الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فأمّا ما سألتنى أن أكتب إليك برأيى فيما أنا فيه، فإنّ رأيى قتال المحلّين (1) حتى ألقى الله، لا يزيدنى كثرة الناس حولى عزّة، ولا تفرّقهم عنى وحشة، لأنى محقّ، والله مع المحقّ، وو الله ما أكره الموت على الحق، وما الخير كلّه إلا بعد الموت لمن كان محقّا.
وأمّا ما عرضته علىّ من مسيرك إلىّ ببنيك وبنى أبيك، فلا حاجة لى فى ذلك، فأقم راشدا محمودا، فو الله ما أحبّ أن تهلكوا معى إن هلكت، ولا تحسبنّ ان أبيك ولو أسلمه (2) الزمان والناس متضرّعا متخشّعا، ولا مقرّا للضّيم واهنا، ولا سلس الزّمام للقائد، ولا وطئ الظّهر للراكب المقتعد، ولكنه كما قال أخو بنى سليم:
فإن تسألينى كيف أنت، فإننى
…
صبور على ريب الزمان صليب (3)
يعزّ علىّ أن ترى بى كآبة
…
فيشمت عاد أو يساء حبيب
والسلام».
(الأغانى 15: 44، وشرح ابن أبى الحديد م 1: ص 155)، ونهج البلاغة 2: 43، والإمامة والسياسة 1: 44)
547 - كتاب صعصعة بن صوحان إلى عقيل بن أبى طالب
ثم غاضب عقيل أخاه ففارقه ولحق بمعاوية (4)، وقد قال له معاوية يوما: ميّز لى
(1) انظر ص 403.
(2)
أسلمه: خذله، واهنا: ضعيفا، وسلس: أى لين سهل الانقياد، وطئ الظهر: أى لينه
(3)
الصليب: الشديد، والشعر ينسب إلى العباس بن مرداس السلمى.
(4)
روى أن عقيلا لزمه دين فقدم على على الكوفة، فأنزله وأمر ابنه الحسن فكساه، فلما أمسى دعا بعشائه فإذا خبز وملح وبقل، فقال عقيل: ما هو إلا ما أرى؟ قال: لا، قال: فتقضى دينى؟
قال: وكم دينك؟ قال: أربعون ألفا، قال: ما هى عندى، ولكن اصبر حتى يخرج عطائى فإنه أربعة آلاف، فأدفعه إليك، فقال: بيوت المال بيدك، وأنت تسوفنى بعطائك؟ قال: أتأمرنى أن أدفع إليك أموال المسلمين وقد ائتمنونى عليها؟ قال: فإنى آت معاوية، فأذن له، فأتى معاوية فأكرمه وقربه وقضى حوائجه وأدى عنه دينه، وكان معاوية زوج خالته فاطمة بنت عتبة بن ربيعة- انظر أسد الغابة ج 3:
ص 423 والفخرى لابن طباطبا ص 76 والعقد الفريد 2: 109
أصحاب علىّ، وابدأ بآل صوحان، فإنهم مخاريق (1) الكلام، فوصفهم له وصفا
وسأل معاوية عقيلا يوما عن قصة الحديدة المحماة، فبكى وقال: أنا أحدثك يا معاوية عنه، ثم أحدثك عما سألت:
«نزل بالحسين ابنه ضيف فاستسلف درهما اشترى به خبزا، واحتاج إلى الإدام فطلب من قنبر خادمهم أن يفتح له زقا من زقاق عسل جاءتهم من اليمن، فأخذ منه رطلا، فلما طلبها عليه السلام ليقسمها قال:
يا قنبر أظن أنه حدث بهذا الزق حدث، فأخبره، فغضب وقال: على بحسين، فرفع عليه الدرة، فقال:
بحق عمى جعفر- وكان إذا سئل بحق جعفر سكن- فقال له: ما حملك أن أخذت منه قبل القسمة؟ قال إن لنا فيه حقا، فاذا أعطيناه رددناه- قال: فداك أبوك، إن كان لك فيه حق فليس لك أن تنتفع بحقك قبل أن ينتفع المسلمون بحقوقهم. أما لولا أنى رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقبل ثنيتك لأوجعتك ضربا، ثم دفع إلى قنبر درهما كان مصرورا فى ردائه، وقال: اشتر به خير عسل تقدر عليه، قال عقيل. والله لكأنى أنظر إلى يد على وهى على فم الزق، وقنبر يقلب العسل فيه، ثم شده وجعل يبكى ويقول: اللهم اغفر لحسين فإنه لم يعلم. فقال معاوية: ذكرت من لا ينكر فضله، رحم الله أبا حسن، فلقد سبق من كان قبله، وأعجز من يأتى بعده، هلم حديث الحديدة، قال نعم، أقويت وأصابتنى مخمصة شديدة، فسألته فلم تند صفاته، فجمعت صبيانى وجئته بهم والبؤس والضر ظاهر ان عليهم، فقال: ائتنى عشية لأدفع إليك شيئا، فجئنه يقودنى أحد ولدى- وكان عقيل قد كف بصره- فأمره بالتنحى، ثم قال: ألا فدونك، فأهويت حريصا قد غلبنى الجشع، أظنها صرة فوضعت يدى على حديدة تلتهب نارا، فلما قبضتها نبذتها وخرت كما يخور الثور تحت يد جازره، فقال لى: ثكلتك أمك، هذا من حديدة أوقدت لها نار الدنيا، فكيف بك وبى غدا إن سلكنا فى سلاسل جهنم؟ ثم قرأ:«إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ» ثم قال: ليس لك عندى فوق حقك الذى فرضه الله لك إلا ما ترى، فانصرف إلى أهلك، فجعل معاوية يتعجب ويقول هيهات هيهات! عقمت النساء أن يلدن مثله- انظر شرح ابن أبى الحديد م 3 ص 82.
وقد أورد الشريف الرضى كلمة الإمام رضى الله عنه فى هذا الصدد. «والله لأن أبيت على حسك السعدان مسهدا، أو أجر فى الأغلال مصفدا، أحب إلى من ألقى الله ورسوله يوم القيامة ظالما لبعض العباد وغاصبا لشئ من الحطام، وكيف أظلم أحدا لنفس يسرع إلى البلى قفولها، ويطول فى انثرى حلولها؟
والله لقد رأيت عقيلا وقد أملق حتى استماحنى من بركم صاعا، ورأيت صبيانه شعث الشعور غبر الألوان من فقرهم، كأنما سودت وجوههم بالعظلم (العظلم بالكسر: سواد يصنع به) وعاودنى مؤكدا، وكرر على القول مرددا، فأصغيت إليه سمعى، فظن أنى أبيعه دينى، وأتبع قياده، مفارقا طريقتى، فأحميت له حديدة ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذى دنف من ألمها، وكاد أن يحترق من ميسمها، فقلت له ثكلتك الثواكل يا عقيل، أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبه وتجرنى إلى نار سجرها (أى أضرمها) جبارها لغضبه؟ أتئن من الأذى ولا أئن من لظى؟ انظر نهج البلاغة ج 1: ص 283.
(1)
مخاريق: جمع مخراق بالكسر، وهو السيف، والسيد، والمتصرف فى الأمور الذى لا يقع فى أمر إلا خرج منه (والثور البرى يسمى مخراقا لأن الكلاب تطلبه فيفلت منها) وفلان مخراق حرب:
أى صاحب حروب يخف فيها.
امتدحهم فيه بما هم أهله (1)، فاتصل كلام عقيل بصعصعة بن صوحان، فكتب إليه:
«بسم الله الرحمن الرحيم، ذكر الله أكبر، وبه يستفتح المستفتحون، وأنتم مفاتيح الدنيا والآخرة:
أما بعد: فقد بلغ مولاك (2) كلامك لعدوّ الله وعدوه، فحمدت الله على ذلك وسألته أن يفئ (3) بك إلى الدرجة العليا، والقضيب الأحمر، والعمود الأسود، فإنه عمود من فارقه فارق الدّين الأزهر، ولئن نزعت (4) بك نفسك إلى معاوية طلبا لماله، إنك لذو علم بجميع خصاله، فاحذر أن تعلق بك ناره، فيضلّك عن المحجّة (5)، فإن الله قد رفع عنكم أهل البيت ما وضعه فى غيركم، فما كان من فضل أو إحسان فيكم وصل إلينا، فأجلّ الله أقداركم، وحمى أخطاركم (6)، وكتب آثاركم، فإنّ أقداركم مرضيّة، وأخطاركم محميّة، وآثاركم بدريّة، وأنتم سلّم الله إلى خلقه، ووسيلة إلى طرقه، أيد عليّة، ووجوه جليّة: وأنتم كما قال الشاعر (7):
فما كان من خير أتوه فإنما
…
توارثه آباء آبائهم قبل
وهل ينبت الخطّىّ إلا وشيجه
…
وتغرس إلّا فى منابتها النخل؟
(مروج الذهب 2: 76)
(1) قال فيهم: «أما صعصعة فعظيم الشأن، عضب اللسان، قائد فرسان، قاتل أقران، يرتق مافتق، ويفتق مارتق، قليل النظير، وأما زيد وعبد الله فإنهما نهران جاريان، نصب فيهما الخلجان ويغاث بهما البلدان، رجلا جد لا لعب معه، وأما بنو صوحان فكما قال الشاعر:
إذا نزل العدو فإن عندى
…
أسودا تخلس الأسد النفوسا
(2)
مولاك هنا، معناه عبدك: يعنى نفسه.
(3)
فاء يفئ: رجع.
(4)
نزعت: مالت واشتاقت.
(5)
المحجة: جادة الطريق.
(6)
أى أقداركم: جمع خطر بالتحريك.
(7)
هو زهير بن أبى سلمى، والبيتان من أبيات قالها فى مدح هرم بن سنان، والخطى: الرمح نسبة إلى الخط: وهو مرفأ السفن بالبحرين، نسبت إليه الرماح لأنها كانت تباع به لا أنه منبتها، والوشيج شجر الرماح.