المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

طعن في الإمام الذي يقلده أياً كان من الأئمة، فإنما - جامع تراث العلامة الألباني في المنهج والأحداث الكبرى - جـ ٥

[ناصر الدين الألباني]

فهرس الكتاب

- ‌التعصب المذهبي

- ‌رأي العلامة الألبانيفي التمذهب

- ‌بيان خطر التعصب المذهبي ونهيأئمة المذاهب عنه وَرَدّ بعض الشبهات

- ‌أقوال الأئمة في اتباع السنة وترك أقوالهم المخالفة لها:

- ‌ترك الأتباع بعض أقوال أئمتهم اتباعاً للسنة:

- ‌شبهات وجوابها:

- ‌هل القول باتباع الكتاب والسنةيعني أن المذاهب مُطَّرحة

- ‌ما الجواب على من يقول: إن الأئمةهم القرون الأولى فوجب اتباعهم

- ‌هل من خالف الأئمة الأربعة يكفر

- ‌هل يجب اتباع مذهب معين

- ‌عودة إلى السنة

- ‌خطر التعصب المذهبي

- ‌هل المسلم ملزم باتباعأحد أصحاب المذاهب

- ‌حكم التلفيق في الأخذ من المذاهب

- ‌هل يجوز ترك العمل بالدليللقول إمام

- ‌هل يجوز إفتاء الناس بمذهب معين

- ‌حول كتاب بدعة التعصب المذهبي

- ‌هل يلزم من ترك التمذهبأن تُهجر المذاهب الأربعة

- ‌حول عبارة الطحاويفي ذم التقليد

- ‌اتهام السلفيين أنهملا يُقَدِّرون المذاهب

- ‌اتهام السلفيين بأنهم يُلْزِمونأئمة المذاهب مالا يَلْزَمُهم

- ‌حول تقليد مشايخ العصر

- ‌سؤال العالم على الدليل

- ‌إفتاء السائل بالمذهب

- ‌الفرق بين الاتباع والتقليد

- ‌المتمذهبون يُحْرَمون اتباع الدليلوهم يجتهدون فيما لا مجال للاجتهاد فيه

- ‌دعاء الشيخ للمسلمين بالعصمةمن التعصب المذهبي

- ‌الشيخ يحمد الله أن عصمه من التعصب المذهبي

- ‌خطر التعصب المذهبي

- ‌إذا لم نتبع المذاهب الأربعة فمن نتبع

- ‌طاعة العلماء

- ‌مناقشة المذهبيين

- ‌ضوابط استفتاء القلب

- ‌طالب العلم والتمذهب

- ‌هل يجوز للمبتدئ في طلب العلماتباع مذهب معين

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌أيُّ المذاهب أفضل لطالب العلم

- ‌حكم التقليد فيالتصحيح والتضعيف

- ‌هل يجوز تقليد العلماءتصحيحا وتضعيفا

- ‌باب منه

- ‌العمل عند اختلاف العلماءفي التصحيح والتضعيف

- ‌كتاب الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌حكم الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌هل الذين يحكمون بالقوانينالوضعية يخرجون من الملة

- ‌إقامة الحجة على الحاكمالذي لا يحكم بما أنزل الله

- ‌معنى الكفر البواح

- ‌تفسير آية (من لم يحكم)

- ‌باب منه

- ‌إسلام النجاشي

- ‌مبايعة من لا يحكم بما أنزل الله

- ‌الموقف من الحاكم الذي يُعَطِّل الشريعة

- ‌حكم الحكام الذين يُشْرِفون على البغاء

- ‌الحكم بغير ما أنزل الله

- ‌الحكم بين المتخاصمين

- ‌الدعاء على الحكامالذين يضرون بالأمة

- ‌الحكام المضلون

- ‌الطغاة وقتل العلماء

- ‌الحكام والمحكومون لا يُحَكِّمون كتاب الله فأصابهم ما أصابهم

- ‌الحكم بما أنزل الله بين الحكام والمحكومين

- ‌هل تطبيق أنظمة الكفر السياسيةوالاقتصادية يُعَدُّ كفرا بواحا

- ‌حكم من يفرق بين الشريعة والعقيدة

- ‌حكم الخروج على الحكام

- ‌حكم الخروج على الحاكم

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌حكم الخروج على حاكم شيوعي

- ‌حدود طاعة ولاة الأمور

- ‌لا طاعة للحاكم في معصية الله

- ‌هل التعامل في السوق السوداءمخالفة لولي الأمر

- ‌حدود طاعة الأمراء

- ‌ما حكم القيام بأعمال في نفسهامباحة والدولة لا تسمح بها

- ‌حكم التحايل على القوانين الوضعية

- ‌حكم مال من يعمل في بلد بدون إقامة

- ‌حكم التحاكم إلى المحاكم

- ‌حكم التحاكم إلى المحاكم الحالية

- ‌باب منه

- ‌حكم دراسة القوانين الوضعية

- ‌حكم دخول الجامعات التي تُدَرِّسالقوانين الوضعية

- ‌حكم دراسة القانون الوضعي

- ‌متفرقات

- ‌الأئمة من قريش

- ‌معنى الخلافة في قريش

- ‌حكم العمل كموظف عند أئمة الجور

- ‌حكم الاشتغال في سلك القضاء

- ‌جماعة جهيمان

- ‌هل يقال الله هو الحاكم

- ‌إطلاق لفظ صاحب الجلالة على الحاكم

- ‌هل هناك عهد شرعي يلزم صاحبهبالطاعة في المنشط والمكره

- ‌كيفية إقامة الحجة على الحكام

- ‌حول مانعي الزكاة

- ‌الدعاء لولي الأمر

- ‌باب منه

- ‌هل قاعدة كما تكونوا يولى عليكم على إطلاقها

- ‌هل الشورى معلمة أم ملزمة

- ‌نصيحة الشيخ للحكام أن يهذبواأنفسهم بالإسلام

- ‌حكومة المرأة

- ‌العلامة الألباني وفقه الخلاف

- ‌هل الاختلاف رحمة

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌سبب اختلافات الجماعات السنية

- ‌حول الاختلاف في الأصول وفي الفروع

- ‌الاختلاف بين الأئمة

- ‌الاختلاف في طريقة الوصول إلى السعادة

- ‌اختلاف الفتاوى

- ‌حول حديث لا يُصَلّين أحدكم العصر

- ‌الخلاف بين أتباع الأئمة

- ‌الاختلاف بين الشيخ وعلماء الحجاز

- ‌كيف نتعامل مع المخالفينإذا كانت القوة لهم

- ‌أدب الحوار والخلاف

- ‌حكم منكر الإجماع

- ‌موقف العامة من اختلاف الفتاوى

- ‌كيف يعرف خاصة الناس الراجحمما وقع فيه اختلاف

- ‌رأي العلامة الألباني فيجماعة أنصار السنة بمصر

- ‌رأي الشيخ في جماعة أنصار السنة بمصروأتباع الشيخ محمود خَطَّاب السبكي

- ‌رأي الشيخ في أنصار السنة بمصر

- ‌المجددون والتجديد

- ‌ما مجالات التجديد

- ‌هل يشترط أن يكون المجددمن أهل السنة

- ‌من هو المجدد وما هي شروطه

- ‌حكم العزلة

- ‌حكم العزلة

- ‌باب منه

- ‌باب منه

- ‌باب منه

الفصل: طعن في الإمام الذي يقلده أياً كان من الأئمة، فإنما

طعن في الإمام الذي يقلده أياً كان من الأئمة، فإنما أخذنا هذا المنهج منهم-كما سبق بيانه-، فمن أعرض عن الاهتداء بهم في هذا السبيل؛ فهو على خطر عظيم؛ لأنه يستلزم الإعراض عن السنة، وقد أمرنا عند الاختلاف بالرجوع إليها، والاعتماد عليها؛ كما قال تعالى:{فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65].

أسأل الله تعالى أن يجعلنا ممن قال فيهم: {إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ، وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 51 - 52].

‌شبهات وجوابها:

ذلك ما كنت كتبته منذ عشر سنوات في مقدمة هذا الكتاب، وقد ظهر لنا في هذه البرهة أنه كان لها تأثير طيب في صفوف الشباب المؤمن؛ لإرشادهم إلى وجوب العودة في دينهم وعبادتهم إلى المنبع الصافي من الإسلام: الكتاب والسنة؛ فقد ازداد فيهم-والحمد لله- العاملون بالسنة، والمتعبدون بها، حتى صاروا معروفين بذلك؛ غير أني لمست من بعضهم توقفاً عن الاندفاع إلى العمل بها، لا شكاً في وجوب ذلك-بعد ما سقنا من الآيات والأخبار عن الأئمة في الأمر بالرجوع إليها-؛ ولكن لشبهات يسمعونها من بعض المشايخ المقلدين؛ لذا رأيت أن أتعرض لذكرها، والرد عليها، لعل ذلك البعض يندفع بعد ذلك إلى العمل بالسنة مع العاملين بها؛ فيكون من الفرقة الناجية بإذن الله تعالى.

ص: 15

1 -

قال بعضهم:

«لا شك أن الرجوع إلى هدي نبينا صلى الله عليه وآله وسلم في شؤون ديننا أمر واجب، لا سيما فيما كان منها عبادة محضة، لا مجال للرأي والاجتهاد فيها؛ لأنها توقيفية؛ كالصلاة مثلاً، ولكننا لا نكاد نسمع أحداً من المشايخ المقلدين يأمر ذلك، بل نجدهم يقرون الاختلاف، ويزعمون أنه توسعة على الأمة، ويحتجون على ذلك بحديث- طالما كروره في مثل هذه المناسبة رادين به على أنصار السنة-: «اختلاف أمتي رحمة» .

فيبدو لنا أن هذا الحديث يخالف المنهج الذي تدعو إليه، وألفت كتابك هذا وغيره عليه، فما قولك في هذا الحديث؟ ».

والجواب من وجهين:

الأول: أن الحديث لا يصح؛ بل هو باطل لا أصل له؛ قال العلامة السبكي:

«لم أقف له على سند صحيح، ولا ضعيف، ولا موضوع» .

قلت: وإنما روي بلفظ:

«

اختلاف أصحابي لكم رحمة». و:

«أصحابي كالنجوم، فبأيهم اقتديتم؛ اهتديتم» .

وكلاهما لا يصح: الأول: واه جداً، والآخر: موضوع. وقد حققت القول في ذلك كله في «سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة» (رقم 58 و 59 و 61).

ص: 16

الثاني: أن الحديث-مع ضعفه- مخالف للقرآن الكريم؛ فإن الآيات الواردة فيه- في النهي عن الاختلاف في الدين، والأمر بالاتفاق فيه-أشهر من أن تذكر، ولكن لا بأس من أن نسوق بعضها على سبيل المثال؛ قال الله تعالى:{وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال: 46]. وقال: {وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} [الروم: 31 - 32]. وقال: {وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} [هود: 118 - 119]. فإذا كان من رحم ربك لا يختلفون، وإنما يختلف أهل الباطل؛ فكيف يعقل أن يكون الاختلاف رحمة؟ !

فثبت أن هذا الحديث لا يصح؛ لا سنداً ولا متناً، وحينئذٍ يتبين بوضوح أنه لا يجوز اتخاذه شبهة للتوقف عن العمل بالكتاب والسنة، الذي أمر به الأئمة.

2 -

وقال آخرون:

«إذا كان الاختلاف في الدين منهياً عنه؛ فماذا تقولون في اختلاف الصحابة، والأئمة من بعدهم؟ وهل ثمة فرق بين اختلافهم، واختلاف غيرهم من المتأخرين؟

فالجواب: نعم؛ هناك فرق كبير بين الاختلافين، ويظهر ذلك في شيئين:

الأول: سببه.

والآخر: أثره.

فأما اختلاف الصحابة؛ فإنما كان عن ضرورة واختلاف طبيعي منهم في الفهم؛ لا اختياراً منهم للخلاف، يضاف إلى ذلك أمور أخرى كانت في زمنهم، استلزمت اختلافهم، ثم زالت من بعدهم، ومثل هذا الاختلاف لا

ص: 17

يمكن الخلاص منه كلياً، ولا يلحق أهله الذم الواردُ في الآيات السابقة، وما في معناها؛ لعدم تحقق شرط المؤاخذة، وهو القصد، أو الإصرار عليه.

وأما الاختلاف القائم بين المقلدة؛ فلا عذر لهم فيه غالباً؛ فإن بعضهم قد تتبين له الحجة من الكتاب والسنة، وأنها تؤيد المذهب الآخر الذي لا يتمذهب به عادة، فيدعها لا لشيء؛ إلا لأنها خلاف مذهبه، فكأن المذهب عنده هو الأصل، أو هو الدين الذي جاء به محمد صلى الله عليه وآله وسلم، والمذهب الآخر هو دين آخر منسوخ!

وآخرون منهم على النقيض من ذلك؛ فإنهم يرون هذه المذاهب-على ما بينها من اختلاف واسع- كشرائع متعددة؛ كما صرح بذلك بعض متأخريهم:

«لا حرج على المسلم أن يأخذ من أيها ما شاء، ويدع ما شاء، إذ الكل شرع» !

وقد يحتج هؤلاء، وهؤلاء على بقائهم في الاختلاف بذلك الحديث الباطل:«اختلافُ أمتي رحمة» وكثيراً ما سمعناهم يستدلون به على ذلك!

ويعلل بعضهم هذا الحديث، ويوجهونه بقولهم:

«إن الاختلاف إنما كان رحمة؛ لأن فيه توسعة على الأمة» !

ومع أن هذا التعليل مخالف لصريح الآيات المتقدمة، وفحوى كلمات الأئمة السابقة؛ فقد جاء النص عن بعضهم برده، قال ابن القاسم:

«سمعت مالكاً والليث يقولان في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: ليس كما قال ناس: «فيه توسعة» ؛ ليس كذلك، إنما هو خطأ وصواب».

ص: 18

وقال أشهب:

«سئل مالك عمن أخذ بحديث حدثه ثقة عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ أتراه من ذلك في سعة؟ فقال:

لا والله! حتى يصيب الحق، ما الحق إلا واحد، قولان مختلفان يكونان صواباً جميعاً؟ ! ما الحق والصواب إلا واحد».

وقال المزني صاحب الإمام الشافعي:

«وقد اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؛ فخطأ بعضهم بعضاً، ونظر بعضهم في أقاويل بعض وتعقبها، ولو كان قولهم كله صواباً عندهم؛ لما فعلوا ذلك، وغضب عمر بن الخطاب من اختلاف أبي بن كعب وابن مسعود في الصلاة في الثوب الواحد؛ إذ قال أبي:

إن الصلاة في الثوب الواحد حسن جميل. وقال ابن مسعود:

إنما كان ذلك والثياب قليلة. فخرج عمر مغضباً، فقال:

اختلف رجلان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ممن ينظر إليه، ويؤخذ عنه! وقد صدق أبي، ولم يألُ ابن مسعود، ولكني لا أسمع أحداً يختلف فيه بعد مقامي هذا؛ إلا فعلت به كذا وكذا».

وقال الإمام المزني أيضاً:

«يقال لمن جوز الاختلاف، وزعم أن العالِمَيْن إذا اجتهدا في الحادثة؛ فقال أحدهما حلال، والآخر: حرام. أن كل واحد منهما في اجتهاده مصيب الحق:

ص: 19

أبأصلٍ قلت هذا، أم بقياس؟ فإن قال: بأصل. قيل له:

كيف يكون أصلاً، والكتاب ينفي الاختلاف؟ ! وإن قلت: بقياس. قيل: كيف تكون الأصول تنفي الخلاف، ويجوز لك أن تقيس عليها جواز الخلاف؟ ! هذا ما لا يجوزه عاقل؛ فضلاً عن عالم».

فإن قال قائل: يخالف ما ذكرته عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد ما جاء في كتاب «المدخل الفقهي» للأستاذ الزرقا (1/ 89):

«ولقد هم أبو جعفر المنصور، ثم الرشيد من بعده أن يختارا مذهب الإمام مالك وكتابه «الموطأ» قانوناً قضائياً للدولة العباسية، فنهاهما مالك عن ذلك وقال:

«إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم اختلفوا في الفروع، وتفرقوا في البلدان، وكل مصيب» .

وأقول: إن هذه القصة معروفة مشهورة عن الإمام مالك رحمه الله، لكن قوله في آخرها:

«وكل مصيب» . مما لا أعلم له أصلاً في شيء من الروايات، والمصادر التي وقفت عليها، اللهم! إلا رواية واحدة أخرجها أبو نعيم في «الحلية» (6/ 332) بإسناد فيه المقدام بن داود، وهو: ممن أوردهم الذهبي في «الضعفاء» ، ومع ذلك فإن لفظها:

«وكل عند نفسه مصيب» . فقوله:

«عند نفسه» . يدل على أن رواية «المدخل» مدخولة، وكيف لا تكون

ص: 20

كذلك؛ وهي مخالفة لما رواه الثقات عن الإمام مالك أن الحق واحد لا يتعدد؛ كما سبق بيانه؟ ! وعلى هذا كل الأئمة من الصحابة، والتابعين، والأئمة الأربعة المجتهدين وغيرهم.

قال ابن عبد البر (2/ 88):

«ولو كان الصواب في وجهين متدافعين؛ ما خطأ السلف بعضهم بعضاً في اجتهادهم، وقضائهم، وفتواهم، والنظر يأبى أن يكون الشي وضده صواباً كله، ولقد أحسن من قال:

إثبات ضدين معاً في حال

أقبح ما يأتي من المحال

فإن قيل: إذا ثبت أن هذه الرواية باطلة عن الإمام؛ فلماذا أبى الإمام على المنصور أن يجمع الناس على كتابه «الموطأ» ، ولم يجبه إلى ذلك؟

فأقول: أحسن ما وقفت عليه من الرواية ما ذكره الحافظ ابن كثير في «شرح اختصار علوم الحديث» (ص 31)، وهو أن الإمام مالكاً قال:

«إن الناس قد جمعوا واطلعوا على أشياء لم نطلع عليها» .

وذلك من تمام علمه وإنصافه؛ كما قال ابن كثير رحمه الله تعالى.

فثبت أن الخلاف شر كله، وليس رحمة، ولكن منه ما يؤاخذ عليه الإنسان؛ كخلاف المتعصبة للمذاهب، ومنه ما لا يؤاخذ عليه؛ كخلاف الصحابة ومن تابعهم من الأئمة؛ حشرنا الله في زمرتهم ووفقنا لاتباعهم.

وخلاصته:

ص: 21

إن الصحابة اختلفوا اضطراراً، ولكنهم كانوا ينكرون الاختلاف، ويفرون منه ما وجدوا إلى ذلك سبيلاً.

وأما المقلدة-فمع إمكانهم الخلاص منه، ولو في قسم كبير منه-؛ فلا يتفقون، ولا يسعون إليه؛ بل يقرونه، فشتان إذن بين الاختلافين.

ذلك هو الفرق من جهة السبب.

وأما الفرق من جهة الأثر؛ فهو أوضح؛ وذلك أن الصحابة رضي الله عنهم-مع اختلافهم المعروف في الفروع- كانوا محافظين أشد المحافظة على مظهر الوحدة، بعيدين كل البعد عما يفرق الكلمة، ويصدع الصفوف؛ فقد كان فيهم-مثلاً- من يرى مشروعية الجهر بالبسملة، ومن يرى عدم مشروعيته، وكان فيهم من يرى استحباب رفع اليدين، ومن لا يراه، وفيهم من يرى نقض الوضوء بمس المرأة، ومن لا يراه؛ ومع ذلك؛ فقد كانوا يصلون جميعاً وراء إمام واحد، ولا يستنكف أحد منهم عن الصلاة وراء الإمام لخلاف مذهبي.

وأما المقلدون؛ فاختلافهم على النقيض من ذلك تماماً؛ فقد كان من آثاره أن تفرق المسلمون في أعظم ركن بعد الشهادتين؛ ألا وهو الصلاة، فهم يأبون أن يصلوا جميعاً وراء إمام واحد، بحجة أن صلاة الإمام باطلة، أو مكروهة على الأقل بالنسبة إلى المخالف له في مذهبه، وقد سمعنا ذلك، ورأيناه كما رآه غيرنا، كيف لا؛ وقد نصت كتب بعض المذاهب المشهورة اليوم على الكراهة، أو البطلان؟ ! وكان من نتيجة ذلك أن تجد أربعة محاريب في المسجد الجامع، يصلي فيها أئمة أربعة متعاقبين، وتجد أناساً ينتظرون إمامهم

ص: 22

بينما الإمام الآخر قائم يصلي!

بل لقد وصل الخلاف إلى ما هو أشد من ذلك عند بعض المقلدين؛ مثاله منع التزاوج بين الحنفي والشافعية، ثم صدرت فتوى من بعض المشهورين عند الحنفية-وهو الملقب بـ:(مفتي الثقلين) -؛ فأجاز تزوج الحنفي بالشافعية، وعلل ذلك بقوله:

«تنزيلاً لها منزلة أهل الكتاب» ! ومفهوم ذلك-ومفاهيم الكتب معتبرة عندهم- أنه لا يجوز العكس، وهو تزوج الشافعي بالحنفية؛ كما لا يجوز تزوج الكتابي بالمسلمة! !

هذان مثالان من أمثلة كثيرة، توضح للعاقل الأثر السيء الذي كان نتيجة اختلاف المتأخرين وإصرارهم عليه؛ بخلاف السلف، فلم يكن له أي أثر سيء في الأمة؛ ولذلك فهم في منجاة من أن تشملهم آيات النهي عن التفرق في الدين؛ بخلاف المتأخرين. هدانا الله جميعاً إلى صراطه المستقيم.

وليت أن اختلافهم المذكور انحصر ضرره فيما بينهم، ولم يتعده إلى غيرهم من أمة الدعوة، إذن؛ لهان الخطب بعض الشيء، ولكنه-ويا للأسف! - تجاوزهم إلى غيرهم من الكفار في كثير من البلاد والأقطار، فصدوهم بسبب اختلافهم عن الدخول في دين الله أفواجاً! جاء في كتاب «ظلام من الغرب» للأستاذ الفاضل محمد الغزالي (ص 200) ما نصه:

«حدث في المؤتمر الذي عقد في جامعة «برينستون» بأمريكا أن أثار أحد المتحدثين سؤالاً- كثيراً ما يثار في أوساط المستشرقين، والمهتمين بالنواحي

ص: 23

الإسلامية-؛ قال:

بأي التعاليم يتقدم المسلمون إلى العالم؛ ليحددوا الإسلام الذي يدعون إليه؟

أبتعاليم الإسلام كما يفهمها السنيون؟ أم بالتعاليم التي يفهمها الشيعة من إمامية، أو زيدية؟

ثم إن كلاً من هؤلاء وأولئك مختلفون فيما بينهم.

وقد يفكر فريق منهم في مسألة ما تفكيراً تقدمياً محدوداً، بينما يفكر آخرون تفكيراً قديماً متزمتاً.

والخلاصة؛ أن الداعين إلى الإسلام يتركون المدعوين إليه في حيرة؛ لأنهم هم أنفسهم في حيرة».

وفي مقدمة رسالة «هدية السلطان إلى مسلمي بلاد جابان» للعلامة محمد سلطان المعصومي رحمه الله تعالى:

«إنه كان ورد علي سؤال من مسلمي بلاد جابان-يعني: اليابان- من بلدة (طوكيو) و (أوصاكا) في الشرق الأقصى، حاصله:

ما حقيقة دين الإسلام؟ ثم ما معنى المذهب؟ وهل يلزم من تشرف بدين الإسلام أن يتمذهب على أحد المذاهب الأربعة؟ أي: أن يكون مالكياً، أو حنفياً، أو شافعياً، أو غيرها، أو لا يلزم؟

لأنه قد وقع هنا اختلاف عظيم، ونزاع وخيم؛ حينما أراد عدة أنفار من

ص: 24

متنوري الأفكار من رجال (يابونيا) أن يدخلوا في دين الإسلام، ويتشرفوا بشرف الإيمان، فعرضوا ذلك على جمعية المسلمين الكائنة في (طوكيو). فقال جمع من أهل الهند:

ينبغي أن يختاروا مذهب الإمام أبي حنيفة؛ لأنه سراج الأمة.

وقال جمع من أهل أندونيسيا (جاوا):

يلزم أن يكون شافعياً! فلما سمع الجابانيون كلامهم؛ تعجبوا جداً، وتحيروا فيما قصدوا، وصارت مسألة المذاهب سداً في سبيل إسلامهم! ».

3 -

ويزعم آخرون أن معنى هذا الذي تدعون إليه من الاتباع للسنة، وعدم الأخذ بأقوال الأئمة المخالفة لها؛ ترك الأخذ بأقوالهم مطلقاً، والاستفادة من اجتهاداتهم وآرائهم.

فأقول: إن هذا الزعم أبعد ما يكون عن الصواب؛ بل هو باطل ظاهر البطلان، كما يبدو ذلك جلياً من الكلمات السابقة؛ فإنها كلها تدل على خلافه، وأن كل الذي ندعو إليه إنما هو ترك اتخاذ المذاهب ديناً، ونصبها مكان الكتاب والسنة؛ بحيث يكون الرجوع إليها عند التنازع، أو عند إرادة استنباط أحكام جديدة لحوادث طارئة؛ كما يفعل متفقهة هذا الزمان، وعليه وضعوا الأحكام الجديدة للأحوال الشخصية، والنكاح والطلاق، وغيرها؛ دون أن يرجعوا فيها إلى الكتاب والسنة، ليعرفوا الصواب منها من الخطأ، والحق من الباطل، وإنما على طريقة:«اختلافهم رحمة» ! وتتبع الرخص، والتيسير، أو المصلحة-زعموا-، وما أحسن قول سليمان التيمي رحمه الله

ص: 25

تعالى:

«إن أخذت برخصة كل عالم؛ اجتمع فيك الشر كله» .

رواه ابن عبد البر (2/ 91 - 92)، وقال عقبه:

«هذا إجماع لا أعلم فيه خلافاً» .

فهذا الذي ننكره، وهو وفق الإجماع-كما ترى-.

وأما الرجوع إلى أقوالهم، والاستفادة منها، والاستعانة بها على تفهم وجه الحق فيما اختلفوا فيه، مما ليس عليه نص في الكتاب والسنة، أو ما كان منها بحاجة إلى توضيح؛ فأمر لا ننكره، بل نأمر به، ونحض عليه؛ لأن الفائدة منه مرجوة لمن سلك سبيل الاهتداء بالكتاب والسنة.

قال العلامة ابن عبد البر رحمه الله تعالى (2/ 172):

«فعليك يا أخي! بحفظ الأصول والعناية بها، واعلم أن من عني بحفظ السنن والأحكام المنصوصة في القرآن، ونظر في أقاويل الفقهاء-فجعله عوناً له على اجتهاده، ومفتاحاً لطرائق النظر، وتفسيراً لجمل السنن المحتملة للمعاني-، ولم يقلد أحداً منهم تقليد السنن، التي يجب الانقياد إليها على كل حال دون نظر، ولم يرح نفسه مما أخذ العلماء به أنفسهم من حفظ السنن وتدبرها، واقتدى بهم في البحث والتفهم والنظر، وشكر لهم سعيهم فيما أفادوه ونبهوا عليه، وحمدهم على صوابهم الذي هو أكثر أقوالهم، ولم يبرئهم من الزلل؛ كما لم يبرئوا أنفسهم منه؛ فهذا هو الطالب المتمسك بما عليه السلف الصالح، وهو المصيب لحظه، والمعاين لرشده، والمتبع لسنة نبيه صلى الله عليه وآله وسلم -

ص: 26

وهدي صحابته رضي الله عنهم.

ومن أعف نفسه من النظر، وأضرب عما ذكرنا، وعارض السنن برأيه، ورام أن يردها إلى مبلغ نظره؛ فهو ضال مضل، ومن جهل ذلك كله أيضاً، وتقحم في الفتوى بلا علم؛ فهو أشد عمى، وأضل سبيلاً».

فهذا الحق ليس به خفاء

فدعني من بنيات الطريق

4 -

ثم إن هناك وهماً شائعاً عند بعض المقلدين، يصدهم عن اتباع السنة، التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها، وهو ظنهم أن اتباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب، والتخطئة معناها عندهم: الطعن في الإمام، ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز؛ فكيف في إمام من أئمتهم؟ !

والجواب: أن هذا المعنى باطل؛ وسببه الانصراف عن التفقه في السنة، وإلا؛ فكيف يقول ذلك المعنى مسلم عاقل؟ ! ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم هو القائل:

«إذا حكم الحاكم، فاجتهد، فأصاب؛ فله أجران، وإذا حكم فاجتهد، فأخطأ؛ فله أجر واحد» .

فهذا الحديث يرد ذلك المعنى، ويبين بوضوح لا غموض فيه أن قول القائل:(أخطأ فلان) معناه في الشرع: (أثيب فلان أجراً واحداً)، فإذا كان مأجوراً في رأي من خطأه، فكيف يتوهم من تخطئته إياه الطعن فيه؟ ! لا شك أن هذا التوهم أمر باطل، يجب على كل من قام به أن يرجع عنه، وإلا؛ فهو الذي يطعن في المسلمين، وليس في فرد عادي منهم، بل في كبار أئمتهم؛ من الصحابة، والتابعين، ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم، فإننا نعلم

ص: 27

يقيناً أن هؤلاء الأَجِلَّة كان يُخَطِّئ بعضهم بعضاً، ويرد بعضهم على بعض، فيقول عاقل: إن بعضهم كان يطعن في بعض. بل لقد صح أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم خطأ أبا بكر رضي الله عنه في تأويله لرؤيا كان رآها رجل، فقال صلى الله عليه وآله وسلم له:

«أصبت بعضاً، وأخطأ بعضاً» فهل طعن صلى الله عليه وآله وسلم في أبي بكر بهذه الكلمة؟ !

ومن عجيب تأثير هذا الوهم على أصحابه؛ أنه يصدهم عن اتباع السنة المخالفة لمذهبهم؛ لأن اتباعهم إياها معناه عندهم: الطعن في الإمام، وأما اتباعهم إياه- ولو في خلاف السنة- فمعناه احترامه: وتعظيمه! ولذلك فهم يصرون على تقليده؛ فراراً من الطعن الموهوم.

ولقد نسي هؤلاء-ولا أقول: تناسوا- أنهم بسبب هذا الوهم؛ وقعوا فيما هو شر مما منه فروا، فإنه لو قال لهم قائل: إذا كان الاتباع يدل على احترام المتبوع، ومخالفته تدل على الطعن فيه؛ فكيف أجزتم لأنفسكم مخالفة سنة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وترك اتباعها إلى اتباع إمام المذهب في خلاف السنة، وهو غير معصوم، والطعن فيه ليس كفراً؟ ! فلئن كان عندكم مخالفة الإمام تعتبر طعناً فيه؛ فمخالفة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أظهر في كونها طعناً فيه؛ بل ذلك هو الكفر بعينه-والعياذ بالله منه-. لو قال لهم ذلك قائل؛ لم يستطيعوا عليه جواباً؛ اللهم! إلا كلمة واحدة- طالما سمعناها من بعضهم-وهي قولهم: إنما تركنا السنة؛ ثقة منا بإمام المذهب، وأنه أعلم بالسنة منا.

وجوابنا على هذه الكلمة من وجوه يطول الكلام عليها في هذه المقدمة؛ ولذلك فإني أقتصر على وجه واحد منها، وهو جواب فاصل بإذن الله، فأقول:

ص: 28

ليس إمام مذهبكم فقط هو أعلم منكم بالسنة؛ بل هناك عشرات؛ بل مئات الأئمة هم أعلم أيضاً منكم بالسنة، فإذا جاءت السنة الصحيحة على خلاف مذهبكم- وكان قد أخذ بها أحد من أولئك الأئمة-؛ فالأخذ بها-والحالة هذه- حتم لازم عندكم؛ لأن كلمتكم المذكورة لا تنفق هنا، فإن مخالفكم سيقول لكم معارضاً: إنما أخذنا بهذه السنة؛ ثقة منا بالإمام الذي أخذ بها؛ فاتباعه أولى من اتباع الإمام الذي خالفها. وهذا بين لا يخفى على أحد إن شاء الله تعالى.

ولذلك؛ فإني أستطيع أن أقول:

إن كتابنا هذا لما جمع السنن الثابتة عنه صلى الله عليه وآله وسلم في صفة صلاته؛ فلا عذر لأحد في ترك العمل بها؛ لأنه ليس فيه ما اتفق العلماء على تركه-حاشاهم من ذلك-؛ بل ما من مسألة وردت فيه؛ إلا وقد قال بها طائفة منهم، ومن لم يقل بها؛ فهو معذور، ومأجور أجراً واحداً؛ لأنه لم يرد إليه النص بها إطلاقاً، أو ورد لكن بطريق لا تقوم عنده به الحجة، أو لغير ذلك من الأعذار المعروفة لدى العلماء.

وأما من ثبت النص عنده من بعده؛ فلا عذر له في تقليده؛ بل الواجب اتباع النص المعصوم، وذلك هو المقصود من هذه المقدمة، والله عز وجل يقول:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} [الأنفال: 24].

والله يقول الحق، وهو يهدي السبيل، وهو نعم المولى ونعم النصير. وصلى الله على محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

صفة صلاة النبي (1/ 21 - 52) مع تصرف بحذف الحواشي

ص: 29