الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وإن طلحة والزبير بايعانى، ثم نقضا بيعتهما، وكان نقضهما كردّتهما، فجاهدتهما بعد ما أعذرت إليهما، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون، فادخل فيما دخل فيه المسلمون، فإنّ أحبّ الأمور إلىّ قبولك العافية، إلا أن تتعرّض للبلاء، فإن تعرضت له قاتلتك واستعنت بالله عليك، وقد أكثرت فى قتلة عثمان. فإن أنت رجعت عن رأيك وخلافك، ودخلت فيما دخل فيه المسلمون، ثم حاكمت القوم إلىّ، حملتك وإياهم على كتاب الله، وأما تلك التى تريدها فهى خدعة الصبى عن اللبن (1)
ولعمرى يا معاوية لئن نظرت بعقلك دون هواك، لتجدنّنى أبرأ الناس من دم عثمان، ولتعلمنّ أنى كنت فى عزلة عنه، إلا أن تتجنّى (2)، فتجنّ ما بدا لك.
واعلم أنك من الطّلقاء (3) الذين لا تحلّ لهم الخلافة، ولا تعقد معهم الإمامة، ولا يدخلون فى الشّورى، وقد بعثت إليك وإلى من قبلك جرير بن عبد الله البجلىّ، وهو من أهل الإيمان والهجرة، فبايعه، ولا قوّة إلا بالله».
(العقد الفريد 2: 233، ونهج البلاغة 2: 5، وشرح ابن أبى الحديد م 3 ص 300، م 1: ص 248، والإمامة والسياسة 1: 71)
380 - كتاب معاوية إلى عمرو بن العاص
«وقدم جرير على معاوية بكتاب علىّ، فلما أبطأ عليه معاوية برأيه، استحثه بالبيعة، فقال له معاوية: يا جرير إن البيعة ليست بخلسة، وإنه أمر له ما بعده،
(1) وذلك ما تصنعه له أمه فى أول فطامه مما يكره إليه الثدى ويلهيه عنه. وفى الحديث «الحرب خدعة» مثلثة وبضم ففتح. روى بهن جميعا: أى تنقضى بخدعة.
(2)
تجنى عليه: ادعى عليه ذنبا لم يفعله.
(3)
لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة سنة ثمان دخل الكعبة وجلس فى المسجد والناس حوله فقال: يا معشر قريش ما تظنون أنى فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء، وكان معاوية ممن أسلم فى هذا اليوم.
فأبلعنى ريقى، ودعا أهل ثقته فاستشارهم، فقال له أخوه عتبة: استعن على هذا الأمر بعمرو بن العاص، فإنه من قد عرفت، فكتب معاوية إلى عمرو، وهو بفلسطين (1):
(1) فتح عمرو بن العاص مصر فى خلافة عمر بن الخطاب، وولاه عمر عليها، وبقى كذلك واليا عليها أول خلافة عثمان، ثم إن عثمان عزله عن الخراج واستعمله على الصلاة، واستعمل على الخراج عبد الله ابن سعد بن أبى سرح- وهو أخو عثمان من الرضاع- ثم جمعهما لعبد الله بن سعد وعزل عمرا، فلما قدم عمرو المدينة جعل يطعن على عثمان، فأرسل إليه يوما عثمان خاليا به، فقال: يا بن النابغة، ما أسرع ما قمل جريان جبتك (جريان القميص بضم الجيم والراء وكسرهما وتشديد الباء: جيبه) إنما عهدك بالعمل عاما أول، أتطعن على وتأتينى بوجه وتذهب عنى بآخر؟ والله لولا أكلة ما فعلت ذلك، فقال عمرو:
إن كثيرا مما يقول الناس وينقلون إلى ولاتهم باطل، فاتق الله يا أمير المؤمنين فى رعيتك، فقال عثمان:
والله لقد استعملتك على ظلعك وكثرة القالة فيك (الظلع فى الأصل غمز البعير فى مشيه، والمراد: على ما فيك من عيب وميل) فقال عمرو: قد كنت عاملا لعمر بن الخطاب ففارقنى وهو عنى راض، فقال عثمان:
وأنا والله لو آخذتك بما آخذك به عمر لا ستقمت، ولكنى لنت لك فاجترأت على .. - فخرج عمرو من عند عثمان وهو محتقد عليه، يأتى عليا مرة فيؤلبه على عثمان، ويأتى الزبير مرة فيؤلبه على عثمان، ويأتى طلحة مرة فيؤلبه على عثمان، ويعترض الحاج فيخبرهم بما أحدث عثمان.
ولما قضد الثوار إلى المدينة أخرج لهم عثمان عليا فكلمهم فرجعوا عنه، وخطب عثمان الناس فقال «إن هؤلاء القوم من أهل مصر كان بلغهم عن إمامهم أمر، فلما تيقنوا أنه باطل ما بلغهم عنه رجعوا إلى بلادهم» فناداه عمرو بن العاص من ناحية المسجد: اتق الله يا عثمان فإنك قد ركبت نهابير (جمع نهبورة بالضم: أى مهلكة) وركبناها معك، فتب إلى الله نتب، فناداه عثمان. وإنك هناك يا بن النابغة! قملت والله جبتك منذ تركتك من العمل.
فلما كان حصر عثمان الأول خرج عمرو من المدينة حتى انتهى إلى أرض له بفلسطين يقال لها السبع فنزل بها، وكان يقول: أنا أبو عبد الله إذا حككت قرحة نكأتها، (نكأ القرحة كمنع: قشرها قبل أن تبرأ فنديت) والله إن كنت لألقى الراعى فأحرضه عليه.
فلما بلغه مقتل عثمان، قال: أنا أبو عبد الله قتلته وأنا بوادى السباع، من يلى هذا الأمر بعده؟
إن يله طلحة فهو فتى العرب سيبا (أى عطاء) وإن يله ابن أبى طالب فلا أراه إلا سيستنظف الحق (استنظف الشئ: أخذه كله، واستنظف الوالى ما عليه من الخراج: استوفاه) وهو أكره من يليه إلى، فبلغه أن عليا قد بويع له، فاشتد عليه وتربص لينظر ما يصنع الناس؟ ثم نمى إليه أن معاوية بالشأم يأبى أن يبايع عليا، وأنه يعظم قتل عثمان ويحرض على الطلب بدمه، فاستشار ابنيه عبد الله ومحمد فى الأمر وقال: ما تريان؟
أما على فلا خير عنده، وهو رجل يدل بسابقته، وهو غير مشركى فى شئ من أمره. فقال له عبد الله:
أرى أن تكف يدك وتجلس فى بيتك حتى يجتمع الناس على إمام فتبايعه، وقال له محمد: أنت ناب من أنياب العرب، فلا أرى أن يجتمع هذا الأمر وليس لك أى صوت ولا ذكر، فرجح لديه أن يلحق بمعاوية، وكتب إليه يهزه ويشير عليه بالمطالبة بدم عثمان، وكان فيما كتب به إليه:«ما كنت صانعا إذا قشرت من كل شى تملكه؟ فاصنع ما أنت صانع» فبعث إليه معاوية، فسار إليه.
(الإمامة والسياسة 1: 72، وشرح ابن أبى الحديد م 1: ص 136 وص 249)
- وذكروا أنه قال له: يا عمرو اتبعنى، قال: لماذا؟ للآخرة؟ فو الله ما معك آخرة، أم للدنيا؟
فو الله لا كان، حتى أكون شريكك فيها، قال: فأنت شريكى فيها، قال: فاكتب لى مصر وكورها طعمة، فكتب له، وكتب فى آخر الكتاب:«وعلى عمرو السمع والطاعة» قال عمرو: اكتب إن السمع والطاعة لا ينقضان من شرطه شيئا، قال معاوية: لا ينظر الناس إلى هذا، قال عمرو: حتى تكتب، فكتب، ما يجد بدا من كتابتها، وقيل إنه كتب عليه «ولا ينقض شرط طاعة» فقال عمرو: يا غلام اكتب «ولا تنقض طاعة شرطا» وقال عمرو فى ذلك:
معاوى لا أعطيك دينى ولم أنل
…
به منك دنيا، فانطرن كيف تصنع
فإن تعطنى مصرا، فأربح صفقة
…
أخذت بها شيخا يضر وينفع
(انظر تاريخ الطبرى ج 5: ص 108 - 111 وص 234، ومروج الذهب 2: 4، والعقد الفريد 2: 238، والكامل للمبرد 1: 155، وشرح ابن أبى الحديد م 1: ص 137).
أما قول عثمان لعمرو: «يا بن النابغة» فشتم له، والنابعة أم عمرو، قال ابن أبى الحديد فى شرحه (م 2: ص 100): «فأما النابغة فقد ذكر الزمخشرى فى كتاب ربيع الأبرار قال: كانت النابغة أم عمرو بن العاص أمة لرجل من عنزة (بالتحريك) فسبيت، فاشتراها عبد الله بن جدعان التيمى بمكة فكانت بغيا ثم أعتقها، فوقع عليها أبو لهب بن عبد المطلب وأمية بن خلف الجمحى وهشام بن المغيرة المخزومى وأبو سفيان بن حرب والعاص بن وائل السهمى فى طهر واحد، فولدت عمرا، فادعاه كلهم فحكمت أمه فيه، فقالت: هو من العاص بن وائل، وذاك لأن العاص كان ينفق عليها كثيرا، قالوا: وكان أشبه بأبى سفيان، وفى ذلك يقول أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطلب فى عمرو:
أبوك أبو سفيان لا شك قد بدت
…
لنا فيك منه بينات الدلائل
وقال أبو عمر بن عبد البر صاحب كتاب الاستيعاب: كان اسمها سلمى، وتلقبت بالنابغة بنت حرملة من بنى حلان بن عنزة بن أسد، أصابها سباء فصارت إلى العاص بن وائل بعد جماعة من قريش فأولدها عمرا، ويقال: إنه جعل لرجل ألف درهم على أن يسأل عمرا وهو على المنبر من أمه؟ فسأله، فقال: أمى سلمى بنت حرملة تلقب بالنابغة من بنى عنزة، أصابتها رماح العرب، فبيعت بعكاظ، فاشتراها الفاكه بن المغيرة، ثم اشتراها منه عبد الله بن جدعان، ثم صارت إلى العاص بن وائل فولدت فأنجبت، فإن كان جعل لك شيئا فخذه (انظر أيضا العقد الفريد 1: 18) وقال المبرد فى الكامل اسمها ليلى، وذكر هذا الخبر وقال: إنها لم تكن «فى موضع مرضى
…
».
ورأيى فيما روى من نسب عمرو بن العاص أن الإسلام يجب ما قبله.
(1)
فى الإمامة والسياسة: «فى رافضة» والمراد بالرافضة هنا من رفضوا طاعة على.
(2)
وفى الإمامة والسياسة «وقد حسبت» وحسبه كنصره: عده.