الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فى الزمان] خلافة الامام على بن أبى طالب كرّم الله وجهه
325 - كتاب الإمام على إلى عثمان بن حنيف
وبويع الإمام على كرم الله وجهه بالخلافة، لخمس بقين من ذى الحجّة سنة 35 هـ، فبعث عمّاله على الأمصار، فكان عامله على البصرة عثمان بن حنيف الأنصارى، ثم بلغه أن ابن حنيف دعى إلى وليمة قوم من أهلها فمضى إليها، فكتب إليه الإمام علىّ:
«أما بعد: يابن حنيف، فقد بلغنى أن رجلا من فتية (1) أهل البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان (2)، وتنقل إليك الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قوم (3)، عائلهم مجفوّ، وغنيّهم مدعوّ، فانظر إلى ما تقضمه (4) من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه، وما أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإن لكلّ مأموم إماما يقتدى به، ويستضئ بنور علمه، ألا وإن إمامكم
(1) أى من شبابها أو من أسخيائها، يقال للسخى: هذا فتى، ويروى «أن رجلا من قطان البصرة» أى سكانها، والمأدبة: طعام يصنع لدعوة أو عرس، وأدبهم كضرب: دعاهم إلى طعامه.
(2)
تستطاب: يطلب لك طيبها، والألوان. أصناف الطعام، والجفان: جمع جفنة بالفتح وهى القصعة ويروى «وكثرت عليك الجفان فكرعت وأكلت أكل ذئب نهم، أو ضبع قرم» وكرع فى الماء أو فى الإناء كمنع وسمع: تناوله بفيه من موضعه من غير أن يشرب بكفيه ولا بإناء، وقرم كفرح شديد شهوة اللحم.
(3)
وروى «وما حسبتك تأكل طعام قوم
…
» والعائل: الفقير.
(4)
قضم كسمع: أكل بأطراف أسنانه (أو أكل يابسا) والمراد الأكل مطلقا، والمقضم:
المأكل، ولفظه وبه كضرب وسمع: رماه وطرحه.
قد اكتفى من دنياه بطمريه (1)، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينونى بورع واجتهاد، وعفّة وسداد، فو الله ما كنزت من دنياكم تبرا، ولا ادّخرت من غنائمها وفرا، ولا أعددت لبالى ثوبى طمرا (2)، ولا حزت من أرضها شبرا، ولا أخذت منها إلّا كقوت أتان دبرة (3)، ولهى فى عينى أوهى وأهون من عفصة مقرة، بلى كانت فى أيدينا «فدك (4)» من كل ما أظلّته السماء فشحّت عليها نفوس قوم (5)، وسخت عنها نفوس قوم آخرين، ونعم الحكم الله، وما أصنع بفدك وغير فدك؟ والنفس مظلّتها فى غد جدث (6)، تنقطع فى ظلمته
(1) الطمر: الثوب الخلق البالى، والطعم: الطعام، وروى «قد اكتفى من الدنيا بطمريه، وسد فورة جوعه بقرصيه، لا يطعم الفلذة فى حوليه إلا فى يوم أضحيته» - والفلذة بالكسر: القطعة من اللحم.
والتبر: فتات الذهب والفضة قبل أن يصاغا، والوفر: المال الكثير الواسع.
(2)
يقسم أنه ما أعد ثوبا باليايلبسه بدلا عن ثوبه الذى يبلى، فضلا عن أن يعد ثوبا قشيبا جديدا كما يفعل الناس.
(3)
هى التى عقر ظهرها فقل أكلها، أو هى أضعف. وأهون: أخس. والعفص:
الذى يتخذ منه الحبر، ويدبغ به، ومقرة: أى مرة، مقر الشئ بالكسر وأمقر: صار مرا.
(4)
فدك: قرية بخيبر فيها عين ونخل كثير، بينها وبين المدينة يومان، أفاءها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم سنة سبع صلحا، فكانت خالصة له ينفق ما يأتيه منها فى أبناء السبيل، فلما قبض عليه الصلاة والسلام جاءت فاطمة رضى الله عنها أبا بكر رضى الله عنه تطلب ميراثها من أبيها، وهو أرضه من فدك وسهمه من خيبر، فقال لها أبو بكر: أما إنى سمعت رسول الله يقول: نحن معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا فهو صدقة، إنما يأكل آل محمد من هذا المال، وإنى والله لا أدع أمرا رأيت رسول الله يصنعه إلا صنعته، فهجرته فاطمة فلم تكلمه فى ذلك حتى ماتت، وروى أنه قال لها: سمعت رسول الله يقول:
إنما هى طعمة أطعمنيها الله تعالى حياتى، فاذا مت فهى بين المسلمين. وروى أيضا أنها قالت له: إن رسول الله جعل لى فدك فأعطنى إياها، وشهد لها على بن أبى طالب رضى الله عنه، فسألها شاهدا آخر، فشهدت لها أم أيمن مولاة رسول الله، فقال: قد علمت يا بنت رسول الله أنه لا يجوز إلا شهادة رجلين أو رجل وامرأتين، فانصرفت، كما روى أيضا أن فاطمة سألت أباها أن يهبها لها، فأبى وقال: ما كان لك أن تسألينى، وما كان لى أن أعطيك، ثم أدى اجتهاد عمر لما ولى الخلافة وفتحت الفتوح واتسعت على المسلمين أن يردها إلى ورثة رسول الله، فكان على والعباس بن عبد المطلب يتنازعان فيها، فكان على يقول:
إن رسول الله جعلها فى حياته لفاطمة، وكان العباس يأبى ذلك ويقول: هى ملك رسول الله وأنا وارثه، فكانا يتخاصمان إلى عمر فيأبى أن يحكم بينهما ويقول: أنتما أعرف بشأنكما، أما أنا فقد سلمتها إليكما، وسنعود إلى استيفاء الكلام فى هذا الموضوع فى الجزء الثانى فى (خلافة عمر بن عبد العزيز) إن شاء الله.
(5)
يعنى العباس كما تقدم لك، وسخت عنها: أى أغصت وسامحت، يعنى نفسه.
(6)
مظان جمع مظنة: وهى الموضع الذى يظن فيه وجود الشئ، والجدث: القبر، والمدر: قطع الطين اليابس، وضغطه: زحمه وعصره وضيق عليه، وأضغطها الحجر: أى جعلها ضاغطة للميت عاصرة له
آثارها، وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد فى فسحتها، وأوسعت يدا حافرها، لأضغطها الحجر والمدر، وسدّ فرجها التراب المتراكم، وإنما هى نفسى أروضها (1) بالتقوى، لتأتى آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبّت على جوانب المزلق.
ولو شئت لا هتديت الطريق إلى مصفّى هذا العسل. ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القزّ، ولكن هيهات أن يغلبنى هواى، ويقودنى جشعى (2) إلى تخير الأطعمة، ولعلّ بالحجاز وباليمامة من لا طمع له فى القرص، ولا عهد له بالشّبع، أو أبيت مبطانا وحولى بطون غرثى، وأكباد حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك عارا أن تبيت ببطنة
…
وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ (3)
أأقنع من نفسى بأن يقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم فى مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم فى جشوبة العيش (4)؟ فما خلقت ليشغلنى أكل الطيّبات.
كالبهيمة المربوطة، همّها علفها، أو المرسلة شغلها تقمّمها (5)، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدّى وأهمل عابثا، أو أجرّ حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة (6).
(1) أروضها: أذللها، والمزلق: أى الموضع الذى يخشى فيه الزلق والزلل وهو الصراط.
(2)
الجشع: شدة الحرص، والمبطان: الذى لا يزال عظيم البطن من كثرة الأكل، وغرثى:
جائعة، مؤنث غرثان، وفعله كفرح، وحرى: عطشى، مؤنث حران وفعله كظل، وروى «ولو شئت لاهتديت إلى هذا العسل المصفى، ولباب هذا البر المنقى، فضربت هذا بذاك حتى ينضج وقودا، ويستحكم معقودا» وروى «ولعل بالمدينة يتيما تربا، يتضور سغبا، أبيت مبطانا وحولى بطون غرثى. إذن يحضرنى يوم القيامة وهم من ذكر وأنثى» - والترب كفرح: الفقير، والتضور التلوى من وجع الجوع، والسغب كسبب وشمس: الجوع.
(3)
البطنة: الكظة بالكسر، وذلك أن يمتلئ الانسان من الطعام امتلاء شديدا، والقد بالكسر الشئ المقدود: أى المقطوع، من قده قدا بالفتح إذا قطعه، والقدة بالكسر: القطعة من الشئ. والمعنى أنها تحن إلى كسرة من خبز أو فلذة من لحم
…
، والبيت لحاتم بن عبد الله الطائى.
(4)
الأسوة بالضم والكسر: القدوة، والجشوبة: الخشونة
(5)
نقممها: أى تتبعها القمامات. أى الكناسات والتقاطها، أو أكلها ما بين يديها بمقمتها والمقمة (كمكنسة وتفتح) لذوات الظلف كالثور: الشفة، وتكترش: أى تملأ كرشها.
(6)
اعتسف: ركب الطريق على غير هدى، والمتاهة: الأرض يتاه فيها.
وكأنى بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبى طالب، فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران، ومنازلة الشّجعان، ألا وإن الشجرة البرّيّة أصلب عودا (1)، والروائح الخضرة أرق جلودا، والنابتات البدوية (2) أقوى وقودا: وأبطأ خمودا، وأنا من رسول الله كالصّنو من الصّنو (3)، والذراع من العضد، والله لو تظاهرت العرب على قتالى لما وليّت عنها، ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجهد فى أن أطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس (4)، والجسم المركوس، حتى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.
إليك عنى يا دنيا، فحبلك على غاربك (5)، قد انسللت من مخالبك، وأفلتّ من حبائلك، واجتنبت الذّهاب فى مداحضك، أين القوم الذين غررتهم بمداعبك؟
أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك، هاهم رهائن القبور، ومضامين اللّحود، والله لو كنت شخصا مرئيّا، وقالبا حسّيّا، لأقمت عليك حدود الله فى عباد غررتهم بالأمانى، وأمم ألقيتهم فى المهاوى، وملوك أسلمتهم إلى التّلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر (6)، هيهات! من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن ازورّ عن حبائلك وفّق، والسالم منك لا يبالى إن ضاق به مناخه،
(1) الشجرة البرية التى تنبت فى البر الذى لا ماء فيه، فهى أصلب عودا من الشجرة التى تنبت فى الأرض الندية، والروائع الخضرة: أى الأشجار والأعشاب التى يروعك (أى يعجبك) حسنها.
(2)
ورواية ابن أبى الحديد «والنابتات العذية» والعذى بكسر فسكون: الزرع الذى لا يسقى إلا من ماء المطر لبعده من المياه، وهو يأخذ من الماء أقل من النبت سقيا.
(3)
إذا خرجت نخلتان أو ثلاث من أصل واحد، فكل واحدة منهن صنو، والاثنان صنوان، والجمع صوان برفع النون، ورواه ابن أبى الحديد «كالضوء من الضوء» وشرحه فقال: «وذلك لأن الضوء الأول يكون علة فى الضوء الثانى
…
الخ» وأفاض فى ذلك وأطنب، وتكلف فيه تكلفا لا داعى إليه.
(4)
عنى به معاوية، والمراد انعكاس عقيدته وأنها ليست عقيدة هدى، بل هى معاكسة للحق والصواب، والمركوس من الركس: وهو رد الشئ مقلوبا، وقلب أوله على آخره، والمدرة: قطعة الطين اليابس، وحب الحصيد: أى حب النبات المحصود، والمعنى: حتى يتطهر الدين وأهله منه.
(5)
الغارب: الكاهل وما بين السنام والعنق، والجملة كناية من كنايات الطلاق: أى اذهبى حيث شئت، والمداحض: المزالق، والمداعب جمع مدعبة، من الدعابة بالضم وهى المزاح، ومضامين المحود: أى قد تضمنتهم اللحود وحوتهم.
(6)
الورد: ورود الماء، والصدر: الصدور عنه بعد الشرب، ومكان دحض: أى زلق لا تثبت فيه الأرجل، وازور: مال وانحرف.