الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ولا يتكها إلا انتشارا وارتدادا، لأنك الشامخ بأنفه، الذاهب بنفسه، المستطيل على الناس بلسانه ويده.
وها أنا سائر إليك فى جمع من المهاجرين والأنصار، تحفّهم سيوف شامية، ورماح قحطانيّة، حتى يحاكموك إلى الله، فانظر لنفسك وللمسلمين، وادفع إلىّ قتلة عثمان، فإنهم خاصّتك وخلصاؤك (1) والمحدقون بك، فإن أبيت إلا سلوك سبيل اللّجاج والإصرار على الغىّ والضلال، فاعلم أن هذه الآية إنما نزلت فيك، وفى أهل العراق معك:«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ» .
(شرح ابن أبى الحديد م 4: ص 201)
407 - رد علىّ على معاوية
وروى الشريف الرضى رحمه الله أن عليّا عليه السلام كتب إلى معاوية جوابا عن كتابه:
«أما بعد: فإنا كنا نحن وأنتم على ما ذكرت من الألفة والجماعة، ففرّق بيننا وبينكم أمس أنّا آمنّا وكفرتم، واليوم أنّا استقمنا وفتنتم، وما أسلم مسلمكم إلا
(1) الخلصاء: جمع خلص بالكسر كخدن، وهو الصاحب.
وأنت إذا تدبرت هذا الكتاب وجدت أسلوبه أسلوب مغالطة فى إلصاق هذه التهم بعلى، فإن عليا لم يقتل طلحة والزبير، وإنما قتلا فى خروجهما عليه، ولم يشرد بعائشة بل هى شردت نفسها، وخرجت إلى البصرة للطلب بدم عثمان فتعرضت لما نالها، على أن عليا بعد أن هزم أصحابها أمر أخاها محمد بن أبى بكر أن يضرب عليها قبة، وقال: انظر هل وصل إليها شئ من جراحة؟ فوجدها سليمة لم تصب بشئ، ثم جاءها فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت: بخير يغفر الله لك. قال: ولك، ثم جهزها بكل ما ينبغى لها من مركب أو زاد أو متاع، واختار لها أربعين امرأة من نساء أهل البصرة المعروفات يرافقنها إلى المدينة، وقال تجهز يا محمد فبلغها، وشيعها هو أميالا، وسرح بنيه معها يوما، والعجب كل العجب أن يصم عليا بتركه دار الهجرة. وأن يقول له إن المدينة قد نفتك عنها لأنك خبث، مع أن هذا القول مردود عليه هو، فقد نفته المدينة عنها منذ ولى الشام من عهد عمر فهل هو إذن خبث! وكذلك طلحة والزبير وعائشة الذين خرجوا إلى البصرة، والذين يتعصب لهم ويحتج بهم! والكلام فى ذلك طويل نجتزئ منه بهذا القدر اليسير.
كرها (1)، وبعد أن كان أنف (2) الإسلام كلّه لرسول الله صلى الله عليه وآله حربا.
وذكرت أنى قتلت طلحة والزبير، وشرّدت بعائشة، ونزلت المصرين، وذلك أمر غبت عنه، فلا عليك، ولا العذر فيه إليك.
وذكرت أنك زائرى فى المهاجرين والأنصار، وقد انقطعت الهجرة يوم أسر أخوك (3)، فإن كان فيك عجل فاسترفه (4)، فإنى إن أزرك فذلك جدير أن يكون الله إنما بعثنى إليك للنّقمة منك، وإن تزرنى فكما قال أخو بنى أسد:
(1) خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة ثمان لفتح مكة فى جيش عدته عشرة آلاف مقاتل، ومضى حتى نزل مر الظهران، فأمر أصحابه أن يوقدوا النار، وبعثت قريش أبا سفيان وحكيم ابن حزام وبديل بن ورقاء يتجسون الأخبار، وسمع العباس بن عبد المطلب أبا سفيان وهو يقول لبديل: ما رأيت كالليلة نيرانا قط ولا عسكرا، فعرف صوته، فقال له: والله لئن ظفر بك ليضربن عنقك، فاركب عجز هذه البغلة حتى آتى بك رسول الله فأستأمنه لك، فركب خلفه ورجع صاحباه، حتى مر به عمر بن الخطاب فلما رآه على عجز البغلة، قال: أبو سفيان عدو الله! الحمد لله الذى أمكن منك بغير عقد ولا عهد، وخرج يشتد نحو رسول الله، وقال له: دعنى فلأضرب عنقه، فقال العباس: يا رسول الله إنى قد أجرته، وأكثر عمر فى شأنه، فقال رسول الله: اذهب به يا عباس إلى رحلك، فإذا أصبحت فأتنى به، فلما أصبح غدا به إلى رسول الله، فقال له: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أن لا إله إلا الله؟
قال: بأبى أنت ما أحلمك وأكرمك وأو صلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عنى شيئا بعد، قال: ويحك يا أبا سفيان! ألم يأن لك أن تعلم أنى رسول الله؟ قال: بأبى أنت وأمى ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله فإن فى النفس منها حتى الآن شيئا بعد، فقال له العباس: ويحك! أسلم واشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله قبل أن تضرب عنقك، فتشهد وأسلم، فقال العباس:
يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئا، فقال: نعم، من دخل دار أبى سفيان فهو آمن، ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن- انظر سيرة ابن هشام 2: 267 وشرح ابن أبى الحديد م 4 ص 208 وقد أسلم معاوية يوم الفتح كما قدمنا.
(2)
أنف كل شئ: أوله، أى وبعد أن كان من أسلم منكم محاربا لرسول الله طوال أول الإسلام، وقد كان أبو سفيان قائد الجيوش الغازية لرسول الله يوم أحد والخندق وأنف هنا منصوب على الظرفية واسم كان ضمير مستتر يعود على مسلمكم.
(3)
هو يزيد بن أبى سفيان أسر يوم الفتح كما قدمنا، وقد أسر أيضا أخوه عمرو بن أبى سفيان يوم بدر- انظر سيرة ابن هشام 2: 31 - ولكن ليس هو المراد هنا كما جاء فى تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده، لقوله «وقد انقطعت الهجرة» .
(4)
أى فكن ذا رفاهية واسترح ولا ترهقن نفسك بالعجل فلابد من تلاقينا، فأى حاجة بك إلى أن تعجل؟
مستقبلين رياح الصّيف تضربهم
…
بحاصب بين أغوار وجلمود (1)
وعندى السيف الذى أعضضته (2) بجدّك وخالك وأخيك فى مقام واحد، وإنك والله- ما علمت- الأغلف (3) القلب، المقارب العقل، والأولى أن يقال لك إنك رقيت سلّما أطلعك مطلع سوء عليك لا لك، لأنك نشدت غير ضالتّك (4)، ورعيت غير سائمتك، وطلبت أمرا لست من أهله ولا فى معدنه، فما أبعد قولك من فعلك (5) وقريب ما أشبهت (6) من أعمام وأخوال حملتهم الشقاوة، وتمنّى الباطل على الجحود بمحمد صلى الله عليه وآله، فصرعوا مصارعهم، حيث لم يدفعوا عظيما، ولم يمنعوا حريما، بوقع سيوف ما خلا منها الوغى، ولم تماشها (7) الهوينى.
وقد أكثرت فى قتلة عثمان، فادخل فيما دخل فيه الناس، ثم حاكم القوم إلىّ، أحملك وإياهم على كتاب الله تعالى، وأمّا تلك التى تريد فإنها خدعة الصبىّ عن اللّبن (فى أوّل الفصال (8)، والسلام لأهله)».
(نهج البلاغة 2: 89)
(1) ريح حاصب: أى تحمل الحصباء وهى صغار الحصى، وأغوار: جمع غور بالفتح، وهو ما سفل من الأرض، والجلمود: الصخر، ولا يخفى أن ريح الصيف إذا كانت كذلك كانت شديدة اللفح عظيمة الضرر، والمعنى: وإن تغزونا تكونوا مستقبلين .. الخ أى تعرضوا أنفسكم لأشد الأخطار.
(2)
يقال: أعضضته الشئ: جعلته يعضه، وأعضضته سيفى: ضربته به، فهمزته للتعدية، وقوله:
أعضضته بجدك أى جعلته يعضه ويضربه والباء فيه زائدة، وقال ابن أبى الحديد: وأعضضته أى جعلته معضوضا برءوس أهلك، وأكثر ما يأتى أفعلته أن تجعله فاعلا، وهو هنا من المقلوب أى أعضضت رءوس أهلك به. وجده هو عتبة بن ربيعة جده لأمه، وخاله الوليد بن عتبة، وأخوه حنظلة بن أبى سفيان، قتلهم على يوم بدر.
(3)
الأغلف القلب: الذى لا بصيرة له كأن قلبه فى غلاف مقارب العقل: ناقصه ضعيفه، كأنه يكاد يكون عاقلا وليس به.
(4)
الضالة: ما فقدته من مال ونحوه، ونشد الضالة: طلبها وعرفها، والسائمة: المال الراعى، والمعنى طلبت ما ليس لك.
(5)
كان معاوية بادئ الأمر يزعم أنه إنما نهض للطلب بدم عثمان الذى قتل مظلوما، وأنه لن يكف حتى يقتل قتلته، ثم تكون الخلافة شورى بين المسلمين، ولكنه كان يعمل لنيل الخلافة وتبوء عرشها.
(6)
ما مصدرية، أى وقريب شبهك.
(7)
لم تماشها: أى لم تصاحبها، بل مضت مسرعة فى الرءوس والأعناق.
(8)
الفصال: فطم المولود، وما بين القوسين زائد فى رواية ابن أبى الحديد.