الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثم قدمت مكة فسمعت أهلها يتحدثون أن الضّحّاك بن قيس أغار على الحيرة (1) فاحتمل من أموال أهلها ما شاء، ثم انكفأ راجعا سالما، فأفّ لحياة فى دهر جرّأ عليك الضّحّاك! وما الضّحّاك؟ وهل هو إلّا فقع بقرقرة (2) وقد وطئت؟
وبلغنى أن أنصارك قد خذلوك، فاكتب إلىّ يابن أمّ برأيك، فإن كنت الموت تريد، تحمّلت إليك ببنى أخيك وولد أبيك، فعشنا معك ما عشت، ومتنا معك إذا متّ، فو الله ما أحبّ أن أبقى فى الدنيا بعدك فواقا (3)، وأقسم بالله الأعزّ الأجل، إن عيشا أعيشه فى هذه الدنيا بعدك لعيش غير هنئ ولا مرئ ولا نجيع (4)، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته».
(شرح ابن أبى الحديد م 1: ص 155، والأغانى 15: 44، والإمامة والسياسة 1: 43)
546 - رد علىّ على عقيل
فكتب إليه علىّ عليه السلام:
«من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى عقيل بن أبى طالب:
سلام الله عليك، فإنى أحمد إليك الله الذى لا إله إلا هو، أما بعد: كلأنا (5) الله وإياك كلاءة من يخشاه بالغيب إنه حميد مجيد، فقد قدم علىّ عبد الرحمن بن عبيد
(1) وكان ذلك سنة 39 هـ؛ دعاه معاوية فقال له: سر حتى تمر بناحية الكوفة وترتفع عنها ما استطعت، فمن وجدته من الأعراب فى طاعة على فأغر عليه، وإن وجدت له مسلحة أو خيلا فأغر عليها، فسرحه فيما بين ثلاثة آلاف إلى أربعة آلاف، فأقبل الضحاك فنهب الأموال، وقتل من لقى من الأعراب، ومر بالثعلبية، فأغار على مسالح على وأخذ أمتعتهم، ومضى حتى انتهى إلى القطقطانة، فأتى عمرو ابن عميس بن مسعود- وهو ابن أخى عبد الله بن مسعود- وكان فى خيل لعلى وأمامه أهله، وهو يريد الحج، فقتله وقتل ناسا من أصحابه، فلما بلغ ذلك عليا سرح حجر بن عدى الكندى فى أربعة آلاف، فلم يزل مغذا فى أثر الضحاك، حتى لقيه بناحية تدمر، فواقعه فاقتتلوا ساعة، فقتل من أصحاب الضحاك تسعة عشر رجلا، وقتل من أصحاب حجر رجلان، وحجز الليل بينهم، فهرب الضحاك وأصحابه، فلما أصبحوا لم يجدوا لهم أثرا- انظر شرح ابن أبى الحديد م 1: ص 154 وتاريخ الطبرى 6: 78 - .
(2)
انظر ص 409.
(3)
الفوق: بالضم ويفتح: ما بين الحلبتين من الوقت، يقال: ما أقام عنده إلا فواقا.
(4)
نجع للطعام كمنع نجوعا: هنأ آكله.
(5)
كلأه كمنعه: حرسه.
الأزدىّ بكتابك تذكر فيه أنك لقيت عبد الله بن سعد ابن أبى سرح مقبلا من قديد (1) فى نحو من أربعين شابّا من أبناء الطّلقاء، متوجّهين إلى جهة المغرب، وإنك تنبئ عن ابن أبى سرح! طالما كاد الله ورسوله وكتابه، وصدّ عن سبيله، وبغاها عوجا (2)، فدع ابن أبى سرح عنك، ودع قريشا وخلّهم وتركاضهم فى الضلال، وتجوالهم فى الشّقاق، وجماحهم فى التّيه، فإن قريشا قد أجمعت على حرب أخيك اليوم إجماعها على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل اليوم، فأصبحوا قد جهلوا حقّه، وجحدوا فضله، وكادوه بالعداوة، ونصبوا له الحرب، وحهدوا عليه كل الجهد، وجرّوا إليه جيش الأحزاب، وجدّوا فى إطفاء نور الله، اللهم فاجز عنى قريشا الجوازى (3)، فقد قطعت رحمى، وتظاهرت (4) علىّ، ودفعتنى عن حقى، وسلبتنى سلطان ابن أمى (5)، وسلّمت ذلك إلى من ليس مثلى فى قرابتى من الرسول، وسابقتى فى الإسلام، إلّا أن يدّعى مدّع ما لا أعرفه، ولا أظن الله يعرفه، والحمد لله على كل حال.
(1) قديد: اسم موضع قرب مكة.
(2)
من خبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان فى غزوة الفتح قد عهد إلى أمرائه من المسلمين حين أمرهم أن يدخلوا مكة، أن لا يقتلوا أحدا إلا من قاتلهم، إلا أنه قد عهد فى نفر سماهم، أمر بقتلهم وإن وجدوا تحت أستار الكعبة، منهم عبد الله بن سعد بن أبى سرح أخو بنى عامر بن لؤى وإنما أمر رسول الله بقتله، لأنه قد كان أسلم، وكان يكتب لرسول الله الوحى، فارتد مشركا راجعا إلى قريش- ففر إلى عثمان وكان أخاه من الرضاع، فغيبه حتى أتى به رسول الله بعد أن اطمأن أهل مكة، فاستأمنه له، فصمت رسول الله طويلا ثم قال: نعم، فلما انصرف به عثمان، قال رسول الله لمن حوله من أصحابه: أما والله لقد صمت ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه، فقال رجل من الأنصار فهلا أو مأت إلى يا رسول الله! قال: إن النبى لا يقتل بالإشارة- انظر تاريخ الطبرى 3: 119 وسيرة ابن هشام 2: 271.
(3)
الجوازى جمع جازية: والجازية، الجزاء مصدر على فاعلة كالعافية، ويجوز أن يكون لجوازى جمع جزاء لمشابهة اسم الفاعل للمصدر، فكما جمع سيل على سوائل كذلك يجوز أن يكون الجوازى جمع جزاء، والمعنى: اللهم اجز قريشا عنى ما تستحقه من الجزاء لما صنعت بى.
(4)
أى تعاونت.
(5)
يعنى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأم على هى فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف، وقد أسلمت بعد عشر من المسلمين فكانت الحادى عشر، وكان رسول الله يكرمها ويعظمها ويدعوها «أمى» وقد قال: لم يكن أحد بعد أبى طالب أبر بى منها- انظر شرح ابن أبى الحديد م 1: ص 5 وقال ابن أبى الحديد فى تعليل التعبير «بابن أمى» لأنهما ابنا فاطمة بنت عمرو عمران بن عائذ بن مخزوم أم عبد الله وأبى طالب، ولم يقل سلطان ابن أبى، لأن غير أبى طالب من الأعمام يشركه فى النسب إلى عبد المطلب» -
وأما ما ذكرت من غارة الضّحاك بن قيس على أهل الحيرة، فهو أقلّ وأذلّ من أن يلمّ (1) بها أو يدنو منها، فضلا عن الغارة، ولكنه قد كان أقبل فى جريدة خيل، فأخذ على السّماوة، حتى مرّ بواقصة وشراف، والقطقطانة وما والى ذلك الصّقع، فسرّحت إليه جيشا كثيفا من المسلمين، فلما بلغه ذلك شمّر هاربا ونكص نادما، فاتّبعوه فلحقوه ببعض الطريق، وقد أمعن فى السير، وقد طفّلت (2) الشمس للإياب، فاقتتلوا شيئا كلا ولا (3)، فما كان إلا كموقف ساعة، حتى ولى هاربا، ولم يصبر لوقع المشرفيّة (4)، وقتل من أصحابه بضعة عشر رجلا، ونجا جريضا (5) بعد ما أخذ منه بالمخنّق (6)، ولم يبق منه غير الرّمق، فلأيا بلأى (7) ما بحا.
- وأرى أن الوجه الذى ذهبت أنا إليه فى ذلك أقرب وأرجح. ومن طريف ما تعقب به ابن أبى الحديد الراوندى هنا ما يأتى: قال الراوندى: «قوله سلطان ابن أمى يعنى نفسه أى سلطانه لأنه ابن أم نفسه، وهذا من أحسن الكلام» قال ابن أبى الحديد: «ولا شبهة أنه على تفسير الراوندى لو قال «وسلبونى سلطان ابن أخت خالتى أو ابن أخت عمتى» لكان أحسن وأحسن، وهذا الرجل قد كان يحب أن يحجر عليه ولا يمكن من تفسير هذا الكتاب، ويؤخذ عليه أيمان البيعة أن لا يتعرض له».
(1)
أى يقرب، والجريدة: خيل لا رجالة فيها.
(2)
طفلت الشمس: مالت للغروب.
(3)
وفى ابن أبى الحديد «فتناوشوا القتال قليلا كلاولا» ، والعرب إذا أرادوا تقليل مدة فعل أو ظهور شئ خفى، قالوا: كان فعله كلا، وربما كرروا فقالوا: كلاولا. قال الشاعر:
* يكون نزول القوم فيها كلاولا*
(4)
المشرفية: السيوف، نسبة إلى مشارف الشام: وهى قرى من أرض العرب تدنو من الريف:
(5)
جريضا: أى مجهودا يكاد يقضى، من جرض بريقه كفرح (لا ككسر) إذا ابتلع ريقه على هم وحزن بالجهد (والجريض أيضا: الغصة) وفى المثل: «حال الجريض دون القريض» أى دون الشعر، يضرب لأمر يعوق دونه عائق، قاله جوشن الكلابى حين منعه أبوه من الشعر فمرض حزنا، فرق له وقد أشرف، فقال: انطق بما أحببت، فقاله، والحريض بالحاء: الساقط لا يقدر على النهوض.
(6)
يقال أخذه بخناقه بالكسر والضم ومخنقه أى بحلقه: محل ما يوضع الخناق بالكسر وهو الحبل يخنق به، ومن أمثالهم «بلغ منه المخنق» وهو مثل يضرب لمن يحمل عليه حتى يبلغ منتهاه، والرمق: بقية الروح.
(7)
اللأى: المشقة والشدة والجهد، وأصله البطء والاحتباس وفعله كسعى، يقولون لأيا عرفت وبعد لأى فعلت: أى بعد جهد ومشقة. قال زهير فى معلقته:
وقفت بها من بعد عشرين حجة
…
فلأيا عرفت الدار بعد توهم
وفى حديث أم أيمن «فبلأى ما استنفر لهم رسول الله» أى بعد مشقة وجهد وإبطاء، وقال الشاعر:
«فلأيا بلأى ما حملنا غلامنا» أى جهدا بعد جهد قدرنا على حمله على الفرس فهو منصوب على المصدر القائم مقام الحال كطلع بغتة وجاء ركضا وقتلته صبرا ولقيته التقاطا ورأيته عيانا والعامل فى المصدر محذوف أى نجا مبطئا مجهودا والباء فى الثانى بمعنى البعدية، وما زائدة أو مصدرية، وفى الإمامة والسياسة «فلولا الليل ما نجا» .