلّا أنّ جعل المصدر حالا أكثر من جعله نعتا (3).
وقد اختلف في نصب الألفاظ المذكورة وهي المصادر الواقعة موقع الأحوال:
فقيل: إمّا مفاعيل مطلقة، وأنّ قبل كل واحد منها فعلا مقدّرا هو الحال، وهو رأي الأخفش (4) والمبرد (5). -
(1) البيت من الطويل، وقائله زهير بن أبي سلمى في وصف فرسه وينظر: في ديوانه (ص 133)، وسيبويه (1/ 371)، والتذييل (3/ 722)
واللأي: البطء، والمحبوك: الشديد الخلق، والظماء:
القليلة اللحم. والشاهد فيه: نصب «لأيا» على المصدر الموضوع موضع الحال.
(2)
هذا بيت من الرجز، لم يعرف قائله. وينظر: في سيبويه (1/ 371)، وشرح شواهده للأعلم (1/ 186). والمنهل: المورد. والمعنى - كما قال الأعلم -: وردته ملتقطا له - أي: مفاجئا - لم أقصد قصده لأنه في فلاة مجهولة. والشاهد: نصب «التقاطا» على المصدر الواقع موقع الحال.
(3)
ينظر: شرح المصنف (2/ 328)، والرضي على الكافية (1/ 210).
(4)
ينظر: مذهبه في السابق والارتشاف (2/ 342). وسيأتي مذهب الكوفيين في هذه المسألة.
(5)
نسب ذلك إلى المبرد بعض العلماء منهم ابن مالك في شرحه (2/ 328) والرضي في شرح الكافية (1/ 210)، وأبو حيان في الارتشاف (2/ 342)، وكلام المبرد في المقتضب يدل أنه يعرب المصادر المذكورة أحوالا على تأويلها بوصف، ولكن قد يأتي في ثنايا كلامه ما يفهم منه أنه يعرب المصدر مفعولا مطلقا لفعل محذوف.
ومن كلامه في ذلك: «ومن المصادر ما يقع في موضع الحال فيسدّ مسدّه فيكون حالا؛ لأنه قد ناب عن اسم الفاعل، وأغنى غناءه وذلك قولهم: قتلته صبرا، إنّما تأويله: صابرا، أو مصبرا، وكذلك جئته مشيا؛ لأن المعنى: جئته ماشيا، فالتقدير: أمشي مشيا؛ لأنّ المجيء على حالات، والمصدر قد دلّ على فعله من تلك الحال. ينظر: المقتضب (3/ 234) مع تعليق المحقق عليه (ص 268) من الجزء نفسه.
وقال في (4/ 312): هذا باب ما يكون من المصادر حالا لموافقته الحال، وذلك قولك: جاء زيد مشيا، إنما معناه: ماشيا؛ لأنّ تقديره: جاء زيد يمشي مشيا، وكذلك جاء زيد عدوا وركضا، وقتلته صبرا
…
إلخ.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال المصنف: وليس بصحيح؛ لأنّه إن كان الدليل على الفعل المضمر لفظ المصدر المنصوب فينبغي أن يجيزوا ذلك في كلّ مصدر له فعل، ولا يقتصر على السماع، ولا يمكن أن يفسره الفعل الأول؛ لأنّ القتل لا يدل على الصبر، ولا اللقاء على الفجاءة، ولا الإتيان على الركض (1)؛ لأنها أعم مما ذكر بعدها، وقد تقدّم أنّ منهم من قدّر العامل اسما في مثل «أرسلها العراك» وتقدم ما يشعر بأنّ ذلك يجري في كلّ مصدر، فلا يبعد هنا أن يقدّر الحال اسما لا فعلا فيكون التقدير الأول: أتيته أركض ركضا، والتقدير الثاني: أتيته راكضا ركضا، كما تقدّم في «أرسلها العراك» ؛ لأنّه مصدر مثله.
وقيل: إنّ الأصل في ذلك: أتيته ذا ركض، وقتلته ذا صبر، ثم حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه (2)، واختاره الصفّار في شرح الكتاب ونقل الشيخ عن ابن هشام عن بعضهم: تقدير مضاف إلّا أنّه جعله من لفظ الفعل، التقدير: أتيته إتيان ركض، ولقيته لقاء فجاءة، وأنّه قضى بهذا التقدير أيضا في «أرسلها العراك» أي: إرسال العراك، وفي «طلبته جهدك» أي: طلب جهدك، وفي «رجع عوده
…
» أي: رجوع عوده، وفي «مررت به وحده» أي:
مرور اتحاد له، وفي «جاؤوا الجماء الغفير» أي: مجيء الجماء الغفير، وفي «ادخلوا الأول فالأول» أي:
دخول الأول فالأول، وفي «كلمته فاه إلى فيّ» أي: كلام فيه إلى فيّ.
قال: فتكون هذه المعارف منتصبة انتصاب المصادر فتكون معرفة على الواجب، وهذا تقدير حسن. انتهى (3).
ومذهب سيبويه وعليه الأكثرون: أنّ المصادر أنفسها في موضع الحال، وهي -
(1) إلى هنا ينتهي كلام المصنف وينظر: في شرحه (2/ 328) المطبوع، وقال الرضي (1/ 210):
ذهب الأخفش والمبرد إلى أن انتصاب مثل هذه المصادر على المصدرية لا الحالية، والعامل محذوف، أي: أتيته أركض ركضا
…
ولو كان كما قالا لجاز تعريفهما. اه.
وقد قال المبرد نفسه في المقتضب (3/ 268): واعلم أنّ من المصادر مصادر تقع في موضع الحال، وتغني غناءه، فلا يجوز أن تكون معرفة لأن الحال لا تكون معرفة، وذلك قولك: جئتك مشيا، وقد أدى عن معنى قولك: جئتك ماشيا. اه.
(2)
ينظر: الارتشاف (2/ 343)، والهمع (1/ 238).
(3)
ينظر: كلام أبي حيان في التذييل (3/ 723)، والارتشاف (2/ 343).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
منصوبة بالعوامل المذكورة قبلها (1).
قالوا: وتقدير «أتيته ركضا» على مذهب سيبويه: أتيته راكضا، وكذا أخواته (2).
ولقائل أن يقول: ينبغي أن يقال في المصدر الواقع حالا ما قيل في الواقع نعتا، من أنّه إن وجد قصد المبالغة فلا تقدير، ولا تأويل يجعل المصدر نفس العين مبالغة، فيكون «أتيته ركضا» على بابه، جعل المتكلم نفسه ركضا، وإن لم تقصد المبالغة جاء القولان، وهما إمّا التأويل أو الحذف، لكنّهم ذكروا في الواقع نعتا أنّ التأويل باسم الفاعل قول الكوفيين، وأنّ الحذف قول البصريين (3).
ويظهر من كلامهم هنا ترجيح التأويل على غيره، على أنّ الصفّار قد اختار الحذف - كما تقدّم - وحمل عليه كلام سيبويه بتأويل، وقال: فإن قلت: إذا كان حذف المضاف فهلّا اطّرد وكثر قلت: إنّما يطرد ذلك إذا كان المحذوف يلفظ به نحو: وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ (4) وأمّا إذا كان المحذوف لا يستعمل أصلا فلا ينبغي أن يطّرد.
وقد نقل الشيخ أن مذهب الكوفيين في «أتيته ركضا» ونحوه أنّ المصادر منصوبة بالأفعال السابقة على أنّها مفاعيل مطلقة (5)، ولا حال لا لفظا ولا تقديرا، فكأنه قيل: ركضت إليه ركضا، فيؤولون «أتيت» بركضت. وكذا يقدرون جميع ذلك مذهبا من جملة المذاهب المذكورة في هذه الصور.
وهذا لا ينبغي أن يعدّ قولا في المسألة إذ هو خلاف المفروض؛ لأنّ الكلام إنّما هو [ما](6) معه [3/ 65] فهم الحال، وهذا القول يخرج المسألة من هذا الباب - أعني باب الحال - ويلحقها بباب المصدر.
وأشار المصنف بقوله: ولا يطرد فيما هو نوع للعامل إلى خلاف ما يراه المبرد (7) من -
(1) ينظر: الكتاب (1/ 370).
(2)
هكذا قال السيرافي ينظر: بهامش الكتاب (1/ 186) بولاق.
(3)
ينظر: الارتشاف (2/ 587 - 588).
(4)
سورة يوسف: 82.
(5)
ينظر: التذييل (3/ 722).
(6)
لفظة «ما» زيادة لحاجة السياق، ليست في المخطوط.
(7)
ينظر: المقتضب (3/ 234).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
الاطراد فيما أشار إليه، ونقل الشيخ الإجماع على خلاف قول المبرد (1)، وقال سيبويه: لا يحسن: «أتانا سرعة» ، ولا:«أتانا رجلة» ، كما أنّه ليس كل مصدر يحسن في باب «حمدا وسقيا» (2).
وقال المصنف: بل يقتصر فيه - أي: فيما هو نوع للعامل وفي غيره - على السماع، ثم استثني من المصدر ثلاثة أنواع يجوز وقوعها حالا قياسا مطردا، ولا يقتصر فيها على السماع، وأتى بها في صورة المثال (3):
النوع الأول: قولهم: «أنت الرجل علما وكذا أدبا ونبلا» أي: الكامل في حال علم وحال أدب وحال نبل.
ومذهب ثعلب في «أنت الرجل علما» ونحوه أنّ المصدر فيه ليس حالا، وإنّما هو مصدر مؤكد على تأوّل الرجل باسم فاعل من معنى المصدر المذكور بعده، فتقدير ذلك عنده: أنت العالم علما، والمتأدب أدبا، والنبيل نبلا (4).
قال الشيخ: ويحتمل عندي أن يكون منصوبا على التمييز، كأنه قال: أنت الكامل أدبا؛ لأنّ الرجل يراد به الكامل، وأصله: أنت الكامل أدبه، ثم حوّل (5).
النوع الثاني: قولهم: «هو زهير شعرا، وحاتم جودا، والأحنف حلما، ويوسف حسنا» أي: مثل زهير في حال شعر، ومثل حاتم في حال جود، وكذا بقية الأمثلة، ومن هذا القبيل قول الشاعر:
1777 -
تخبّرنا بأنّك أحوذيّ
…
وأنت البلسكاء بنا لصوقا (6)
-
(1) ينظر: التذييل (3/ 723).
(2)
ينظر: الكتاب (1/ 371).
(3)
ينظر: شرح المصنف (2/ 328 - 330).
(4)
ينظر: السابق، والتذييل (3/ 725)، والارتشاف (2/ 343).
(5)
أي: حول الكمال إلى ضمير المبتدأ الذي يحمله الرجل. وينظر: التذييل (3/ 725)، والارتشاف (2/ 343).
(6)
البيت من الوافر وينظر في: شرح المصنف (2/ 329)، والتذييل (3/ 725) والأحوذي: الحاذق الماهر. وذكر في اللسان (بلسك) معنى هذا البيت ومناسبته فقال: البلسكاء: نبت إذا لصق بالثوب عسر زواله عنه، قال أبو سعيد: سمعت أعرابيّا يقول بحضرة أبي العميثل: يسمى هذا النبت الذي يلزق بالثياب فلا يكاد يتخلّص بتهامة البلسكاء، فكتبه أبو العميثل وجعله بيتا من شعر ليحفظه. وذكر البيت ثم قال: جعله على معنى النبات.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
أي: مثل البلسكاء في حال لصوق.
قال الشيخ: ويحتمل أن يكون هذا كله منصوبا على التمييز؛ لأنه على تقدير «مثل» محذوفة لفظا، مرادة معنى، والتمييز يأتي بعد «مثل» نحو قولهم:«على التمرة مثلها زبدا» ونصبه على التمييز أظهر من نصبه على الحال، وقد نصّوا على أنّه تمييز في قولك:«زيد القمر حسنا» و «ثوبك السّلق خضرة» . انتهى (1).
وما ذكره الشيخ من أنّه تمييز ظاهر جدّا، لا ينبغي العدول عنه، والتمييز فيه أظهر من التمييز في النوع الأول.
النوع الثالث: قولهم: «أمّا علما فعالم» والأصل في هذا أنّ رجلا وصف عنده شخص بعلم وغيره، فقال الرجل للواصف:«أمّا علما فعالم» يريد مهما يذكر إنسان في حال علم فالذي وصفت عالم، كأنه منكر ما وصف به من غير العلم، فصاحب الحال على هذا التقدير المرفوع بفعل الشرط المحذوف، وفعل الشرط المحذوف هو ناصب الحال، ويجوز أن يكون ناصبه ما بعد الفاء، وصاحبه ما فيه من ضمير، والحال على هذا مؤكدة، والتقدير: مهما يكن من شيء فالمذكور عالم في حال علم (2).
وقد حمل قول سيبويه - بعد أن مثّل بقوله: «أمّا سمنا فسمين، وأمّا علما فعالم، وأمّا نبلا فنبيل» -: «وعمل فيه ما قبله وما بعده» (3) على أنه يجوز أن يكون العامل في الحال فعل الشرط المقدّر قبله، وأن يكون الناصب ما بعد الفاء، وهو «فعالم» مثلا كما تقدّم تقرير الوجهين، وإنّما يجوز الوجهان إذا كان ما بعد الفاء يعمل ما بعده فيما قبله، كما مثّل به، فلو كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله تعيّن نصب ما ولي «أمّا» بفعل الشرط المقدر، نحو
قولك: «أمّا علما فلا علم له، وأما علما فإنّ له علما، وأمّا علما فهو ذو علم» (4).
ونصب هذا المصدر الواقع بعد «أمّا» إذا كان منكرا ملتزم عند الحجازيين، فإن كان معرّفا، نحو:«أمّا العلم فعالم» أجازوا رفعه ونصبه، وإليه أشار المصنف -
(1) ينظر: التذييل (3/ 725، 726)، والارتشاف (2/ 344).
(2)
ينظر: شرح المصنف (2/ 329).
(3)
ينظر: الكتاب (1/ 384).
(4)
ينظر: شرح المصنف (2/ 329)، والتذييل (3/ 726)، والارتشاف (2/ 344).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
بقوله: وللحجازيين في المعرّف رفع ونصب.
قال الشيخ: ويدل كلام سيبويه على أنّ الرفع عندهم هو الأكثر؛ لأنه بداية (1).
وأما بنو تميم فيوجبون رفع المصدر المذكور إذا كان معرفة، ويجيزون رفعه ونصبه إذا كان نكرة، والنصب عندهم أكثر، وإلى ذلك أشار المصنف بقوله: وترفع تميم المصدر التالي «أمّا» في التنكير جوازا مرجوحا، وفي التعريف وجوبا.
قال سيبويه - بعد ما تقدّم تمثيله بـ «أمّا علما فعالم» ونحوه -: وقد يرفع في لغة بني تميم، والنصب في لغتها أحسن، فإن دخلت الألف واللام رفعوا (2).
وقال سيبويه أيضا: وقد ينصب أهل الحجاز في هذا الباب بالألف واللام؛ لأنّهم قد يتوهمون في هذا الباب غير الحال، وبنو تميم كأنّهم لا يتوهّمون غيره، فمن ثمّ لم ينصبوا في الألف واللام (3).
قال الشيخ: وعبارة سيبويه أخلص من عبارة المصنف؛ لأنّ المصنف قال:
(وفي التعريف) وهو يعمّ التعريف بالأداة وبغيرها، والمنقول إنما هو في المعرّف بالأداة (4).
وقد يلخص مما تقدّم: أن المصدر الواقع بعد «أمّا» بحسب اللغتين قد يكون مرفوعا أو منصوبا مع كونه معرفة أو نكرة، فإن رفع فهو مبتدأ، معرفة كان أو نكرة، وإن نصب فإن كان نكرة كان حالا - كما تقدم - وإن كان معرفة كان مفعولا؛ لامتناع أن يكون حالا حينئذ، هذا مذهب سيبويه.
وأما الأخفش فإنه يجعل المنصوب مصدرا مؤكدا في التعريف والتنكير ويجعل العامل فيه ما بعد الفاء إن لم يقترن بما لا يعمل ما بعده فيما قبله، وتقدير «أمّا علما فعالم» على مذهبه: مهما يكن من شيء فالمذكور عالم علما،
فلزم العامل أن تقدّم «علما» والعامل فيه ما بعد الفاء كما لزم تقديم المفعول به في فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (5). -
(1) التذييل (3/ 727).
(2)
ينظر: الكتاب (1/ 384 - 385).
(3)
الكتاب (1/ 385).
(4)
التذييل (3/ 727).
(5)
سورة الضحى: 9.
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
قال المصنف: وقد قال سيبويه في «أمّا الضّرب فضارب» مثل قول الأخفش في «أمّا علما فعالم» (1).
قلت: وهو قوله: وإذا قلت: «أمّا الضّرب فضارب» فهذا ينتصب على وجهين:
على أن يكون الضرب مفعولا كقولك: «أمّا عبد الله فأنا ضارب» .
وعلى قولك: «أمّا علما فعالم» كأنك قلت: أمّا ضربا فضارب، فيصير كقولك:«أمّا ضربا فذو ضرب» . انتهى (2)[3/ 66].
وفي عبارته إشكال يظهر بالتأمّل، ولا أفهم منه موافقة قول الأخفش صريحا.
وقد ردّ مذهب الأخفش من وجهين:
أحدهما: أن المصدر المؤكد لا يكون معرفا بالألف واللام؛ لأنهما يخرجانه عن الإبهام إلى التخصيص، ودعوى زيادة «ال» خلاف الأصل.
والثاني: أنه لا يصحّ أن يكون مصدرا مؤكدا إذا كان ما بعد الفاء لا يمكن أن يعمل ما بعده فيما قبله، نحو:«أمّا علما فلا علم له» (3).
وأجاز بعض النحويين أن يكون المنصوب بعد «أمّا» من المصادر مفعولا به في التنكير والتعريف، والعامل فيه فعل الشرط المقدّر، فيقدّر متعديا على حسب المعنى، فكأنه قيل: مهما تذكر علما أو العلم فالذي وصف به عالم (4).
قال المصنف: وهذا القول عندي أولى بالصواب، وأحقّ ما اعتمد عليه في الجواب؛ لأنه لا يخرج فيه شيء عن أصله، ولا يمنع من اطّراده مانع، بخلاف الحكم بالحالية فإنّ فيه إخراج المصدر عن أصله، بوضعه موضع اسم فاعل وفيه عدم الاطراد لجواز تعريفه، وبخلاف الحكم بأنّه مصدر مؤكّد، فإنّه يمتنع إذا كان بعد الفاء ما لا يعمل ما بعده فيما قبله، وأمّا الحكم بأنّه مفعول به فلا يعرض ما يمنع في لفظ ولا معنى، فكان أولى من غيره، ومما يؤيّده
الرجوع إليه على أحسن الوجهين في قول الشاعر: -
(1) شرح المصنف (2/ 329).
(2)
الكتاب (1/ 385).
(3)
ينظر: التذييل (3/ 729 - 730).
(4)
ينظر: شرح المصنف (2/ 329 - 330).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
1778 -
ألا ليت شعري هل إلى أمّ مالك
…
سبيل فأمّا الصّبر عنها فلا صبرا (1)
روي بالرفع على الابتداء، والنصب على تقدير: مهما ترم الصبر، هذا تقدير السيرافي، وهو أسهل من جعل الصبر مفعولا له، وإن كان هو قول سيبويه، والنصب لغة الحجازيين، والرفع لغة تميم كما علمت (2).
ثم قال المصنف أيضا: ويؤيده في المصدر مجيئه فيما ليس مصدرا، نحو:«أما قريشا فأنا أفضلها» رواه الفراء عن الكسائي عن العرب، وتقديره: مهما تذكر قريشا أو تصف قريشا، ومثله ما روي يونس عن قوم من العرب أنهم يقولون:«أمّا العبيد فذو عبيد، (وأمّا العبد فذو عبد» (3) تقديره عندي: مهما تذكر العبيد فذو عبيد) (4)، ومهما تذكر العبد فذو عبد. انتهى (5).
قال الشيخ: والدليل على فساد ما اختاره المصنف، أنّه لو كان على إضمار الفعل المتعدي الناصب له لم يكن ذلك مختصّا بالمصدر، نحو:«أمّا علما فعالم» أو بالصفات نحو: «أمّا صديقا فصديق» على ما سيأتي، وكان جائزا في كل الأسماء، وقد نصّ سيبويه على أنّه لا يجوز في مثل «أما الحارث فلا حارث لك وأما البصرة
…
وأمّا أبوك
…
» إلّا الرفع، وذكر أنّه لا سبيل إلى النصب. ولو كان النصب على ما اختاره المصنف لجاز، وقال سيبويه - بعد نقل ما رواه يونس -:«وهذا قليل خبيث، وذلك أنهم شبهوه بالمصدر كما شبّهوا «الجماء الغفير» بالمصدر» (6). وأمّا حكاية الكسائي «أمّا قريشا فأنا أفضلها» إن صحت عمّن يحتج بكلامهم فهو قليل، ويخرّج على إضمار المصدر وإبقاء معموله، والتقدير: أمّا ذكرك قريشا، ولا يقاس على ذلك، لأنّ حذف المصدر وإبقاء معموله لا يقاس. انتهى (7).
قال المصنف - بعد كلامه المتقدم -: فلو كان التالي (أمّا) صفة منكرة، نحو: -
(1) البيت من الطويل، وقائله الرماح بن ميادة وينظر: في الكتاب (1/ 386)، وشرح المصنف (2/ 330)، والتذييل (3/ 729)، والارتشاف (2/ 345).
(2)
ينظر: شرح المصنف (3/ 329، 330).
(3)
ينظر: رواية يونس في الكتاب (1/ 389).
(4)
ما بين القوسين مستدرك بالهامش.
(5)
ينظر: شرح المصنف (2/ 330).
(6)
ينظر: الكتاب (1/ 389).
(7)
ينظر: كلام أبي حيان في التذييل (3/ 730) بتصرف، والارتشاف (2/ 345).
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
«أمّا صديقا فصديق» تعينت الحالية، وكان العامل فعل الشرط المقدر، ويجوز أن يكون العامل الصفة التي بعد الفاء، ويكون الحال مؤكدا، وكذلك يجوز الوجهان في «أمّا صديقا فليس بصديق» (1) ومنع المبرد في هذا إعمال (صديق) لاقترانه بالباء، وغيره لا يمنع ذلك؛ لأنّ الباء زائدة، فوجودها كعدمها. وزعم الأخفش أنّ (صديقا) منصوب بـ (يكون) والتقدير: أمّا أن يكون إنسان فالمذكور صديق.
وردّ المبرد قوله ولم يذكر حجّة الردّ. والحجة أنّا إذا قدّرنا (أن يكون) لزم كون (أن) وصلتها في موضع نصب على المذهب المختار، وينبغي أن تقدّر قبله (أن يكون) آخر، ويؤدي ذلك إلى التسلسل، وهو محال.
قال الشيخ: ولا يلزم ما قال من كون (أن) وصلتها في موضع نصب، بل يكون في موضع رفع على الابتداء، والتقدير: أمّا كون إنسان صديقا فأنت صديق، والراجع محذوف، أي: فأنت صديق مثله، أي: مثل كونه صديقا، ولو فرضنا أنّ (أن يكون) في موضع نصب، لم يلزم أن يكون منصوبا بـ (أن يكون) مضمرة، بل يكون العامل فيه النصب الوصف الذي بعد الفاء، ويكون (أن يكون) مفعولا له، والتقدير: أمّا لأن يكون إنسان صديقا فالمذكور صديق (2).
قال: وإنّما يردّ مذهب الأخفش بأنّ فيه إضمار المصدر وإبقاء معموله، وهو لا ينقاس. انتهى (3).
وقد علمت مما تقدّم: أنّ الواقع بعد (أمّا) إمّا مصدر، أو صفة، أو اسم غير مصدر ولا صفة وكلّ من الثلاثة إمّا معرّف باللام أو منكّر، وتقدّم الكلام على المصدر معرّفا ومنكّرا، مرفوعا ومنصوبا، وعلى الصفة المنكّرة والصفة المعرّفة في الحكم كالاسم غير المصدر وغير الصفة المنكّرة، وقد تبيّن أنّ نصبه قليل، وأنّ الرفع فيه هو الوجه، وذلك قولك:«أمّا العبيد فذو عبيد، وأما العبد فذو عبد، وأمّا عبدان فذو عبدين» وهي أمثلة سيبويه (4)، وقال بعد أن مثّل بها: وإنّما اختير -
(1) في المخطوط: ولذلك لا يجوز التقدير في «أما صديقا
…
إلخ» وما أثبته من شرح المصنف، وهو الصواب.
(2)
إلى هنا كلام المصنف وينظر: في شرحه (2/ 330، 331).
(3)
انتهى كلام أبي حيان. وينظر: في التذييل (3/ 732).
(4)
ينظر: الكتاب (1/ 387).