الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فدع اللجاج والعبث (1) جانبا، وادفع إلينا قتلة عثمان، وأعد الأمر شورى بين المسلمين، ليتفقّوا على من هو لله رضا، فلا بيعة لك فى أعناقنا، ولا طاعة لك علينا، ولا عتبى (2) لك عندنا، وليس لك ولأصحابك عندى إلا السيف، والذى لا إله إلا هو لأطلبنّ قتلة عثمان أين كانوا وحيث كانوا حتى أقتلهم، أو تلحق روحى بالله.
فأمّا ما لا تزال تمنّ به من سابقتك وجهادك، فإنى وجدت الله سبحانه يقول:
«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ولو نظرت فى حال نفسك لو جدتها أشد الأنفس امتنانا على الله بعملها، وإذا كان الامتنان على السائل يبطل أجر الصدقة، فالامتنان على الله يبطل أجر الجهاد، ويجعله كصفوان (3) عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا لا يقدرون على شئ ممّا كسبوا والله لا يهدى القوم الكافرين».
(شرح ابن أبى الحديد م 3: ص 448)
(شرح ابن أبى الحديد م 3: ص 448)
426 - رد علىّ على معاوية
فكتب إليه علىّ:
«أما بعد: فقد أتانى كتابك تذكر فيه اصطفاء الله محمدا صلى الله عليه وآله لدينه وتأييده إياه بمن أيّده به من أصحابه، فلقد خبّأ لنا الدهر منك عجبا، إذ طفقت تخبرنا ببلاء (4) الله عندنا، ونعمته علينا فى نبيّنا، فكنت فى ذلك كناقل التّمر إلى هجر (5)، أو داعى مسدّده إلى النّضال، وزعمت أن أفضل الناس فى الإسلام
(1) ربما كان والعنت.
(2)
العتبى: الرضا.
(3)
الصفوان واحدته صفوانة، وهى الحجر الصلب الضخم.
(4)
أى إنعامه وإحسانه.
(5)
هجر: قاعدة البحرين وهى كثيرة النخل فهى معدن التمر، وفى الأمثال «كمستبضع التمر إلى هبعر» ويقال أيضا «كمستبضع التمر إلى خيبر» قال النابغة الجعدى:
وإن امرأ أهدى إليك قصيدة
…
كمستبضع تمرا إلى أرض خيبرا
ومسدده: أى معلمه الرمى وموفقه للسداد، وفى صبح الأعشى ونهاية الأرب «أو داعى مدره» والمدره كمنبر: المقدم فى اللسان واليد عند الخصومة والقتال.
فلان وفلان (1)، فذكرت أمرا إن تم اعتزلك كلّه، وإن نقص لم يلحقك ثلمه، وما أنت والفاضل والمفضول، والسائس والمسوس؟ وما للطّلقاء، وأبناء الطلقاء، والتمييز بين المهاجرين الأولين، وترتيب درجاتهم، وتعريف طبقاتهم؟ هيهات لقد حنّ قدح ليس منها (2)، وطفق يحكم فيها (3) من عليه الحكم لها! ألا تربع أيها الإنسان على ظلمك، وتعرف قصور ذرعك (4)، وتتأخّر حيث أخّرك القدر؟ فما عليك غلبة المغلوب، ولا لك ظفر الظافر!
وإنك لذهّاب فى التّيه (5)، روّاغ عن القصد، ألا ترى- غير مخبر لك، ولكن بنعمة الله أحدّث- أن قوما استشهدوا فى سبيل الله تعالى من المهاجرين والأنصار- ولكلّ فضل- حتّى إذا استشهد شهيدنا، قيل: سيّد الشهداء (6)، وخصّه رسول الله صلى الله عليه وآله بسبعين تكبيرة عند صلاته عليه (7)، أولا ترى أن قوما
(1) أى أبو بكر وعمر، وثلمه: أى عيبه، وفى صبح الأعشى ونهاية الأرب «قله» بالضم، وهو القلة، وفيهما أيضا «والسائل والمسئول» محل «والسائس والمسوس» والرواية التى أوردناها (وهى رواية نهج البلاغة) أنسب.
(2)
فى الأمثال «حن قدح ليس منها» حن: صوت، والقدح أحد قداح الميسر، وإذا كان أحد القداح من غير جوهر أخواته ثم أجاله المفيض خرج له صوت يخالف أصواتها، فيعرف به أنه ليس من جملة القداح، يضرب للرجل يفتخر بقبيلة ليس هو منها، أو يتمدح بما لا يوجد فيه، وها فى منها راجعة إلى القداح، وقد تمثل به عمر بن الخطاب رضى الله عنه حين قال له الوليد بن عقبة بن أبى معيط: أقتل من بين قريش؟ فقال عمر: حن قدح ليس منها (وقد ذكر جماعة من النسابين أن جد أبيه ذكوان بن أمية بن عبد شمس كان مولى لأمية، وكان يلقب بالصفورى نسبة إلى صفورية بلد بالأردن، فتبناه أمية، فبنوه موال وليسوا من بنى أمية لصلبه- انظر شرح ابن أبى الحديد (م 1 ص: 154).
(3)
أى فى الطبقات.
(4)
ذرع الإنسان طاقته التى يبلغها.
(5)
النيه: الضلال والكبر، وراغ عنه مال وحاد، والقصد: استقامة الطريق.
(6)
هو حمزة بن عبد المطلب، قتل يوم أحد كما قدمنا وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد الشهداء، وأشهد مجهولا واستشهد كذلك: قتل فى سبيل الله.
(7)
روى أنه كان عليه السلام كلما أبى بشهيد وضع إلى جنب حمزة فصلى عليه وعلى الشهيد حتى صلى عليه سبعين مرة، لأن الشهداء فى أحد سبعون (ابن أبى الحديد م 3: ص 395) وجاء فى ترجمته فى أسد الغابة ج 2: ص 49: «عن أنس بن مالك قال: كان النبى صلى الله عليه وسلم إذا كبر على جنازة كبر عليها أربعا، وأنه كبر على حمزة سبعين تكبيرة، وعن ابن عباس قال: صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على حمزة فكبر عليه سبع تكبيرات. ثم لم يؤت بفتيل إلا صلى عليه معه حتى صلى عليه ثنتين وسبعين صلاة» - انظر قول ابن عباس أيضا فى سيرة ابن هشام ج 2 ص 87.
قطعت أبديهم فى سبيل الله- ولكلّ فضل- حتى إذا فعل بواحدنا (1) ما فعل بواحدهم، قيل الطّيّار فى الجنة وذو الجناحين، ولولا ما نهى الله عنه من تزكية المرء نفسه، لذكر ذاكر (2) فضائل جمّة، تعرفها قلوب المؤمنين، ولا تمجّها آذان السامعين.
فدع عنك من مالت به الرّميّة (3)، فإنا صنائع ربنا (4)، والناس بعد صنائع لنا، لم يمنعنا قديم عزّنا، ولا عادىّ طولنا (5) على قومك، أن خلطناكم بأنفسنا، فنكحنا وأنكحنا، فعل الأكفاء، ولستم هناك، وأنّى يكون ذلك كذلك (6)؛
(1) يعنى جعفر بن أبى طالب قتل فى غزوة مؤتة كما تقدم، وقد قطعت يداه، أخذ اللواء بيمينه فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قتل واللواء معه لم يلقه، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أبدله الله بهما جناحين يطير بهما فى الجنة، ولذا سمى الطيار (ابن أبى الحديد م 3:
ص 405 وأسد الغابة 1: 288 وسيرة ابن هشام 2: 253).
(2)
يعنى نفسه.
(3)
الرمية: الطريدة التى يرميها الصائد، وهى فعيلة بمعنى مفعولة، وأنثت لأنها جعلت اسما لا نعتا والمراد بها الدنيا، والمعنى: دع من مال إلى الدنيا ومالت به أى أمالته إليها: أى لا تستمع لهؤلاء الذين يغرونك بالمضى فيما تطمح إليه من الخلافة طلبا للدنيا وطمعا فيها، يعرض بعمرو بن العاص فقد مالأ معاوية وشايعه على أن يجعل له مصر طعمة كما قدمنا، وفى نهاية الأرب «الدنية» وهى الأمر الخسيس.
(4)
أى اصطفانا الله واختصنا بفضله، وجعل النبوة فى بيتنا، ومنه فاضت الهداية على الورى، أى فنحن أحق بالخلافة.
(5)
الطول: الفضل، وعادى: أى قديم، نسبة إلى عاد إحدى قبائل العرب البائدة. فنكحنا وأنكحنا: أى تزوجنا منكم وزوجناكم منا، قال ابن أبى الحديد:«وينبغى أن يحمل قوله «قديم» و «عادى» على مجازه لا على حقيقته لأن بنى هاشم وبنى أمية لم يفترقا فى الشرف إلا مذ نشأ هاشم بن عبد مناف، وعرف بأفعاله ومكارمه، ونشأ حينئذ أخوه عبد شمس، وعرف بمثل ذلك، وصار لهذا بنون، ولهذا بنون، وادعى كل من الفريقين أنه أشرف بالفعال من الآخر، ثم لم تكن المدة بين نشء هاشم وإظهار محمد صلى الله عليه وآله الدعوة إلا نحو تسعين سنة، ومثل هذه المدة القصبرة لا يقال فيها «قديم عزنا، وعادى طولنا» فيجب أن يحمل اللفظ على مجازه، لأن الأفعال الجميلة كما تكون عادية بطول المدة تكون بكثرة المناقب والمآثر والمفاخر وإن كانت المدة قصيرة، ولفظة قديم ترد ولا يراد بها قدم الزمان، بل من قولهم لفلان قدم صدق وقديم أثر أى سابقة حسنة اه» وفسره الأستاذ الشيخ محمد عبده فقال. «العادى:
الاعتيادى المعروف» والأول هو الصحيح بقرينة قوله قبل «قديم عزنا» وقال أيضا «قديم مفعول يمنع، وأن خلطناكم فاعله» والصحيح العكس، وفى رواية صبح الأعشى «ومديد طولنا» .
(6)
أى وكيف يكون شرفكم كشرفنا.
ومنا النبىّ، ومنكم المكذّب (1)؛ ومنا أسد الله (2)، ومنكم أسد الأحلاف
(1) يعنى أبا سفيان بن حرب، كان عدو رسول الله والمكذب له والمجلب عليه، وقال الأستاذ الشيخ محمد عبده فى تفسيره (ونقل عنه ذلك شارح نهاية الأرب):«المكذب: أبو جهل» وهو خطأ، أجل إن أبا جهل كان من ألد أعداء رسول الله، والمكذبين له، ولكنه ليس من بنى أمية، بل هو أبو جهل عمرو بن هشام بن المغيرة المخزومى من بنى مخزوم بن مرة من قريش.
(2)
يعنى حمزة بن عبد المطلب، وأسد لأحلاف: يعنى عتبة بن ربيعة. وذلك أنه لما تدانى المسلمون والمشركون فى غزوة بدر، خرج عتبة وشيبة والوليد حتى فصلوا من الصف ثم دعوا إلى المبارزة، فخرج إليهم فتيان ثلاثة من الأنصار، فقالوا لهم: من أنتم؟ قالوا: رهط من الأنصار، فقالوا: ارجعوا فما لنا بكم من حاجة، ثم نادى مناديهم: يا محمد أخرج إلينا أكفاءنا من قومنا، فأخرج لهم صلى الله عليه وسلم حمزة وعليا وعبيدة بن الحارث، فقال حمزة: أنا حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله، فقال عتبة:
كفؤ كريم، وأنا أسد الحلفاء، من هذان معك؟ قال: على بن أبى طالب وعبيدة بن الحارث بن المطلب، فقال: كفئان كريمان.
قال الواقدى: قال ابن أبى الزناد: حدثنى أبى قال: لم أسمع لعتبة كلمة قط أوهن من قوله «أنا أسد الحلفاء» يعنى بالحلفاء الأجمة (وعلى ذلك فهى بفتح الحاء وسكون اللام، وهى نبت ينبت فى مغايض الماء، أى أنا أسد الأجمة، لأن مأوى الأسد الآجام ومنابت الحلفاء).
قال ابن أبى الحديد: «قلت: قد روى هذه الكلمة على صيغة أخرى «وأنا أسد الحلفاء» يعنى (بضم ففتح) وروى «أنا أسد الأحلاف» (كما جاء فى كتاب الإمام على) قالوا فى تفسير هما: أراد أنا سيد أهل حلف المطيبين (وسنبينه بعد) ورد قوم هذا التأويل، فقالوا: إن المطيبين لم يكن يقال لهم الحلفاء ولا الأحلاف، وإنما ذلك لقب خصومهم وأعدائهم الذين وقع التحالف لأجلهم، وقال قوم فى تفسير هما:
إنما عنى حلف الفضول (وسنبينه بعد أيضا) وهذا التفسير أيضا غير صحيح لأن بنى عبد شمس لم يكونوا فى حلف الفضول، فقد بان أن ما ذكره الواقدى أصح وأثبت- (انظر شرح ابن أبى الحديد م 3:
ص 333).
غير أن ابن أبى الحديد مع ما ذكره من تفنيد هذين التفسيرين، لم يبين المراد بالأحلاف أو الحلفاء فى رواية من روى «أنا أسد الأحلاف» و «أنا أسد الحلفاء» جمعا، وأقول: إننا إدا بحثنا عمن قتلوا من مشركى قريش يوم بدر وجدناهم: من بنى عبد شمس بن عبد مناف، ومن بنى نوفل بن عبد مناف، ومن بنى أسد بن عبد العزى بن قصى، ومن بنى عبد الدار بن قصى، ومن بنى تيم بن مرة بن كعب بن لؤى، ومن بنى مخروم بن يقظة بن مرة، ومن بنى جمح بن عمرو بن هصيص بن كعب بن لؤى، ومن بنى سهم ابن عمرو بن هصيص، ومن بنى عامر بن لؤى:(راجع كتب السيرة) أى أن هذه البطون من قريش كانت قد تآزرت واتفقت كلمتها على حرب محمد وإن شئت فقل إنهم قد تحالفوا على قتاله- وإن لم ينقل إلينا التاريخ أنهم قد عقدوا بينهم على ذلك حلفا بمعناه الأخص- ثم ولوا أمرهم عتبة بن ربيعة فكان قائدهم وصاحب حربهم، فهو إذ يقول:«أنا أسد الأحلاف» يبغى أن يقول إنه أسد هذه البطون القرشية المتناصرة على قتال المسلمين.
ومن تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده (وتابعه أيضا شارح نهاية الأرب): «أسد الأحلاف: أبو سفيان.
لأنه حزب الأحزاب وحالفهم على قتال النبى فى غزوة الخندق» وقد قدمنا لك خبر الأحزاب فى ص 275 - وهو تفسير ملائم، غير أن التنظير فى كتاب الإمام يقتضى حينئذ أن يكون المكذب شخصا آخر غير أبى سفيان.
_________
وهاك كلمة عن حلف المطيبين: كان قصى بن كلاب جعل إلى ابنه عبد الدار الحجابة واللواء والسقاية والرفادة، ثم إن بنى عبد مناف بن قصى (عبد شمس وهاشما والمطلب ونوفلا) أجمعوا على أن يأخذوا ما بأيدى بنى عبد الدار بن قصى من ذلك، ورأوا أنهم أولى به منهم لشرفهم عليهم وفضلهم فى قومهم، فتفرقت عند ذلك قريش فكانت طائفة مع بنى عبد مناف على رأيهم، كان معهم بنو أسد بن عبد العزى بن قصى وبنو زهرة بن كلاب، وبنو تيم بن مرة بن كعب، وبنو الحارث بن فهر بن مالك، وكانت طائفة أخرى مع بنى عبد الدار، يرون أن لا ينزع منهم ما كان قصى جعل إليهم، كان معهم بنو مخزوم بن يقظة بن مرة وبنو سهم بن عمرو بن هصيص بن كعب، وبنو جمع بن عمرو بن هصيص وبنو عدى بن كعب، فعقد كل قوم على أمرهم حلفا مؤكدا على أن لا يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، ما بل بحر صوفة، فأخرج بنو عبد مناف جفنة مملوءة طيبا فوضعوها لأحلافهم فى المسجد عند الكعبة، ثم غمس القوم أيديهم فيها فتعاقدوا وتعاهدوا هم وحلفاؤهم، ثم مسحوا الكعبة بأيديهم توكيدا على أنفسهم فسموا «المطيبين» بفتح الياء المشددة- وتعاقد بنو عبد الدار وتعاهدوا هم وحلفاؤهم عند الكعبة حلفا مؤكدا على أن يتخاذلوا ولا يسلم بعضهم بعضا، فسموا «الأحلاف» - انظر سيرة ابن هشام 1:82.
أما حلف الفضول: فسببه أن رجلا من زبيد من أهل اليمن قدم مكة معتمرا ببضاعة فاشتراها منه العاص ابن وائل السهمى ومطله بالثمن، فجاء إلى بنى سهم يستعديهم عليه، فأغلظوا له- وكان بنو سهم وبنو جمح أهل بغى وعدوان- فطوف فى قبائل قريش يستصرخهم فتخاذلت القبائل عنه، فلما رأى ذلك أشرف على أبى قبيس حين أخذت قريش مجالسها حين ناشدهم ظلامته، فاجتمع بنو هاشم وبنو المطلب وبنو أسد وبنو زهرة وبنو تيم فى دار عبد الله بن جدعان التيمى، فتحالفوا وغمسوا أيديهم فى ماء زمزم بعد أن غسلوا به أركان البيت وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوما من أهلها أو غير هم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، وأن يأخذوا على يد الظالم وينهوا عن كل منكر، مابل بحر صوفة، ثم انطلقوا إلى العاص بن وائل فقالوا له: أد إلى هذا حقه، فأدى إليه حقه فمكثوا كذلك دهرا، لا يظلم أحد بمكة إلا أخذوا له حقه. وكان حلف الفضول بعد حلف المطيبين بزمان، وقد شهده رسول الله صلى الله عليه وآله، وهو شاب ابن خمس وعشرين سنة، قال عليه الصلاة والسلام:«لقد شهدت فى دار عبد الله بن جدعان حلفا ما أحب أن لى به حمر النعم (به أى بدله: أى مقابل نقضه) ولو دعيت به اليوم لأجبت، ولا يزيده الإسلام إلا شدة» وإنما سمى حلف الفضول لأنهم تحالفوا أن ترد الفضول على أهلها (فالفضول: جمع فضل وهو الزيادة، لأن الظالم يأخذ فضلا عن حقه) وقيل إنه كان قد سبق قريشا إلى مثل هذا الحلف «جرهم» فى الزمن الأول، فتحالف منهم ثلاثة هم ومن تبعهم: أحدهم الفضل بن فضالة-
ومنا سيّدا شباب أهل الجنة (1)، ومنكم صبية النار (2)؛ ومنا خير نساء العالمين (3)،
والثانى الفضل بن وداعة، والثالث فضيل بن الحارث، فلما أشبه حلف قريش الآخر فعل هؤلاء الجرهميين سمى حلف الفضول (فالفضول جمع فضل، وهى أسماء أولئك الذين تقدم ذكرهم) انظر سيرة ابن هشام 1: 83 والروض الأنف 1: 91 وشرح ابن أبى الحديد م 3: ص 334 وص 64.
(1)
يعنى الحسن والحسين عليهما السلام، قال صلى الله عليه وآله:«الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة» (أسد الغابة 2: 11).
(2)
كان عقبة بن أبى معيط أبان بن أبى عمرو وذكوان بن أمية بن عبد شمس من أشد المستهزئين برسول الله المؤذين له (وأخباره فى ذلك مشهورة فراجعها فى كتب السيرة) وكان من أسرى المشركين يوم بدر فقتله رسول الله صبرا، فقال له عقبة كالمستعطف له: من للصبية يا محمد؟ قال: النار (سيرة ابن هشام 1: 393).
قال ابن أبى الحديد: ولم يعلم الراوندى ما المراد بهذه الكلمة فقال: صبية النار أولاد مروان بن الحكم الذين صاروا من أهل النار عند البلوغ، ولما أخبر النبى صلى الله عليه وآله عنهم بهذه الكلمة كانوا صبية ثم ترعرعوا واختاروا الكفر، ولا شبهة أن الراوندى قد كان يفسر من خاطره فمهما خطر له قال: اه»، وأقول: إن ما ذكره الراوندى خطأ فاحش، وتفصيل القول فى ذلك أن الحكم بن أبى العاص (أبا مروان) كان قد قدم المدينة بعد الفتح- وكان قد أسلم يوم الفتح سنة ثمان للهجرة- فأخرجه رسول الله إلى الطائف، وقال له:«لا تساكننى فى بلد أبدا» لو قيعته فيه (قيل: كان يتسمع سر رسول الله ويطلع عليه من باب بيته، وهو الذى أراد رسول الله أن يفقأ عينه بمدرى فى يده لما اطلع عليه من الباب وقيل كان يحكى رسول الله فى مشيته وبعض حركاته، وكان النبى عليه الصلاة والسلام يتكفأ فى مشيته) فطرده رسول الله ولعنه وأبعده حتى صار مشهورا بأنه طريد رسول الله، ولم ير ابنه مروان رسول الله لأنه خرج إلى الطائف طفلا لا يعقل لما نفى النبى أباه- وقد ولد بمكة سنة اثنتين للهجرة- وقيل إنه ولد بالطائف إبان نفى أبيه بها «انظر أسد الغابة ج 2: ص 34 وج 4: ص 348» فكيف يقول الراوندى: «ولما أخبر النبى عن أولاد مروان بهذه الكلمة كانوا صبية» مع أن أباهم مروان نفسه كان على عهد الرسول صبيا، على أن أولاده لما ترعرعوا لم يختاروا الكفر كما يقول، وهو واضح ظاهر. وذكر الجاحظ أن عبد الملك بن مروان كان عابد قريش قبل أن يستخلف، ورعا وزهدا «العقد الفريد 3: 8».
(نعم روى عنه عليه الصلاة والسلام أنه مر به الحكم بن أبى العاص فقال: ويل لأمتى مما فى صلب هذا) وذكر الأستاذ الشيخ محمد عبده فى تفسيره ما ذكره الراوندى فقال: «وصبية النار قليل هم أولاد مروان بن الحكم، أخبر النبى عنهم وهم صبيان بأنهم من أهل النار، ومرقوا من الدين فى كبرهم اه» (وتابعه أيضا شارح نهاية الأرب) وقد بينا فساده.
(3)
يعنى فاطمة عليها السلام، جاء فى الإصابة ج 8: ص 158 (عن أبى هريرة مرفوعا: خير نساء العالمين أربع: مريم وآسية وخديجة وفاطمة) (وآسية هى امرأة فرعون، نزل فيها وفى مريم قوله تعالى:
«وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ
ومنكم حمّالة الحطب (1)، فى كثير مما لنا وعليكم:
فإسلامنا ما قد سمع، وجاهليّتنا لا تدفع، وكتاب الله يجمع لنا ما شذ عنا، وهو قوله سبحانه وتعالى:«وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ» * وقوله تعالى: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ» فنحن مرة أولى بالقرابة، وتارة أولى بالطاعة، ولما احتج المهاجرون على الأنصار يوم السقيفة (2) برسول الله صلى الله عليه وآله فلجوا عليهم، فإن يكن الفلج به فالحقّ لنا دونكم، وإن يكن بغيره فالأنصار على دعواهم.
وزعمت أنّى لكل الخلفاء حسدت، وعلى كلّهم بغيت، فإن يكن ذلك كذلك فليس الجناية عليك، فيكون العذر إليك:
* وتلك شكاة ظاهر عنك عارها (3) *
وقلت إنى كنت أقاد كما يقاد الجمل المخشوش حتى أبايع، ولعمر الله لقد أردت
الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَصَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَكُتُبِهِ وَكانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ».
(1)
هى أم جميل بنت حرب بن أمية امرأة أبى لهب وعمة معاوية، وقد ورد فيها التنزيل بذلك «وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ» وقيل لها حمالة الحطب، لأنها كانت تحمل الشوك والسعدان وتلقيه فى طريق النبى صلى الله عليه وسلم إيذاء له (وكانت جارته) أو هو النميمة، إذ كانت تسعى عليه بالنمائم وتوقد بذلك نار الخصومة، أو حطب جهنم، فإنها كانت تحمل الأوزار بمعاداته، وتحمل زوجها على إيذائه.
(2)
لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعت الأنصار فى سقيفة بنى ساعدة فقالوا: نولى هذا الأمر بعد محمد سعد بن عبادة، وكان بينهم وبين المهاجرين حجاج انتهى باستخلاف أبى بكر كما هو معروف، وفلج على خصمه كنصر: فاز عليه وظفر.
(3)
هو شطر بيت لأبى ذؤيب الهذلى، قال:
أبى القلب إلا أم عمرو فأصبحت
…
تحرق نارى بالشكاة ونارها
وغيرها الواشون أنى أحبها
…
وتلك شكاة ظاهر عنك عارها
والشكاة فى الأصل: المرض، وتوضع موضع العيب والذم كما فى هذا البيت، فمعناها هنا العيب والنقيصة، ويقال: ظهر عنى هذا العيب: إذا نبا عنك ولم يعلق بك منه شئ.
أن تذمّ فمدحت، وأن تفضح فافتضحت، وما على المسلم من غضاضة (1) فى أن يكون مظلوما، ما لم يكن شاكّا فى دينه، ولا مرتابا بيقينه، وهذه حجّتى إلى غيرك قصدها (2)، ولكنى أطلقت لك منها بقدر ما سنح (3) من ذكرها.
ثم ذكرت ما كان من أمرى وأمر عثمان، فلك أن تجاب عن هذه، لرحمك (4) منه، فأيّنا كان أعدى (5) له، وأهدى إلى مقاتله، أمن بذل له نصرته فاستقعده واستكفّه (6)، أم من استنصره فتراخى عنه (7)، وبث المنون إليه، حتى أتى قدره عليه؟ كلّا والله، لقد علم الله المعوّقين (8) منكم والقائلين لإخوانهم هلمّ إلينا ولا يأتون البأس إلّا قليلا.
وما كنت لأعتذر من أبى كنت (9) أنقم عليه أحداثا، فإن كان الذنب إليه إرشادى وهدايتى له، فربّ ملوم لا ذنب له (10).
(1) غض منه: نقص ووضع من قدره.
(2)
أى إنى إذا احتججت لحقى فى الخلافة فإنما أحتج إلى غيرك لا إليك، إذ ليس لك فى الخلافة شان.
(3)
أى عرض.
(4)
الرحم: القرابة.
(5)
أى أشد عدوانا، والمقاتل: وجوه القتل.
(6)
استقعده واستكفه: طلب قعوده وكفه، ويعنى «بمن بذل له نصرته» نفسه فقد كان للإمام على عليه السلام فى الدفاع عن عثمان موقف مجيد لا ينكره إلا كل مكابر، وقد قال:«والله مازلت أذب عنه حتى إنى لأستحى» وقال أيضا: «والله لقد دفعت عنه حتى خشيت أن أكون آثما» وبعث إليه بالماء حين منعه عنه المحاصرون، كما بعث إليه بابنيه الحسن والحسين ومواليه للذب عن داره، وقال لا بنيه: اذهبا بسيفيكما حتى تقوما على باب عثمان فلا تدعا أحدا يصل إليه بمكروه، وقد خضب الحسن بالدماء فى سبيل مدافعة الثوار وشج قنبر مولى على، حتى قال عثمان للحسن: إن أباك الآن لفى أمر عظيم فأقسمت عليك لما خرجت، فأبى وشاء الله أن ينفذ القضاء فى عثمان فجاء على فقال لا بنيه: كيف قتل أمير المؤمنين وأنتما على الباب ولطم الحسن وضرب الحسين، وقد فصلنا القول فى هذا الموضوع فى كتابنا «ترجمة على بن أبى طالب باب مقتل عثمان» .
(7)
يعنى به معاوية، وقد كان عثمان كتب إليه يستنصره فتربص به (انظر ما قدمناه فى ص 277) والمنون: الموت، وبث المنون إليه: أى أنه تقاعس عن نصرته فأفضى ذلك إلى بلوغ الثوار مأربهم فيه فقتلوه.
(8)
أى المانعين من النصرة.
(9)
نقم منه كضرب وعلم: عابه، والأحداث جمع حدث كسبب وهو البدعة.
(10)
هو مثل من قول أكثم بن صيفى يقول: قد ظهر للناس منه أمر أنكروه عليه وهم لا يعرفون حجته وعذره فهو يلام عليه.
* وقد يستفيد الظّنّة المتنصّح (1) * وما أردت إلّا الإصلاح ما استطعت وما توفيقى إلّا بالله عليه توكّلت وإليه أنيب.
وذكرت أنه ليس لى ولأصحابى عندك إلا السيف، فلقد أضحكت بعد استعبار (2)! متى ألفيت بنى عبد المطلب عن الأعداء ناكلين (3)، وبالسيوف مخوّفين؟ «فلبّث قليلا يلحق الهيجا حمل (4)» فسيطلبك من تطلب، ويقرب منك ما تستبعد، وأنا مرقل (5) نحوك فى جحفل من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان، شديد
(1) الظنة: التهمة، والمتنصح هنا: المبالغ فى النصح لمن لا ينتصح، وهو شطر بيت، وصدره:
* وكم شقت فى آثار كم من نصيحة*
(2)
استعبر: جرت عبرته، أى بكى، فقوله يبكى لأنه يطلب ما لا حق له فيه، ويشق عصا الجماعة ويضحك لتهديده من لا يهدد.
(3)
نكل عنه كضرب ونصر وعلم نكولا: نكص وجبن.
(4)
لبث: من اللبث بالفتح وهو المكث أى انتظر، والهيحا يقصر ويمد: الحرب، وحمل اسم رجل (وستعرفه بعد) وهو مثل يضرب للتهديد بالحرب، رواه أبو هلال العسكرى فى جمهرة الأمثال ج 2: ص 177، فقال:(«لبث رويدا يلحق الهيجا حمل» أى انتظر حتى يتلاحق الشبان) وفى لسان العرب ج 13 ص 193 «ضح قليلا يدرك الهيجاء حمل» وفى مجمع الأمثال للميدانى ج 1 ص 283 «ضح رويدا يدرك الهيجا حمل» (ومعنى «ضح رويدا» لا تعجل فى الأمر وتأن وارفق) ضمى الإبل: غذاها فى الضمى فتضحت هى أى أكلت فى الضحى، وأصله أن العرب كانوا يسيرون فى البادية يوم ظعنهم، فإذا مروا ببقعة من الأرض فيها كلأ وعشب، قال قائلهم: ألا ضحوا رويدا، أى ارفقوا بالإبل حتى تتضحى، أى تنال من هذا المرعى، ثم وضعت التضحية مكان الرفق، لتصل الإبل إلى المنزل وقد شبعت اه لسان العرب ج 19: ص 215).
أما حمل فهو حمل بن سعدانة (بالفتح) الصحابى. جاء فى أسد الغابة ج 2: ص 52 وفى شرح القاموس ج 7 ص 290: «حمل بن سعدانة الكلبى، وفد إلى النبى صلى الله عليه وسلم وعقد له لواء وشهد مع خالد بن الوليد مشاهده كلها، وهو القائل:
لبث قليلا يلحق الهيجا حمل
…
ما أحسن الموت إذا حان الأجل
وشهد صفين مع معاوية، وقد تمثل بقوله سعد بن معاذ يوم الخندق اه» وفى سيرة ابن هشام ج 2: ص 163، فى غزوة الخندق: «فمر سعد بن معاذ وعليه درع له مقلصة قد خرجت منها ذراعه كلها، وفى يده حربته يرقل بها (أى يسرع) يقول:
لبث قليلا يشهد الهيجا حمل
…
لا بأس بالموت إذا حان الأجل
وفى لسان العرب: «حمل: إنما يعنى به حمل بن بدر» وكذا فى مجمع الأمثال، وقال شارح القاموس:
وفى المحكم: إنما يعنى به حمل بن بدر، قلت: وفيه نظر.
وقد جاء فى تفسير الأستاذ الشيخ محمد عبده أنه حمل بن بدر، وكذا ذكر شارح نهاية الأرب مستندا إلى ما ورد فى لسان العرب، وقد عرفت ما فيه، ولم يرد فى شرح ابن أبى الحديد تفسيره. وأكبر ظنى أنه سقط فى أثناء الطبع، لأن شرح ذلك الكتاب واقع فى نهاية المجلد الثالث، ولم يذكر تفسير الجزء الأخير منه.
(5)
مرقل: مسرع. والجحفل: الجيش العظيم.