الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
519 - كتاب علىّ إلى أهل العراق
ودخل على علىّ عليه السلام بعض أهل العراق، فسألوه عن أبى بكر وعمر، وقالوا: بيّن لنا قولك فيهما، وفى عثمان، فقال لهم: أو قد تفرغتم لهذا، وهذه مصر قد افتتحت، وشيعتى فيها قد قتلت؟ إنى مخرج إليكم كتابا أنبئكم فيه ما سألتمونى عنه، فاقرءوه على شيعتى، فأخرج إليهم كتابا فيه (1):
«أما بعد: فإن الله بعث محمدا صلى الله عليه وسلم نذيرا للعالمين، وأمينا على التنزيل، وشهيدا على هذه الأمة، وأنتم معاشر العرب يومئذ على شرّ دين، وفى شرّ دار، منيخون على حجارة خشنة صمّ (2)، وشوك مبثوث فى البلاد، تشربون الماء الخبيث، وتأكلون الطعام الخبيث، تسفكون دماءكم، وتقتلون أولادكم، وتقطعون أرحامكم، وتأكلون أموالكم بينكم بالباطل سبلكم خائفة، والأصنام فيكم منصوبة، ولا يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون، فمنّ الله عز وجل عليكم بمحمد فبعثه إليكم رسولا من أنفسكم تعرفون وجهه ونسبه، فعلّمكم الكتاب، والحكمة، والفرائض، والسّنن، وأمركم بصلة أرحامكم، وحقن دمائكم، وإصلاح ذات بينكم، وأن تؤدّوا الأمانات إلى أهلها، وأن توفّوا بالعهد، ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وأن تعاطفوا، وتبارّوا، وتباذلوا، وتراحموا، ونهاكم عن التناهب والتظالم، والتحاسد، والتباغى، والتقاذف، وعن شرب الخمر، وعن بخس المكيال، ونقص الميزان، وتقدّم إليكم فيما أنزل عليكم أن لا تزنوا، ولا تربوا، ولا تأكلوا أموال
(1) هكذا روى ابن قتيبة فى الإمامة والسياسة، ومنه ترى أنه كتاب، وروى ابن أبى الحديد قال: «خطب على عليه السلام بعد فتح مصر وقتل محمد بن أبى بكر فقال
…
» ومنه ترى أنه خطبة- هذا والتنبه إلى أنه يحتوى على جل الكتاب الذى أورده الشريف الرضى فى نهج البلاغة، وذكر أن عليا كتبه إلى أهل مصر مع الأشتر، وقد قدمناه فى ص 567.
(2)
فى الأصل (ابن أبى الحديد)«وحياق صم» والكلمة الأولى محرفة ولعلها «جبال» أو «صخور» وصم جمع أصم وصماء، حجر أصم: أى صلب مصمت، وصخرة صماء.
اليتامى ظلما، ولا تعثوا فى الأرض مفسدين، ولا تعتدوا إن الله لا يحبّ المعتدين، فكلّ خير يدنى إلى الجنة ويباعد عن النار أمركم به، وكلّ شرّ يدنى إلى النّار ويباعد عن الجنة نهاكم عنه.
فلمّا استكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم مدّته من الدنيا، توفّاه الله، وهو مشكور سعيه، مرضىّ عمله، مغفور له ذنبه، شريف عند الله نزله، فيا لها مصيبة خصّت الأقربين، وعمّت المسلمين، ما أصيبوا قبلها بمثلها، ولن يعاينوا بعدها أختها، فلما مضى لسبيله تنازع المسلمون الأمر بعده، فو الله ما كان يلقى فى روعى، ولا يخطر على بالى أن العرب تعدل هذا الأمر بعد محمد عن أهل بيته، ولا أنهم منحّوه عنى من بعده، فما راعنى إلا انثيال الناس على أبى بكر، وإجفالهم (1) إليه ليبايعوه، فأمسكت يدى، ورأيت أنى أحقّ بمقام محمد فى الناس ممن تولّى الأمر من بعده، فلبثت بذاك ما شاء الله حتى رأيت راجعة من الناس رجعت عن الإسلام يدعون إلى محق دين الله، وملة محمد صلى الله عليه وسلم، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله أن أرى فيه ثلما وهدما، يكون المصاب بهما علىّ أعظم من فوات ولاية أموركم، التى إنما هى متاع أيام قلائل، ثم يزول ما كان منها كما يزول السّراب، وكما يتقشّع السحاب، فمشيت عند ذلك إلى أبى بكر فبايعته، ونهضت معه فى تلك الأحداث حتى زاغ الباطل وزهق، وكانت كلمة الله هى العليا، ولو كره الكافرون.
فتولّى أبو بكر رضى الله عنه تلك الأمور، فيسّر، وسدّد، وقارب، واقتصد، وصحبته مناصحا، وأطعته فيما أطاع الله فيه جاهدا، وما طمعت أن لو حدث به حادث، وأنا حىّ، أن يردّ إلىّ الأمر الذى نازعته فيه طمع مستيقن، ولا يئست منه يأس من لا يرجوه، ولولا خاصّة ما كان بينه وبين عمر لظننت أنه لا يدفعها عنى.
(1) الانثيال: الانصباب، والإجفال: الإسراع.
فلما احتضر بعث إلى عمر، فولّاه، فسمعنا وأطعنا، وبايعنا، وناصحنا، وتولّى عمر الأمر، فكان مرضىّ السّيرة، ميمون النّقيبة (1) أيام حياته، حتى إذا احتضر قلت فى نفسى: لن يعد لها عنى، ليس يدافعنى عنها، فجعلها عمر شورى، وجعلنى سادس ستّة، فلما كانوا لو لاية أحد منهم أشدّ كراهة لو لايتى عليهم، لأنهم كانوا يسمعوننى عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أحاجّ أبا بكر فأقول: يا معشر قريش، إنا أهل البيت أحقّ بهذا الأمر منكم، ما كان فينا من يقرأ القرآن، ويعرف السّنّة، وبدين بدين الحق، فخشى القوم إن أنا وليت عليهم أن لا يكون لهم فى هذا الأمر نصيب ما بقوا، فأجمعوا إجماعا واحدا، فصرفوا الولاية عنى إلى عثمان، وأخرجونى منها، رجاء أن ينالوها ويتداولوها، إذ يئسوا أن ينالوها من قبلى، ثم قالوا لى: هلمّ فبايع عثمان وإلّا جاهدناك، فبايعت مستكرها (2)، وصبرت محتسبا، فقال قائلهم: إنك يا بن أبى طالب على هذا الأمر لحريص، فقلت لهم: أنتم أحرص منى وأبعد، أينا أحرص، أنا الذى طلبت ميراث ابن أبى وحقى الذى جعلنى الله ورسوله أولى به، أم أنتم إذ تضربون وجهى دونه، وتحولون بينى وبينه؟ فبهتوا، والله لا يهدى القوم الظالمين، اللهم إنى أستعديك (3) على قريش، فإنهم قطعوا رحمى، وأضاعونى، وصغّروا عظيم منزلتى وفضلى، واجتمعوا على منازعتى حقّا كنت أولى به منهم فسلبونيه، ثم قالوا: ألا إن فى الحق أن تأخذه، وفى الحق أن تمنعه، فاصبر كمدا، أو مت أسفا حنيقا (4)، فنظرت فإذا ليس معى رافد (5)، ولا ذابّ، ولا ناصر، ولا مساعد إلا أهل بيتى، فضننت بهم عن المنيّة، فأغضيت عينى على
(1) النقيبة: النفس والطبيعة.
(2)
يقال: امرأة مستكرهة بكسر الراء: أى غصبت نفسها (بالبناء للمجهول) فأكرهت على ذلك
(3)
استعداه: استعانه واستنصره.
(4)
الحنق بالتحريك: شدة الاغتياظ، حنق عليه كفرح فهو حنق كفرح وحنيق، وفى ابن أبى الحديد «حميقا» وهو تحريف.
(5)
الرافد: الواصل، من الرفد بالكسر وهو الصلة، والذاب: الدافع.
القذى (1)، وتجرّعت ربقى على الشّجى، وصبرت من كظم الغيظ على أمرّ من العلقم طعما، وآلم للقلب من حزّ الشّفار (2)، حتى إذا نقمتم على عثمان أتيتموه فقتلتموه، ثم جئتمونى لتبايعونى فأبيت عليكم وأبيتم علىّ، وأمسكت يدى فنازعتمونى ودافعتمونى وبسطتم يدى فكففتها، ومددتموها فقبضتها، وازدحمتم علىّ حتى ظننت أن بعضكم قاتل بعض، أو أنكم قاتلىّ، فقلتم: بايعنا، لا نجد غيرك ولا رضى إلا بك، بايعنا لا نفترق ولا تختلف كلمتنا، فبايعتكم، ودعوتم الناس إلى بيعتى، فمن بايع طوعا قبلته، ومن أبى لم أكرهه وتركته، فأول من بايعنى طلحة والزبير، ولو أبيا ما أكرهتهما كما لم أكره غيرهما، فما لبثا إلا يسيرا حتى بلغنى أنهما قد خرجا من مكة متوجّهين إلى البصرة، فى جيش ما منهم رجل إلا وقد أعطانى الطاعة، وسمح لى بالبيعة، فقدما على عاملى وخزّان بيت مالى، وعلى أهل مصرى الذين كلهم على بيعتى وفى طاعتى، فشتّتوا كلمتهم، وأفسدوا علىّ جماعتهم، ثم وثبوا على شيعتى، فقتلوا طائفة منهم غدرا، وطائفة صبرا (3)، ومنهم طائفة غضبوا لله ولى، فشهروا سيوفهم وضربوا بها، حتى لقوا الله عز وجل صابرين محتسبين، فو الله لو لم يصيبوا منهم إلا رجلا واحدا متعمدين لقتله، لحلّ لى بذلك قتل الجيش بأسره، فدع ما أنّهم قد قتلوا من المسلمين أكثر من العدّة التى دخلوا بها عليهم، وقد أدال (4) الله منهم، فبعدا للقوم الظالمين.
ثم إنى نظرت فى أمر أهل الشأم، فإذا هم أعراب وأحزاب، وأهل طمع جفاة طغاة (5)، تجمعوا من كل أوب، ممن ينبغى أن يؤدّب، وأن يولّى عليه، ويؤخذ على
(1) القذى: ما يقع فى العين وفى الشراب، والشجى: ما اعترض فى الحلق من عظم ونحوه:
(2)
الشفار: جمع شفرة بالفتح، وهى السكين العظيم.
(3)
صبر الإنسان على القتل: أن يحبس ويرمى حتى تموت.
(4)
أى نصرنا عليهم.
(5)
وفى الإمامة والسياسة: «طغام» والطغام كسحاب: أوغاد الناس، والأوب: الطريق والجهة.
يديه، ليسوا من الأنصار، ولا المهاجرين، ولا التابعين بإحسان، فسرت إليهم فدعوتهم إلى الطاعة والجماعة، فأبوا إلا شقاقا ونفاقا، ونهضوا فى وجوه المهاجرين والأنصار، ينضحونهم (1) بالنّبل، ويشجرونهم بالرماح، فهنالك نهدت (2) إليهم فقاتلتهم، فلما عضّهم السلاح، ووجدوا ألم الجراح، رفعوا المصاحف يدعونكم إلى ما فيها، فنبأتكم أنهم ليسوا بأهل دين ولا قرآن، وإنما رفعوها مكيدة وخديعة، ووهنا وضعفا، فامضوا على حقكم وقتالكم، فأبيتم علىّ واتهمتمونى، وقلتم: اقبل منهم، فإنهم إن أجابوا إلى ما فى الكتاب جامعونا على ما نحن عليه من الحق، وإن أبوا كان أعظم لحجّتنا عليهم، فقبلت منهم، وكففت عنهم إذ ونيتم وأبيتم، فكان الصلح بينكم وبينهم على رجلين حكمين يحييان ما أحيا القرآن، ويميتان ما أمات القرآن، فاختلف رأيهما، وتفرّق حكمهما، ونبذا حكم القرآن، وخالفا ما فى الكتاب، واتّبعا هواهما بغير هدى من الله فجنّبهما الله السّداد، وأهوى بهما فى غمرة الضلال (3)، وكانا أهل ذلك، فانخذلت عنا فرقة منا، فتركناهم ما تركونا، حتى إذا عاثوا فى الأرض مفسدين، وقتلوا المؤمنين، أتيناهم فقلنا لهم: ادفعوا إلينا قتلة إخواننا، ثم كتاب الله بيننا وبينكم، فقالوا: كلنا قتلهم، وكلنا استحللنا دماءهم ودماءكم، وشدّت علينا خيلهم ورجالهم، فصرعهم الله مصارع القوم الظالمين.
فلما كان ذلك من شأنهم، أمرتكم أن تمضوا من فوركم ذلك إلى عدوكم، فإنه أفزع لقلوبهم، وأنهك لقواهم، وأهتك لكيدهم، فقلتم: كلّت أذرعنا وسيوفنا، ونفدت نبالنا، ونصلت (4) أسنّة رماحنا، وعاد أكثرها قصدا، فأذن لنا فلنرجع
(1) نضحه بالنبل كنفع: رماه ورشقه، وشجره بالرمح كقتل: طعنه به.
(2)
نهد إلى العدو كنفع وقتل: نهض.
(3)
وفى ابن أبى الحديد «ودلاهما فى الضلالة» ، وفيه:«حتى إذا عثوا فى الأرض يقتلون ويفسدون» وعاث وعثا: أفسد.
(4)
نصل السهم: فهو ناصل خرج منه النصل (والنصل: حديدة السهم والرمح) ورمح قصد ككتف وقصيد وأقصاد: متكسر.
إلى مصرنا حتى نستعد بأحسن عدّتنا، وإذا رجعت زدت فى مقاتلتنا عدّة من هلك منا ومن قد فارقنا. فإن ذلك أقوى لنا على عدونا، فأقبلت بكم حتى إذا أطللتم على الكوفة، أمرتكم أن تنزلوا بالنّخيلة، وأن تلزموا معسكركم، وأن تضمّوا قواصيكم، وأن توطّنوا على الجهاد أنفسكم، ولا تكثروا زيارة أبنائكم ونسائكم، فإن ذلك يرقّ قلوبكم ويلويكم، وإن أهل الحرب المصابروها، وأهل التشمير فيها الذين لا يتوجّدون (1) سهر ليلهم، ولا يتوجّعون، ولا يسأمون من ظمإ نهارهم، ولا من خمص (2) بطونهم، ولا من نصب أبدانهم، حتى يدركوا ثأرهم، وينالوا بغيتهم ومطلبهم، فنزلت طائفة منكم معى معذرة، ودخلت طائفة منكم المصر عاصية، فلا من نزل معى صبر فثبت، ولا من دخل المصر عاد إلىّ ورجع.
ولقد نظرت إلى عسكرى، وما فيه معى منكم إلا خمسون رجلا، فلما رأيت ما أتيتم دخلت إليكم فما قدرتم أن تخرجوا معى إلى يومكم هذا لله آباؤكم! فما تنتظرون؟ أما ترون إلى أطرافكم قد انتقصت، وإلى مصركم قد افتتحت (3) وإلى شيعتى بها قد قتلت، وإلى مسالحكم (4) تعرى، وإلى بلادكم تغزى، وأنتم ذوو عدد كثير، وشركة، وبأس شديد، فما بالكم؟ لله أنتم! من أين تؤتون؟ وما لكم تؤفكون (5) وأنّى تسحرون، ولو أنكم عزمتم وأجمعتم لم تراموا، ألا إن القوم قد اجتمعوا، وجدّوا وتناصحوا، وإنكم قد ونيتم وتفرقتم، واختلفتم، وتغاششتم، فأنتم إن اجتمعتم تسعدون.
(1) توجد سهر ليلة: شكا ما مسه من مشقته.
(2)
الخمص بالسكون وبالتحريك والمخمصة: الجوع.
(3)
المصر: كل كورة يقسم فيها الفئ والصدقات، وهذه يجوز فيها التذكير فتصرف. والتأنيث فتمنع، وروى فى الإمامة والسياسة «قد افتتح» بالتذكير، وفى ابن أبى الحديد بالتأنيث.
(4)
المسالح جمع مسلحة بالفتح: وهى الثغر.
(5)
أفكه كضربه: صرفه عن الشئ وقلب رأيه.
فأيقظوا رحمكم الله نائمكم، وأجمعوا على حقكم، وتجرّدوا لحرب عدوكم، قد أبدت الرّغوة عن الصّريح (1)، وبان الصّبح لذى عينين، إنما تقاتلون الطّلقاء، وأبناء الطلقاء، وأولى الجفاء، ومن أسلم كرها، وكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أنف (2) الإسلام كلّه حربا، أعداء الله والسنة والقرآن، وأهل الأحزاب، والبدع، والأحداث، ومن كانت بوائقه (3) تتّقى، وكان على الإسلام مخوفا (4)، أكلة الرّشا وعبدة الدنيا، لقد أنهى (5) إلىّ أن ابن النابغة لم يبايع معاوية حتى أعطاه، وشرط عليه أن يعطيه إتاوة هى أعظم مما فى يديه من سلطانه، ألا صفرت (6) يد هذا البائع دينه بالدنيا، وتربت يد هذا المشترى نصرة غادر فاسق بأموال المسلمين، وإن منهم لمن قد شرب فيكم الخمر، وجلد حدّا فى الإسلام، يعرف بالفساد فى الدين والفعل السيئ، وإن فيهم من لم يسلم حتى رضخ له على الإسلام رضيخة (7)، فهؤلاء قادة القوم،
(1) رغوة اللبن مثلثة: زبده (بالتحريك)، والصريح: اللبن الخالص الذى ذهبت رغوته، وأبداه:
أظهره، وهو هنا بمعنى كشف عنه: أى كشفت الرغوة عن الصريح وأظهرته. وهو مثل يضرب عند انكشاف الأمر وظهوره، وقد رواه الميدانى فى مجمع الأمثال «أبدى الصريح عن الرغوة» وقال فى شرحه:«أبدى لازم ومتعد، يقال: أبديت فى منطقك أى جرت، فعلى هذا يكون المعنى بدا الصريح عن الرغوة، وإن جعلته متعديا فالمفعول محذوف أى أبدى الصريح نفسه. وأقول نعم قد ورد أبدى لازما بمعنى جار كما ذكر، لكن ذلك المعنى ليس مما نحن فيه، ثم قال: «وهذا المثل لعبيد الله بن زياد قاله الهانئ بن عروة المرادى، وكان مسلم بن عقيل بن أبى طالب رحمه الله قد استخفى عنده أيام بعثه الحسين ابن على رضوان الله عليهما، فلما عرف مكانه عبيد الله أرسل إلى هانئ فسأله فكتمه فتوعده وخوفه، فقال هانئ: هو عندى، فعندها قال عبيد الله: «أبدى الصريح عن الرغوة» أى وضح الأمر وبان، ومن كتاب الإمام الذى نحن بصدد شرحه تعرف أن عبيد الله قد تمثل بهذا المثل وليس بصاحبه، ومن أمثالهم فى هذا المعنى أيضا «صرح المخض عن الزبد» بضم الزاى أى انكشف الأمر وتبين.
(2)
أنف كل شئ: أوله.
(3)
البوائق جمع بائقة: وهى الداهية، والرشا بالضم والكسر جمع رشوة مثلثة وهى الجعل بالضم
(4)
وفى الإمامة والسياسة «وكان عن الدين منحرفا» .
(5)
أنهى الشئ: أبلغه، وفى الإمامة والسياسة «لقد نمى إلى» أى أبلغت أيضا، وابن النابغة هو عمرو بن العاص وقد تقدم.
(6)
صفر كفرح: خلا، ويقال: تربت يداه، أى لا أصاب خيرا، وفى ابن أبى الحديد «وخزيت أمانة هذا المشترى
…
».
(7)
انظر ص 482.
ومن تركت ذكر مساوئه من قادتهم مثل من ذكرت منهم، بل هو شرّ وأضرّ، وهؤلاء الذين ذكرت لو ولوا عليكم لأظهروا فيكم الكبر، والفخر، والفجور، والتسلط بجبرية (1)، والتطاول بالغضب، والفساد فى الأرض، ولا تبعوا الهوى وما حكموا بالرشاد، ولأنتم على ما فيكم من تخاذل وتواكل خير منهم وأهدى سبيلا، فيكم الحكماء، والعلماء والفقهاء والنجباء، وحملة القرآن، والمتهجّدون بالأسحار، والعبّاد، والزّهّاد فى الدنيا، وعمّار المساجد بتلاوة القرآن، أفلا تسخطون وتنقمون (2) أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم والأشرار الأراذل منكم؟
فاسمعوا قولى إذا قلت، وأطيعوا أمرى إذا أمرت، واعرفوا نصيحتى إذا نصحت، واعتقدوا حزمى إذا حزمت، والتزموا عزمى إذا عزمت، وانهضوا لنهوضى، وقارعوا من قارعت، فو الله لئن أطعتمونى لا تغوون: ولئن عصيتمونى لا ترشدون، ولا تجتمعون خذوا للحرب أهبتها، وأعدّوا لها عدّتها، فإنها قد شبّت نارها، وعلا سناها (3) وتجرّد لكم فيها الفاسقون، كى يعذّبوا عباد الله، ويطفئوا نور الله.
عباد الله: ألا إنه ليس أولياء الشيطان من أهل الطمع والمكر والجفاء، بأولى فى الجدّ فى غيّهم وضلالهم وباطلهم، من أهل النزاهة والبر، والحق والإخبات (4)، بالجدّ فى حقهم، وطاعة ربهم، ومناصحة إمامهم.
إنى والله لو لقيتهم وحيدا منفردا، وهم ملء الأرض ما باليت بهم ولا استوحشت منهم، وإنى من ضلالهم الذى هم فيه، والهدى الذى نحن عليه، لعلى ثقة وبيّنة، ويقين وبصيرة من ربى، وإنى إلى لقاء ربى لمشتاق، ولحسن ثوابه لمنتظر راج، ولكن أسفا يعترينى، وحزنا يخامرنى، أن يلى أمر هذه الأمة سفهاؤها وفجارها، فيتخذوا مال الله دولا، وعباد الله خولا، والصالحين حربا، والقاسطين حزبا.
(1) وفى الإمامة والسياسة «بالجبروت» وهما واحد.
(2)
وفى ابن أبى الحديد «وتهتمون»
(3)
السنا: الضوء الساطع.
(4)
أخبت: خشع وتواضع.
وايم الله لولا ذلك لما أكثرت تأنيبكم وتأليبكم، وتحريضكم، ولتركتكم إذ ونيتم وأبيتم، حتى ألقاهم بنفسى متى حمّ (1) لى لقاؤهم، فو الله إنى لعلى الحق، وإنى للشهادة لمحبّ، أنا نافر بكم إن شاء الله، فانفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم فى سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون، ولا تثّاقلوا إلى الأرض، فتقرّوا بالخسف، وتبوءوا بالذل، ويكن نصيبكم الخسر، إن أخا الحرب اليقظان، ومن ضعف أودى (2)، ومن ترك الجهاد كان كالمغبون المهين، اللهم اجمعنا وإياهم على الهدى، وزهّدنا وإياهم فى الدنيا، واجعل الآخرة خيرا لنا ولهم من الأولى».
(شرح ابن أبى الحديد م 2: ص 35، والإمامة والسياسة 1: 113)
(1) أى قدر.
(2)
هلك.