الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وصهره (1)، فقطعت رحمه، وقبّحت محاسنه، وألّبت عليه الناس، وبطينت وظهرت حتى ضربت إليه آباط (2) الإبل، وشهر عليه السلاح فى حرم الرسول، فقتل معك فى المحلّة وأنت تسمع فى داره الهائعة (3)، لا تؤدّى عن نفسك فى أمره بقول، ولا فعل برّ (4)، وأقسم قسما صادقا: لو قمت فى أمره مقاما واحدا تنهنه (5) الناس عنه، ما عدل بك من قبلنا من الناس أحدا، ولمحا ذلك عنك ما كانوا يعرفونك (6) به من المجانية لعثمان والبغى عليه، وأخرى أنت بها عند أولياء ابن عفان ظنين: إيواؤك قتلة عثمان، فهم بطانتك وعضدك وأنصارك، وقد بلغنى أنك تنتفى من دمه، فإن كنت صادقا فادفع إلينا قتلته نقتلهم به، ثم نحن أسرع الناس إليك، وإلّا فليس لك ولأصحابك عندنا إلا السيف، والذى نفس معاوية بيده: لأطلبنّ قتلة عثمان فى الجبال والرمال والبر والبحر حتى نقتلهم، أو تلحق أرواحنا بالله».
(العقد الفريد 2: 233، وصبح الأعشى 1: 228، وشرح ابن أبى الحديد م 3: ص 407)
424 - رد علىّ على معاوية
فكتب إليه على:
«من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبى سفيان:
أما بعد: فإن أخا خولان قدم علىّ بكتاب منك تذكر فيه محمدا صلى الله عليه وآله، وما أنعم الله به عليه من الهدى والوحى، فالحمد لله الذى صدقه الوعد، وأبّده
(1) أى ومصاهرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقد تزوج ابنتى الرسول رقية وأم كلثوم.
(2)
آباط جمع إبط كحمل وتكسر الباء: وهو باطن المنكب، أى حتى سار الثوار إليه.
(3)
الهائعة: الصوت تفزع منه.
(4)
فى ابن أبى الحديد «لا ترد الظن والتهمة عن نفسك بقول ولا عمل» .
(5)
تنهنه: تكف، وما عدل بك: أى ما سوى بك.
(6)
هكذا فى الأصول، والمعنى عليه صحيح، وربما كان «يقرفونك به» أى يتهمونك به وبابه ضرب، والظنين: المتهم.
بالنصر، ومكّن له فى البلاد، وأظهره على أهل العداوة والشّنآن (1) من قومه الذين وثبوا عليه، وشنفوا له (2)، وأظهروا تكذيبه، ونابذوه بالعداوة، وظاهروا على إخراجه وإخراج أصحابه وأهله، وألبوا عليه العرب، وحزّبوا الأحزاب (3)، وجهدوا فى أمره كل الجهد، وقلبوا له الأمور، حتى جاء الحقّ وظهر أمر الله وهم كارهون، وكان أشدّ الناس عليه تأليبا وتحريضا أسرته، والأدنى فالأدنى من قومه إلّا من عصم الله.
وذكرت أن الله تعالى اجتبى له من المسلمين أعوانا أيّده بهم، فكانوا فى منازلهم عنده على قدر فضائلهم فى الإسلام، فكان أفضلهم (زعمت) فى الإسلام، وأنصحهم لله ولرسوله، الخليفة وخليفة الخليفة من بعده، ولعمرى إن كان مكانهما فى الإسلام لعظيما، وإن المصاب بهما لجرح فى الإسلام شديد، فرحمهما الله وجزاهما أحسن ما عملا، وذكرت أن عثمان كان فى الفضل تاليا، فإن يك عثمان محسنا فسيقى ربّا شكورا يضاعف له الحسنات، ويجزيه الثواب العظيم، وإن يك مسيئا فسيقى ربّا غفورا لا يتعاظمه (4) ذنب أن يغفره.
ولعمرى إنى لأرجو إذا أعطى الله الناس على قدر فضائلهم فى الإسلام، ونصيحتهم لله ولرسوله، أن يكون سهمنا فى ذلك- أهل البيت- أوفر نصيب، إن محمدا صلى الله عليه وآله لمّا دعا إلى الإيمان بالله والتوحيد له، كنا أهل البيت أول من آمن به وصدّقه فيما جاء، فبتنا أحوالا كاملة محرّمة تامة، وما يعبد الله فى ربع (5) ساكن من العرب غيرنا.
(1) الشنآن: البغض والكراهية.
(2)
شنف له كفرح: أبغضه وتنكره، ونابذوه:
جاهروه، وفى ابن أبى الحديد «وبارزوه» وظاهره: أعانه.
(3)
يعرض بمعاوية فقد كان أبوه رئيس الأحزاب فى غزوة الأحزاب «غزوة الخندق» كما تقده
(4)
تعاظمه: عظم عليه.
(5)
الربع: المنزل.
فأراد قومنا قتل نبينا، واجتياح (1) أصلنا، وهمّوا بنا الهموم، وفعلوا بنا الأفاعيل (2)، ومنعونا المسيرة، وأمسكوا عنا العذب، وأحلسونا (3) الخوف، وجعلوا علينا الأرصاد والعيون، واضطرّونا إلى جبل وعر (4)، وأوقدوا لنا نار الحرب، وكتبوا بينهم كتابا (5): لا يؤا كلوننا ولا يشاربوننا ولا ينا كحوننا ولا يبايعوننا، ولا نأمن منهم حتى ندفع إليهم محمدا يقتلونه ويمثّلون به، فلم نكن نأمن فيهم إلا من موسم،
(1) الاجتياح: الاستئصال، والهموم منصوب على المصدرية وأل فيه عهدية، أى وهموا بنا تلك الهموم التى تعرفونها.
(2)
الأفاعيل جمع أفعولة بالضم: أى فعلوا بنا الأفعال المنكرة، والمسيرة:
المسير، والعذب: أى العيش العذب أى الهنئ- وقد نقل أنهم منعوا من الماء العذب أيام الحصار فى شعب بنى هاشم.
(3)
أحلسونا الخوف: أى ألزموناه، والحلس بالكسر وكسبب: كساء رقيق يكون على ظهر البعير تحت الرحل، وما يبسط فى البيت تحت حر المتاع، وأحلس البعير: إذا جعل عليه الحلس، ويقال: فلان حلس بيته إذا لم يبرحه على المثل، فالمعنى: وجعلوا الخوف ملازما لنا كالحلس الملازم لظهر البعير، أو كالحلس الملازم للبيت، والرصد بالتحريك: القوم يرصدون كالحرس، يستوى فيه الواحد والجمع والمؤنث، وربما قالوا أرصاد، والعيون: الجواسيس جمع عين.
(4)
مثل ضربه عليه السلام لخشونة مقامهم وشظف منزلهم إبان مضايقة قريش لهم، ويجوز أن يكون حقيقة لا مثلا، لأن الشعب (بالكسر) الذى حصروهم فيه مضيق بين جبلين.
(5)
اشتد إيذاء قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين معه أول الإسلام، وطال عليهم البلاء والعذاب كما هو مشهور. ثم إن قريشا اجتمعوا وأتمروا أن يكتبوا كتابا يتعاقدون فيه على بنى هاشم وبنى المطلب: على أن لا ينكحوا إليهم ولا ينكحوهم، ولا يبيعوهم شيئا ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا ذلك فى صحيفة وتعاهدوا وتواثقوا عليه، ثم علقوا الصحيفة فى جوف الكعبة تو كيدا على أنفسهم- وكان كاتبها منصور بن عكرمة بن عامر بن هاشم بن عبد مناف- فلما فعلت ذلك قريش انحاز بنو هاشم وبنو المطلب (مسلمهم وكافرهم) إلى أبى طالب بن عبد المطلب، فدخلوا معه فى شعبه فاجتمعوا إليه، وخرج منهم أبو لهب ابن عبد المطلب إلى قريش فظاهرهم على قومه، وضاق الأمر ببنى هاشم، وعدموا القوت إلا ما كان يحمل إليهم سرا وخفية، وهو شئ قليل لا يمسك أرماقهم، وأخافتهم قريش فلم يكن يظهر منهم أحد، ولا يدخل إليهم أحد، وذلك أشد ما لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل بيته بمكة، وأقاموا على ذلك سنتين أو ثلاثا، حتى ائتمر خمسة نفر من قريش- وهم هشام بن عمرو بن الحارث وزهير بن أبى أمية بن المعيرة والمطعم بن عدى بن نوفل وأبو البخترى بن هشام بن الحارث وزمعة بن الأسود ابن المطلب- وتعاقدوا على القيام فى الصحيفة حتى ينقضوها، (وكان أولهم أحسنهم بلاء فى ذلك) وقام المطعم إليها فحطها وشقها- وذكروا أنهم وجدوا الأرضة قد أكلتها إلا ما كان من باسمك اللهم، وأن كاتبها شلت يده- فلما مزقت الصحيفة خرج بنو هاشم من حصار الشعب- انظر سيرة ابن هشام ج 1 ص 215 - 229 وشرح ابن أبى الحديد م 3 ص 308.
فعزم (1) الله لنا على منعه، والذّبّ عن حوزته، والرّمى من وراء حرمته (2)، والقيام بأسيافنا دونه، فى ساعات الخوف بالليل والنهار، مؤمننا يبغى بذلك الأجر، وكافرنا يحامى عن الأصل (3)، وأما من أسلم من قريش فإنهم مما نحن فيه خلاء (4)، منهم الحليف الممنوع، ومنهم ذو العشيرة التى تدافع عنه، فلا يبغيه أحد بمثل ما بغانا به قومنا من التّلف، فهم من القتل بمكان نجوة (5) وأمن، فكان ذلك ما شاء الله أن يكون.
ثم أمر الله تعالى رسوله بالهجرة، وأذن له بعد ذلك فى قتال المشركين، فكان إذا احمرّ الباس (6)، وأحجم الناس ودعيت نزال، أقام أهل بيته فاستقدموا، فوقى بهم أصحابه حدّ الأسنّة والسيوف، فقتل عبيدة (7) بن الحارث يوم بدر، وقتل حمزة يوم أحد، وقتل جعفر وزيد يوم مؤتة، وأراد من لو شئت ذكرت اسمه (8) مثل الذى أرادوا من
(1) أى قضى الله لنا ووفقنا له وجعلنا عازمين عليه، والذب: الدفع، والحوزة: الناحية وبيضة الملك.
(2)
وفى رواية ابن أبى الحديد «من وراء حومته، وحومة الماء والرمل: معظمه، والرمى عنها المناضلة والمحاماة.
(3)
أى يدافع عن محمد حمية ومحافظة على النسب.
(4)
أى خالون منه. وفى نهج البلاغة «ومن أسلم من قريش خلو مما نحن فيه، بحلف يمنعه، أو عشيرة تقوم دونه» والحلف بالكسر: العهد.
(5)
النجو مصدر نجا، كالنجاة والنجاء، والنجوة بالتاء: المكان المرتفع الذى تظن أنه نجاؤك، وهذه الكلمة زائدة فى رواية ابن أبى الحديد، وهى هنا مستعملة بمعنى المصدر، أو هى محرفة عن نجو.
(6)
أى اشتد القتال حتى احمرت الأرض من الدم، وهو مجاز كقولهم الموت الأحمر، وأحجم الناس:
أى كفوا عن الحرب وجبنوا عن الإقدام، يقال: حجمت فلانا عن كذا وأحجمه بالضم فأحجم هو، وهذه اللفظة من النوادر كقولهم كببته فأكب، ونزال: اسم فعل بمعنى انزل بمعنى المنازلة، ولذا أنت قال الشاعر:
ولنعم حشو الدرع أنت إذا
…
دهيت نزال ولج فى الذعر
وقال آخر:
وقد علمت سلامة أن سيفى
…
كريه كلما دعيت نزال
واستقدموا: تقدموا، ونهج البلاغة «قدم أهل بيته» .
(7)
هو عبيدة بن الحارث بن المطلب بن عبد مناف، بارز يوم بدر عتبة بن ربيعة، فاختلفا بينهما ضربتين، كلاهما جرح صاحبه، فحمل على وحمزة على عتبة فأجهزا عليه، واحتملا عبيدة جريحا، ثم مات من جراحته، وحمزة بن عبد المطلب عم الرسول قتل يوم أحد غافله وحشى- وهو مولى حبشى لجبير بن مطعم- وضربه فقتله، ومؤتة: قرية فى حدود الشأم، وكان عليه الصلاة والسلام جهز جيشا للقصاص ممن قتلوا الحارث بن عمير الأزدى رسوله إلى أمير بصرى، وأمر عليهم مولاه وحبه زيد بن حارثة بن شراحيل الكلبى- وكان ذلك سنة ثمان للهجرة- وقال لهم: إن أصيب فالأمير جعفر بن أبى طالب، فإن أصيب فعبد الله بن رواحة، وقد قاتل ثلاثتهم حتى استشهدوا فى تلك الغزوة.
(8)
يعنى نفسه.
الشهادة مع النبى صلّى الله عليه وآله غير مرّة، إلا أن آجالهم عجّلت، ومنيّته أجّلت، والله ولىّ الإحسان إليهم، والمنّة عليهم، بما أسلفوا من أمر الصالحات، فما سمعت بأحد ولا رأيته هو أنصح فى طاعة الله ورسوله، ولا أصبر على الّلأواء (1)، والسّرّاء والضّرّاء، وحين البأس، ومواطن المكروه مع النبى صلى الله عليه وآله، من هؤلاء البّفر الذين سمّيت لك، وفى المهاجرين خير كثير يعرّف، جزاهم الله خيرا بأحسن أعمالهم.
فيا عجبا للدهر! إذ صرت يقرن بى من لم يسع بقدمى، ولم تكن له كسابقتى التى لا يدلى أحد بمثلها، إلّا أن يدّعى مدّع ما لا أعرفه، ولا أظنّ الله يعرفه، والحمد لله على كل حال.
وذكرت حسدى الخلفاء وإبطائى عنهم وبغيى عليهم، فأما البغى فمعاذ الله أن يكون، وأما الإبطاء عنهم والكراهية لأمرهم فلست أعتذر إلى الناس من ذلك، إن الله تعالى ذكره لما قبض نبيه صلى الله عليه وآله، قالت قريش: منا أمير. وقالت الأنصار: منا أمير، فقالت قريش: منا محمد، فنحن أحقّ بالأمر، فعرفت ذلك الأنصار، فسلّمت لهم الولاية والسلطان، فإذا استحقوها بمحمد صلى الله عليه وآله دون الأنصار، فإن أولى الناس بمحمد أحقّ به منهم، وإلّا فإن الأنصار أعظم العرب فيها نصيبا، فلا أدرى: أصحابى سلموا من أن يكونوا حقّى أخذوا، أو الأنصار ظلموا؟
بل عرفت أن حقى هو المأخوذ، وقد تركته لهم، تجاوز الله عنهم.
وأما ما ذكرت من أمر عثمان، وقطيعتى رحمه، وتأليبى عليه، فإن عثمان عمل ما قد بلغك، فصنع الناس به ما رأيت، وإنك لتعلم أنى قد كنت فى عزلة عنه، إلا أن تتجنّى، فتجنّ ما بدا لك. وأما ما ذكرت من أمر قتلة عثمان، فإنى نظرت فى هذا الأمر، وضربت أنفه وعينه (2)، فلم أره يسعنى دفعهم إليك ولا إلى غيرك، ولعمرى
(1) اللأواء: الشدة.
(2)
جاء فى الأمثال «ضرب وجه الأمر وعينه» وهو مثل يضرب لمن يداور الشئون وبقلبها ظهر البطن من حسن التدبير.