الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
خطر التعصب المذهبي
[قال الإمام معلقًا على قول أبي حنيفة بعدم رفع اليدين عند الركوع والرفع منه]:
هذا والذي أعتقده أن أئمتنا الأولين-أبا حنيفة وغيره- لم تبلغهم تلك الأحاديث المتواترة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في رفع اليدين في الموضعين المذكورين، ولو بلغتهم؛ لأخذوا بها، وتركوا حديث ابن مسعود؛ كما تركوا حديث التطبيق للأحاديث المعارضة لذلك.
ويؤيد ذلك أن أبا حنيفة رحمه الله لما سأله بعض المحدثين عن سبب تركه رفع اليدين؟ قال: «لأنه لم يصح فيه حديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم» . في حكاية ذكرها علماؤنا في كتبهم! فهل يعقل أن يقول عالم مثل أبي حنيفة هذا الجواب في حديث متواتر رواه عشرون من الصحابة، وعملوا به؟ ! كلا، ثم كلا. ولكن عذره في ذلك أنها لم تبلغه، ولم يكن عنده علم بها؛ فجاز له أن يقول: لم يصح فيه شيء. وبالتالي جاز له ترك العمل بها.
لكن إذا جاز ذلك لأبي حنيفة وأمثاله من المتقدمين؛ فلن يجوز ذلك مطلقاً للمتأخرين من أتباعه الذين اطلعوا على هذه الأحاديث الكثيرة، وعلموا صحتها، وأنه لا ينهض شيء من الأخبار لمعارضتها، فهم إذا تركوها تعصباً
لأبي حنيفة، وتقليداً له؛ فهم مع مخالفتهم للسنة الثابتة عنه صلى الله عليه وآله وسلم، مخالفون أيضاً لإمامهم؛ فإنه رضي الله عنه لأمثال هؤلاء وَجَّه تلك الأقوال المأثورة عنه رضي الله عنه؛ كقوله:
«إذا صح الحديث؛ فهو مذهبي» . وقوله:
«لا يحل لأحد أن يفتي بقولنا ما لم يعلم من أين قلنا» . فإذا كان رضي الله عنه لا يحل لأحد أن يفتي بقوله في مسألة إلا إذا علم دليله فيها؛ فكيف يجيز لأحد من أتباعه أن يفتي فيها وقد علم ضعف ما استند إليه بالنسبة للأدلة الصحيحة الأخرى-كما في مسألتنا هذه، وغيرها من المسائل الماضية والآتية-؟ !
فنحن نحمد الله سبحانه وتعالى أن وفقنا لاتباع سنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم، ونرجو منه تعالى أن يجزي خير الجزاء الإمام أبا حنيفة وغيره من الأئمة الذين وجهونا هذا الاتجاه الحسن نحو السنة؛ بأمثال هذه الأقوال الجوهرية الثمينة.
فثبت بما ذكرنا أن من ترك السنة الثابتة لقول إمام؛ فهو مخالف له، وهو غير راضٍ عنه. ولذلك خالفه في هذه المسألة غير ما واحد من أتباعه المتقدمين والمتأخرين. وأقدم من وقفنا عليه منهم هو عصام بن يوسف: أبو عصمة البلخي، تلميذ أبي يوسف رحمه الله، المتوفي سنة (215 هـ)، فقد أوردوه في تراجم الحنفية، وذكروا أنه كان يرفع يديه عند الركوع والرفع منه.
وعلق على ذلك العلامة أبو الحسنات اللكنوي في كتابه «الفوائد البهية» :
«يعلم منه بطلان رواية مكحول عن أبي حنيفة: «أن من رفع يديه في
الصلاة؛ فسدت صلاته» -التي اغتر أمير كاتب الإتقاني بها-؛ فإن عصام بن يوسف كان من ملازمي أبي يوسف، وكان يرفع، فلو كان لتلك الرواية أصل؛ لعلم بها أبو يوسف وعصام». ثم قال:
«ويعلم أيضاً أن الحنفي لو ترك في مسألة مذهب إمامه لقوة دليل خلافه، لا يخرج به عن ربقة التقليد، بل هو عين التقليد في صورة ترك التقليد
…
» إلخ كلامه. وقد ذكرناه بتمامه في «المقدمة» فراجعه.
وأما المتأخرون، فهم كثيرون والحمد لله، لا سيما حنفية الهند؛ فإنهم-بارك الله فيهم- أكثر المسلمين اليوم علماً وعملاً بالسنة، وأقلهم تعصباً للمذهب، إلا ما وافق الحق منه، فمنهم: أبو الحسن السندي-وقد مضى كلامه في ذلك قريباً-. ومنهم: ولي الله الدهلوي في «حجة الله البالغة» (2 - 10)، وأبو الحسنات اللكنوي في «التعليق الممجد على موطأ محمد» (89 - 91)، والشيخ محمد أنور الكشميري في كتابه «فيض الباري» (2/ 257) ولولا خشية الإطالة؛ لنقلت كلماتهم في ذلك، فاكتفينا بالإشارة إليها، وإلى مواضعها من كتبهم، فليراجعها من شاء.
وأقول أيضاً: إنه لم يخل قرن فيما مضى إلا ووجد فيه كثير من الحنفية يعملون بالسنة وإن خالفت المذهب، ولكن موانع-يعلمها أهل العلم- منعت من وصول أخبارهم إلينا، أو تظاهرهم بها أمام أتباعهم المتعصبين، وقد كان الشيخ صالح الحمصي رحمه الله-وهو من علماء الحنفية- يرى سنية الرفع هذا، ولكنه كان لا يفعل ذلك خوفاً من قيام المتعصبين عليه، كما صارحني بذلك رحمه الله.
ومما يؤيد هذا الرأي أنه وجد في القرن الثامن من الهجرة بعض الأئمة الحنفية كان يرفع يديه في كل تكبيرة وهو إمام، فجاء في فتوى شيخ الإسلام ما ملخصه (2/ 375 - 380): مسألة في رجل حنفي؛ صلى في جماعة، ورفع يديه في كل تكبيرة، فأنكر عليه فقيه الجماعة، وقال له: هذا لا يجوز في مذهبك، وأنت مبتدع فيه، وأنت مذبذب، لا بإمامك اقتديت، ولا بمذهبك اهتديت، فهل ما فعله نقص في صلاته، ومخالفة للسنة ولإمامه، أم لا؟
فأجاب رحمه الله تعالى بعد أن أثبت سنية الرفع عند الركوع والرفع منه، ونفى سنية الرفع مع كل تكبيرة-وتبعه على ذلك تلميذه ابن القيم، ويأتي بيان خطأهما في ذلك في محله إن شاء الله تعالى-، قال شيخ الإسلام:
«وإذا كان الرجل متبعاً لأبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد، ورأى في بعض المسائل أن مذهب غيره أقوى، فاتبعه؛ كان قد أحسن في ذلك، ولم يقدح ذلك في دينه ولا عدالته بلا نزاع، بل هذا أولى بالحق وأحب إلى الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم ممن يتعصب لواحد معين غير النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ويرى أن قوله هو الصواب الذي ينبغي اتباعه دون قول الإمام الذي خالفه، فمن فعل هذا؛ كان جاهلاً ضالاً، بل قد يكون كافراً، فإنه متى اعتقد أنه يجب على العامة تقليد فلان وفلان؛ فهذا لا يقوله مسلم. ومن كان موالياً للأئمة، محباً لهم، يقلد كل واحد منهم فيما يظهر أنه موافق للسنة؛ فهو محسن في ذلك، بل هو أحسن حالاً من غيره، ولا يقال لمثل هذا: مذبذب؛ على وجه الذم، وإنما المذبذب المذموم الذي لا يكون مع المؤمنين ولا مع الكفار؛ بل يأتي المؤمنين بوجه، ويأتي الكفار بوجه، كما قال تعالى في حق المنافقين: {إن المنافقين يخادعون
الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا. مذبذبين بين ذلك
…
} الآية». قال:
«ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين؛ فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين؛ كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة، وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما فهذه طرق أهل البدع والأهواء، فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه؛ ففيه شبه من هؤلاء، سواءً تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية التعصب لواحد منهم أن يكون جاهلاً بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين؛ فيكون ظالماً جاهلاً، والله يأمر بالعدل والعلم، وينهى عن الجهل والظلم.
وهذا أبو يوسف ومحمد أتبع الناس لأبي حنيفة، وأعلمهم بقوله، وهما قد خالفاه في مسائل لا تكاد تحصى؛ لما تبين لهما من السنة والحجة ما وجب عليهما اتباعه، وهما مع ذلك معظمان لإمامهما، لا يقال فيهما: مذبذبان! بل أبو حنيفة وغيره من الأئمة يقولو القول، ثم تتبين له الحجة في خلافه؛ فيقول بها، ولا يقال له: مذبذب.-فإن الإنسان لا يزال يطلب العلم والإيمان-، بل هذا مهتدٍ زاده الله هدى، وقد قال تعالى:{وقل رب زدني علماً} .
فالواجب على كل مؤمن موالاة المؤمنين، وعلماء المؤمنين، وأن يقصد الحق ويتبعه حيث وجده، ويعلم أن من اجتهد منهم فأصاب؛ فله أجران، ومن
اجتهد منهم فأخطأ؛ فله أجر لاجتهاده، وخطؤه مغفور له. وعلى المؤمنين أن يتبعوا إمامهم إذا فعل ما يسوغ، وليس لأحد أن يتخذ قول بعض العلماء شعاراً يوجب اتباعه، وينهى عن غيره مما جاءت به السنة» قال:
(صفة صلاة النبي (2/ 615 - 620 - 00)