الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[فى الزمان] خلافة أبى بكر الصديق رضى الله عنه
57 - رسالة مفتعلة على أبى بكر
وهى الرسالة التى زعم أبو حيّان التوحيدى أنّ أبا بكر أرسلها إلى الإمام علىّ على لسان أبى عبيدة بن الجرّاح، وما انضم إليها من كلام عمر، وما كان من جواب علىّ رضى الله عنهم (1)
(1) ليس عندى من ريب فى أن هذه الرسالة موضوعة مفتعلة. وقد كتبت عنها كلمة فى كتابى:
«ترجمة على بن أبى طالب» . ص 9. قلت: «أما ما رواه أبو حيان التوحيدى عن القاضى أبى حامد بن بشر من تلك الرسالة التى زعم أن أبا بكر بعث بها إلى على حين تلكأ عن مبايعته على لسان أبى عبيدة بن الجراح، وما انضم إلى ذلك من المقال الذى حمله إياه عمر ليبلغه عليا إلى آخر ما ورد فى هذه القصة، فيشهد الله أنا ما بدأنا قراءتها حتى ساورتنا منها ريبة، ولم نأت عليها حتى تجسمت فى نظرنا تلك الريبة، واستيقنا أنها قصة موضوعة منحولة، لما غلب عليها من الصنعة البديعية البينة الأثر فى أسلوبها مما لم يعرف فى رسائل أبى بكر وعمر وخطبهما ولا فى كلام أحد من أهل هذا العصر، فضلا عما فيها من إسهاب مديد لم يعهد منهم، وإن ما تراه فيها من الفقر القصيرة المسجوعة المجنسة ليحملك على الاعتقاد بأنها شبيهة بنسج البديع الهمذانى وأضرابه من كتاب العصر الذى نشأ فيه أبو حيان (القرن الرابع).
ولقد صدق حدسنا حين قرأنا تعليق ابن أبى الحديد شارح نهج البلاغة عليها (وسنورد لك كلمته) ثم إنك إذا تدبرت ما عزى إلى أبى حامد من قوله «هى والله من درر الحقاق المصونة، ومخبآت الصنادق فى الخزائن المحوطة، ومنذ حفظتها ما رويتها إلا للمهلبى فى وزارته، فكتبها عنى فى خلوة بيده عرفت أن هذا القول نفسه يحمل فى تضاعيفه تكذيبها.
وكيف يقول عمر لعلى فى مستهل خلافة أبى بكر «تأمل لإخوان فارس وأبناء الأصفر، قد جعلهم الله جزرا لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرمى لطعاننا، وتبعا لسلطاننا» مع أن المسلمين فى ذلك الحين لم يكونوا قد بدءوا الفتوح، ولا غزوا الفرس والروم!
أما كلمة ابن أبى الحديد عنها فهى قوله «الذى يغلب على ظنى أن هذه المراسلات والمحاورات والكلام كله مصنوع موضوع، وأنه من كلام أبى حيان التوحيدى لأنه لكلامه ومذهبه فى الخطابة والبلاغة أشبه وقد حفظنا كلام عمر ورسائله وكلام أبى بكر وخطبه فلم نجدهما يذهبان هذا المذهب، ولا يسلكان هذا السبيل فى كلامهما، وهذا كلام عليه أثر التوليد ليس يخفى، وأين أبو بكر وعمر من البديع وصناعة المحدثين؟ ومن تأمل كلام أبى حيان عرف أن هذا الكلام من ذلك المعدن خرج، ويدل عليه أنه أسنده-
قال أبو حيّان على بن محمد التّوحيدىّ البغدادىّ:
سمرنا ليلة عند القاضى أبى حامد أحمد بن بشر المروروذىّ (1) ببغداد. فتصرّف فى الحديث كل متصرّف، وكان غزير الرواية، لطيف الدّراية، فجرى حديث السّقيفة،
- إلى القاضى أبى حامد المروروذى، وهذه عادته فى كتاب البصائر يسند إلى القاضى أبى حامد كل ما يريد أن يقوله هو من تلقاء نفسه إذا كان كارها لأن ينسب إليه.
ومما يوضح لك أنه مصنوع أن المتكلمين على اختلاف مقالاتهم من المعتزلة والشيعة والأشعرية وأصحاب الحديث وكل من صنف فى علم الكلام والإمامة لم يذكر أحد منهم كلمة واحدة من هذه الحكاية، ولقد كان الرضى رحمه الله يلتقط من كلام أمير المؤمنين عليه السلام اللفظة الشاذة والكلمة المفردة الصادرة عنه فى معرض التألم والتظلم فيحتج بها، ويعتمد عليها، نحو قوله «ما زلت مظلوما مذ قبض رسول الله حتى قوم الناس هذا» وقوله «لقد ظلمت عدد الحجر والمدر» وقوله «إن لنا حقا إن نعطه نأخذه، وإن تمنعه نركب أعجاز الإبل، وإن طال السرى» وقوله «فصبرت وفى الحلق سجا وفى العين قذى» وقوله «اللهم إنى استعديك على قريش فإنهم ظلمونى حقى وغصبونى إرثى» . وكان الرضى إذا ظفر بكلمة من هذه فكأنما ظفر بملك الدنيا، ويودعها كتبه وتصانيفه، فأين كان الرضى عن هذا الحديث؟ وهلا ذكر فى كتاب (الشافى فى الإمامة) كلام أمير المؤمنين عليه السلام هذا؟ وكذلك من قبله من الإمامية كابن النعمان وبنى نوبخت، بنى بويه وغيرهم، وكذلك من جاء بعده من متأخرى متكلمى الشيعة وأصحاب الأخبار والحديث منهم إلى وقتنا هذا، وأين كان أصحابنا عن كلام أبى بكر وعمر له عليه السلام؟ وهلا ذكره قاضى القضاة فى المغنى مع احتوائه على كل ما جرى بينهم حتى إنه يمكن أن يجمع منه تاريخ كبير مفرد فى أخبار السقيفة، وهلا ذكر من كان قبل قاضى القضاة من مشايخنا وأصحابنا ومن جاء بعده من متكلمينا ورجالنا؟
وكذلك القول فى متكلمى الأشعرية، وأصحاب الحديث كابن الباقلانى وغيره، وكان ابن الباقلانى شديدا على الشيعة عظيم العصبية على أمير المؤمنين عليه السلام، فلو ظفر بكلمة من كلام أبى بكر وعمر فى هذا الحديث لملأ الكتب والتصانيف بها، جعلها هجيراه (بكسر الهاء والجيم مع تشديدها أى دأبه وشأنه) ودأبه والأمر فيما ذكرناه من وضع هذه القصة ظاهر لمن عنده أدنى ذوق من علم البيان ومعرفة كلام الرجال، ولمن عنده أقل معرفة بعلم السير، وأقل أنس بالتواريخ» اه.
وأقول أنا أيضا: إنى مع يقينى أنها منحولة موضوعة لم أوردها فى جملة الرسائل إلا لأنها أثر أدبى بليغ.
(1)
مرو الروذ: مدينة بخراسان. ينسبون إليها فيقولون: مروروذى بضم الراء الثانية. ومروذى بضم الراء مشددة.
فركب كلّ مركبا، وقال قولا، وعرّض بشئ، ونزع إلى فنّ، فقال هل فيكم من يحفظ رسالة لأبى بكر الصديق رضى الله عنه إلى علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه، وجواب علىّ عنها، ومبايعته إياه عقيب (1) تلك المناظرة؟ فقال الجماعة لا والله، فقال:
هى والله من درر الحقاق المصونة، ومخبّآت الصناديق فى الخزائن المحوطة (2) ومنذ حفظتها ما رويتها إلا لأبى محمد المهلّبىّ فى وزارته (3)، فكتبها عنى فى خلوة بيده. وقال:
لا أعرف فى الأرض رسالة أعقل منها ولا أبين، وإنها لتدلّ على علم وحلم، وفصاحة ونباهة، وبعد غور، وشدة غوص، فقال له العبّادانىّ (4): أيها القاضى! فلو أتممت المنّة علينا بروايتها؟ أسمعناها فنحن أوعى لها عنك من المهلّبى، وأوجب ذماما (5) عليك، فاندفع وقال:
حدّثنا الخزاعىّ بمكة، عن أبى ميسرة، قال حدثنا محمد بن فليح (6) عن عيسى ابن دأب، (7) نبّأ صالح بن كيسان ويزيد بن رومان، قالا: حدثنا هشام بن عروة، نبّأ أبو النّفّاح (8)، قال: سمعت مولاى أبا عبيدة يقول:
(1) قال صاحب مختار الصحاح «وأما قولهم: جاء عقيبه بمعنى بعده فليس فى الصحاح ولا فى التهذيب جوازه. ولم أرفيهما عقيبا ظرفا، بل بمعنى المعاقب فقط كالليل والنهار عقيبان لا غير» .
(2)
وفى رواية صبح الأعشى ونهاية الأرب «هى والله من بنات الحقائق ومخبآت الصنادق» .
(3)
هو الوزير أبو محمد الحسن بن محمد ينتهى نسبه إلى المهلب بن أبى صفرة، كان وزير معز الدولة بن بويه الديلمى ببغداد، وتوفى سنة 352، انظر ترجمته فى وفيات الأعيان ج 1: ص 142.
(4)
نسبة إلى عبادان، وهو موضع تحت البصرة قرب البحر الملح، منسوب إلى عباد بن حصين الحبطى لأنه أول من رابط به. وأما زيادة الألف والنون فهو لغة كانت مستعملة فى البصرة ونواحيها، كانوا إذا سموا موضعا أو نسبوه إلى رجل أو صفة يزيدون فى آخره ألفا ونونا كقولهم فى قرية عندهم منسوبة إلى زياد بن أبيه زيادان، وأخرى إلى عبد الله عبد الليان، وأخرى إلى بلال بن أبى بردة بلالان- انظر معجم البلدان لياقوت ج 6: ص 105.
(5)
الذمام: الحق والحرمة.
(6)
هكذا فى نهاية الأرب، وفى صبح الأعشى «محمد بن أبى فليح» . وجاء فى خلاصة تذهيب الكمال فى أسماء الرجال للخزرجى ص 265 «فليح بن سليمان الأسلمى أو الخزاعى أحد أئمة العلم مات سنة 168 هـ» .
(7)
كذا فى نهاية الأرب، وفى صبح الأعشى «عن عيسى بن دوأب بن المتاح» .
وفى شرح ابن أبى الحديد «عيسى بن دأب عن صالح بن كيسان عن هشام بن عروة عن أبيه عروة بن الزبير عن أبى عبيدة بن الجراح» .
(8)
مولى أبى عبيدة.
لما استقامت الخلافة لأبى بكر رضى الله عنه بين المهاجرين والأنصار بعد فتنة كاد الشيطان بها، فدفع الله شرّها، ويسّر خيرها، بلغ (1) أبا بكر عن علىّ تلكّؤ وشماس، وتهمّم ونفاس (2)، فكره أن يتمادى الحال فتبدو العورة، وتشتعل الجمرة، وتتفرّق ذات البين، فدعانى فحضرته فى خلوة، وكان عنده عمر بن الخطاب رضى الله عنه وحده فقال (3): يا أبا عبيدة ما أيمن (4) ناصيتك، وأبين الخير بين عينيك، وطالما أعزّ الله بك الإسلام، وأصلح شأنه على يديك، ولقد كنت من رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمكان المحوط، والمجل المغبوط (5)، ولقد قال فيك فى يوم مشهود «لكل أمة أمين، وأمين هذه الأمة أبو عبيدة (6)» ولم تزل للدين ملتجا، وللمؤمنين مرتجى، ولأهلك ركنا، ولإخوانك ردءا (7)، فقد أردتك لأمر له خطر مخوف، وإصلاحه من أعظم المعروف، ولئن لم يندمل جرحه بيسارك ورفقك ولم تجبّ حيّته برقيتك (8)، وقع اليأس، وأعضل البأس، واحتيج بعد ذلك إلى
(1) وفى ابن أبى الحديد «لما استقامت الخلافة لأبى بكر بين المهاجرين والأنصار، ولحظ بعين الوقار والهيبة بعد هنة كاد الشيطان بها يسر، فدفع الله شرها، وأدحض عسرها، فركد كيدها، وتيسر خيرها، وقصم ظهر النفاق والفسق بين أهلها- بلغ
…
».
(2)
من شمس الفرس كدخل شموسا وشماسا: أى منع ظهره. تهمم الشئ: طلبه. النفاس بالكسر: المنافسة. نفس عليه بخير كفرح: حسد. ونفس عليه الشئ نفاسة بفتح النون: لم يره أهلا له.
(3)
وفى شرح بن أبى الحديد: «فكره أن يتمادى الحال، وتبدو العورة، وتنفرج ذات البين، ويصير ذلك درية لجاهل مغرور، أو عاقل ذى دهاء، أو صاحب ملامة ضعيف القلب خوار العنان. فدعانى فى خلوة فحضرته وعنده عمر وحده. وكان عمر قبسا له وظهيرا معه يستضئ بناره، ويستملى من لسانه. فقال لى
…
الخ».
والدرية مخفف الدريئة، وهى فى الأصل: الحلقة يتعلم الطعن والرمى عليها. القبس بالتحريك: شعلة نار تقبس من معظم النار. والظهير: المعين.
(4)
من اليمن بالضم: وهو البركة.
(5)
أى المصون المحفوظ. غبطه بما نال كضرب: تمنى مثل نعمته من غير أن يريد زوالها عنه.
(6)
حديث شريف روى عن أنس رضى الله عنه. انظر أسد الغابة 3: 86، وسبب هذه التسمية أن أهل نجران لما صالحوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يؤدوا إليه فى كل عام ألفى حلة ألفا فى صفر وألفا فى رجب (كما قدمنا لك فى ص 76) قالوا له: أرسل معنا أمينا، فأرسل معهم أبا عبيدة، وقال لهم: هذا أمين هذه الأمة، وكان لذلك يدعى فى الصحابة بذلك. انظر السيرة الحلبية 2:335.
(7)
أى عونا.
(8)
اندمل الجرح: تماثل وبرئ. اليسار واليسر: السهولة، وفى رواية «بمسبارك». المسبار: ما يسير به الجرح ليعرف عمقه. الجب: القطع. الرقية: العوذة، وفى ابن أبى الحديد «ولم تخب جذوته برقيتك» وخبت النار تخبو: سكنت وانطفأت. الجذوة مثلثة: الجمرة.
ما هو أمرّ منه وأعلق، وأعسر منه وأغلق، والله أسأل تمامه بك، ونظامه على يديك، فتأتّ (1) له أبا عبيدة وتلطّف فيه، وانصح لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذه العصابة، غير آل جهدا، ولا قال حمدا، والله كالئك (2) وناصرك، وهاديك ومبصّرك، إن شاء الله. امض إلى علىّ، واخفض له جناحك، واغضض عنده صوتك، واعلم انه سلالة أبى طالب، ومكانه ممّن فقدناه بالأمس صلى الله عليه وسلم مكانه، وقل له:
*** «البحر مغرقة، والبرّ مفرقة، والجوّ أكلف، والليل أغدف (3)، والسماء جلواء، والأرض صلعاء، والصعود متعذّر، والهبوط متعسّر، والحقّ عطوف رءوف، والباطل عنوف عسوف (4)، والعجب قدّاحة الشر، والضّغن رائد البوار (5)، والتعريض شجار الفتنة، والقحة ثقوب (6) العداوة، وهذا الشيطان متّكئ على شماله
(1) تأتى للأمر: ترفق وأتاه من وجهه.
(2)
ألا يألو: قصر. قلاه كرمى ورضى: أبغضه، وفى ابن أبى الحديد «ولا قال جدا». كالئك:
أى: حافظك وحارسك.
(3)
مغرقة: أى مظنة الغرق، يخاف الغرق فيه ويخشى. مفرقة:
أى مكان فرق بالتحريك: أى خوف وفزع. والمعنى: أن الفتنة عامة قد شملت البحر والبر فهى مخوفة فى كل النواحى. أكلف وصف من الكلف بالتحريك: وهو لون بين السواد والحمرة. أغدف لم يرد فى كتب اللغة إلا فعلا، قال صاحب اللسان «وأغدف الليل: أقبل وأرخى سدوله، وأغدف الليل ستوره:
إذا أرسل ستور ظلمته وأنشد: حتى إذا الليل البهيم أغدفا» وفى ابن أبى الحديد «والليل أغلف» وقلب أغلف: كأنه غشى بغلاف، والمعنى هنا مظلم.
(4)
سماء جلواء: مصحية. الصلعاء: الأرض لا نبات فيها. العنوف أراد به كثير العنف، ولم ترد هذه الصيغة فى كتب اللغة. العسوف: الظلوم، صيغة مبالغة من الصف وهو الظلم، وفى ابن أبى الحديد «والباطل نسوف عصوف». النسوف مبالغة من النسف (النسوف أيضا من الخيل: الواسع الخطو، وناقة نسوف: تنسف التراب فى عدوها، وبعير نسوف:
يقتلع الكلأ من أصله بمقدم فيه) وريح عصوف وعاصف وعاصفة.
(5)
القداح والقداحة: حجر الزند، وفى ابن أبى الحديد «مقدحة الشر» والرائد: أصله المرسل فى طلب الكلأ، والبوار: الهلاك.
(6)
هكذا فى ابن أبى الحديد وصبح الأعشى: الشجار والمشجر ككتاب ومنبر ويفتحان: عود الهودج، وقيل: هو مركب أصغر من الهواج مكشوف الرأس، وقيل:
هو خشب الهودج فإذا غشى غشاءه صار هودجا. والمعنى: التعريض مركب الفتنة، وفى نهاية الأرب «سجال الفتنة» وسجال بالكسر جمع سجل بالفتح وهو الدلو العظيمة. والقحة بالكسر والفتح:
الوقاحة أى قلة الحياء. الثقوب والثقاب ككتاب: ما تثقب أى توقد به النار.
متحيّل (1) بيمينه، نافج حضنيه (2) لأهله، ينتظر الشّتات والفرقة، ويدبّ بين الأمة بالشّحناء والعداوة، عنادا لله عز وجل أوّلا، ولآدم ثانيا، ولنبيه صلى الله عليه وسلم ودينه ثالثا، يوسوس بالفجور، ويدلّى (3) بالغرور، ويمنّى أهل الشرور، يوحى إلى أوليائه زخرف القول غرورا بالباطل، دأبا له منذ كان على عهد أبينا آدم صلى الله عليه وسلم، وعادة له منذ أهانه الله تعالى فى سالف الدهر، لا منجى منه إلا بعضّ الناجذ (4) على الحق، وغضّ الطّرف عن الباطل، ووطء هامة (5) عدوّ الله بالأشدّ فالأشدّ، والآكد فالآكد (6)، وإسلام النفس لله عز وجل فى ابتغاء رضاه، ولا بد الآن من قول ينفع إذ قد أضرّ السكوت وخيف غبّه، ولقد أرشدك من أفاء (7) ضالّتك، وصافاك من أحيا مودّته بعتابك وأراد لك الخير من آثر البقاء معك.
ما هذا الذى تسوّل لك نفسك، ويدوى (8) به قلبك، ويلتوى عليه رأيك،
(1) التحيل: الاحتيال، وهو بالياء فى صبح الأعشى، وضبضه شارح نهاية الأرب بالباء الموحدة وقال:«المتحبل: المتصيد بالجبالة، وفى الأصل: «متحيل» بالياء المثناة وهو تصحيف» وأقول: إن الوارد فى كتاب اللغة من هذه المادة فى ذلك المعنى هو احتبل لا تحبل، وفى ابن أبى الحديد «باسط ليمينه» .
(2)
فى صبح الأعشى «خصيبه» وهو تصحيف، ونافج أورده صاحب اللسان فى مادة نفخ فقال «وفى حديث على: نافخ حضنيه أى منتفخ مستعد لأن يعمل عمله من الشر» وأورده أيضا فى مادة نفج بالجيم فقال: «وفى حديث على: نافجا حضنيه، كنى به عن التعاطم والتكبر والخيلاء» ونافجا:
أى رافعا، من نفج ثدى المرأة قميصها إذا رفعه، وقوله «فى حديث على» يريد ما ورد فى خطبته المعروفة بالشقشقية انظر نهج البلاغه 1: 17 وقد وردت فيه بالجيم وكذا فى شرح ابن أبى الحديد.
(3)
أخذه من قوله تعالى «فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ» قالوا فى تفسيره: دلاهما فى المعصية بأن غرهما، وقيل معناه: فأطمعهما، وأصله الرجل العطشان يدلى فى البئر ليروى من مائها فلا يجد فيها ماء. فوضعت البدلية موضع الإطماع فيما لا يجدى نفعا، وقيل: جرأهما على المعصية بغروره.
(4)
الناجذ: واحد النواجذ وهى أقصى الأضراس، ويقولون: عض عليه بالنواجذ: أى تمسك به كما يتمسك العاض بجميع أضراسه.
(5)
الهامة: الرأس.
(6)
وفى ابن أبى الحديد «والأحد فالأحد» .
(7)
الغب: عاقبة الشئ كالمغبة، وأفاء رد.
(8)
دوى كفرح: مرض، والدوى كالفتى: داء باطن فى الصدر، ويصح أن يكون «ويدوى» بالتشديد، من دوى الطائر: إذا دار فى طيرانه.
ويتخاوص (1) دونه طرفك، ويستشرى (2) به ضغنك، ويترادف معه نفسك، وتكثر عنده صعداؤك (3)، ولا يفيض به لسانك؟ أعجمة بعد إفصاح؟ أتلبيس (4) بعد إيضاح؟ أدين غير دين الله؟ أخلق غير خلق القرآن؟ أهدى غير هدى النبى صلى الله عليه وسلم؟ أمثلى تمشى له الضّراء، وتدبّ له الخمر (5) أم مثلك ينقبض عليه الفضاء، ويكسف (6) فى عينه القمر؟ ما هذه القعقعة بالشّنان؟ وما هذه الوعوعة (7) باللسان؟ إنك والله جدّ (8) عارف باستجابتنا لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وبخروجنا عن أوطاننا وأموالنا وأولادنا وأحبّتنا، وهجرة إلى الله عز وجل، ونصرة لدينه، فى زمان أنت فيه فى كنّ الصّبا، وخدر الغرارة، وعنفوان الشّبيبة (9)، غافل عما يشيب ويريب، لا تعى ما يراد ويشاد، ولا تحصّل ما يساق ويقاد، سوى ما أنت جار (10) عليه إلى غايتك التى إليها عدل بك، وعندها حطّ رحلك، غير مجهول القدر، ولا مجحود الفضل، ونحن فى أثناء ذلك نعانى أحوالا تزيل الرّواسى، ونقاسى
(1) تخاوص: إذا غض من بصره شيئا وهو فى ذلك يحدق النظر، وكذا إذا نظر إلى عين الشمس.
(2)
استشرى الأمر: عظم وتفاقم، وفى صبح الأعشى ونهاية الأرب «ويسرى فيه ظعنك» والسرى:
سير عامة الليل، وظعن كمنع ظعنا ويحرك: سار.
(3)
أى يتتابع، وفى صبح الأعشى وابن أبى الحديد «ويتراد» أى يتراجع، والصعداء: ثنفس طويل.
(4)
التلبيس: التخليط.
(5)
الضراء: الشجر الملتف فى الوادى، يقال: توارى الصيد منه فى ضراء، وفلان يمشى الضراء إذا مشى مستخفيا فيما يوارى من الشجر. والخمر: كل ماواراك من شجر أو بناء أو غيره، وخمر كفرح توارى، ومن أمثالهم:«يدب له الضراء ويمشى له الخمر» وهو مثل يضرب المرجل يختل صاحبه.
(6)
جاء فى اللسان والمصباح: «قال ثعلب: أجود الكلام خسف القمر وكسفت الشمس» .
(7)
القعقعة: تحريك الشئ اليابس الصلب مع صوت مثل السلاح وغيره، والشنان: جمع شن بالفتح وهو القربة البالية، وهم يحركونها إذ أرادوا حث الإبل على السير لتفزع فتسرع، ومن أمثالهم «ما يقعقع له بالشنان» مثل يضرب لمن لا يروعه ما لا حقيقة له. الوعوعة والوعواع: صوت الذئاب والكلاب.
(8)
قالوا: هذا العالم جد العالم، وهذا عالم جد عالم: يريد بذلك التناهى وأنه قد بلغ الغاية فيما يصفه به من الخلال.
(9)
الغرير والغر بالكسر: الشاب لا تجربة له، وقد غر يغر بالكسر غرارة بالفتح، عنفوان الشباب: أوله، أو أول بهجته.
(10)
رابه الأمر وأرابه: رأى منه ما يكرهه، والإشادة: رفع الصوت بالشئ، وتعريف الضالة، وفى ابن أبى الحديد:«سوى ما أنت جار عليه من أخلاق الصبيان أمثالك، وسجايا الفتيان أشكالك، حتى بلغت إلى غايتك هذه التى إليها أجريت، وعندها حط رحلك» .
أهوالا تشيب النّواصى، خائضين غمارها، راكبين تيّارها، نتجرّع صابها، ونشرج عيابها، ونحكم آساسها (1)، ونبرم أمراسها (2)، والعيون تحدّج (3) بالحسد، والأنوف تعطس بالكبر، والصدور تستعر بالغيظ، والأعناق تتطاول بالفخر، والألسنة (4) تشحذ بالمكر، والأرض تميد بالخوف، لا ننتظر عند المساء صباحا، ولا عند الصباح مساء، ولا ندفع فى نحر أمر (5) إلا بعد أن نحسو الموت دونه، ولا نبلغ مرادا إلا بعد جرع العذاب معه، ولا نقيم منارا إلا بعد الإياس (6) من الحياة عنده، فادين فى جميع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأب والأم، والخال والعمّ، والمال والنّشب (7)، والسّبد واللّبد (8)، والهلّة والبلّة (9)، بطيب أنفس، وقرّة أعين، ورحب أعطان (10) وثبات عزائم، وصحّة عقود (11) وطلاقة أوجه، وذلاقة ألسن.
هذا مع خبيثات أسرار، ومكنونات أخبار، كنت عنها غافلا، ولولا سنّك
(1) الرواسى أى الجبال الرواسى أى الثابتة، والنواصى جمع ناصية: وهى منبت الشعر فى مقدم الرأس، والصاب: عصارة شجر مر، وأشرج العيبة وشرحها وشرحها: أدخل بعض عراها فى بعض، والعيبة بالفتح: وعاء من أدم، وما يجعل فيه الثياب، والآساس جمع أس مثلثا: وهو أصل البناء وأصل كل شئ.
(2)
المرسة بالتحريك: الحبل والجمع مرس بالتحريك أيضا وجمع الجمع أمراس وقد يكون المرس للواحد
(3)
التحديج: التحديق.
(4)
فى صبح الأعشى ونهاية الأرب «والشفار» بالكسر جمع شفرة بالفتح وهى السكين العظيمة وحد السيف، والمراد بها الألسنة أيضا. وتميد: تضطرب.
(5)
فى صبح الأعشى «امرئ» .
(6)
أى اليأس.
(7)
النشب: المال الأصيل من الناطق والصامت.
(8)
(9)
يقال: جاءنا فلان فلم يأتنا بهلة ولا بلة، وما أصاب عنده هلة ولا بلة: أى شيئا والهلة من الاستهلال والفرح، والبلة: أدنى بلل من الخير، وحكاهما كراع جميعا بالفتح.
(10)
الرحب: الاتساع، والأعطان جمع عطن بالتحريك. ويقال:
رجل رحب العطن، وواسع العطن أى رحب الذراع كثير المال واسع الرحل، وفى ابن أبى الحديد «ورحب أعطاف» والأعطاف جمع عطف بالكسر وهو الجانب.
(11)
وفى صبح الأعشى ونهاية الأرب «وصحة عقول» وذلاقة اللسان: حدته.
لم تكن عن شئ منها ناكلا (1)، كيف وفؤادك مشهوم، وعودك معجوم (2)، وغيبك مخبور، والخير منك كثير، والآن قد بلّغ الله بك، وأرهص (3) الخير لك، وجعل مرادك بين يديك، وعن علم أقول (4) ما تسمع، فارتقب زمانك، وقلّص أردانك، ودع التقعّس والتجسّس لمن لا يظلع لك إذا خطا، ولا يتزحزح عنك إذا عطا (5)، فالأمر غضّ، والنفوس فيها مضّ، وإنك أديم هذه الأمة فلا تحلم لجاجا، وسيفها العضب فلا تنب اعوجاجا، وماؤها العذب فلا تحل أجاجا (6)، والله لقد سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذا الأمر، فقال لى «يا أبا بكر: هو لمن يرغب عنه لا لمن يجاحش عليه، ولمن يتضاءل عنه لا لمن ينتفج إليه (7)، هو لمن يقال له هو لك لا لمن يقول هو لى».
ولقد شاورنى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى الصّهر، فذكر فتيانا من قريش فقلت: أين أنت من على؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنى لأكره لفاطمة ميعة (8) شبابه، وحداثة سنّه، فقلت له: متى كنفته يدك، ورعته عينك، حفّت بهما (9)، البركة، وأسبغت عليهما النعمة، مع كلام كثير خاطبته به رغّبته فيك، وما كنت
(1) نكل عنه كضرب ونصر وعلم نكولا: نكص وجبن.
(2)
المشهوم والشهم: الذكى الفؤاد المتوقد، وعجم عوده كنصر: عضه ليعلم صلابته من خوره.
(3)
فى كتب اللغة: أرهص الله فلانا للخير أى جعله معدنا للخير ومأتى. وفى صبح الأعشى ونهاية الأرب «وأنهض» .
(4)
وفى ابن أبى الحديد: «فاسمع ما أقول لك، واقبل ما يعود قبوله عليك، ودع التجسس والتعسس
…
الخ».
(5)
التقليص. التشمير، والأردان: جمع ردن بالضم، وهو أصل الكم، والتقعس والتقاعس: التأخر، وظلع البعير كمنع: غمز فى مشيه. وعطا الظبى: تطاول إلى الشجر ليتناول منه.
(6)
الغض: الطرى، ومضه الشئ مضا: بلغ من قلبه الحزن به كأمضه، والأديم: الجلد، وحلم الجلد كفرح: وقع فيه الحلم بالتحريك: وهو دود يقع فى الجلد فيأكله فإذا دبغ وهى موضع الأكل، وسيف عضب: قاطع، ونبا السيف عن الضريبة: كل، فلا تحل: أى فلا تتحول ولا تصر، وماء أجاج: أى ملح مر.
(7)
يجاحش: يدافع، ونفج وانتفج وتنفج: ارتفع، ومنه انتفج جنبا البعير: أى ارتفعا، وانتفجت الأرنب: أى وثبت، وفى ابن أبى الحديد «لا لمن يشمخ إليه» .
(8)
ميعة الشباب: أوله.
(9)
أى بعلى وفاطمة، وأسبغ الله عليه النعمة. أتمها.
عرفت منك فى ذلك حوجاء ولا لوجاء (1)، فقلت ما قلت وأنا أرى مكان غيرك، وأجد رائحة سواك، وكنت لك إذ ذاك خيرا منك الآن لى، ولئن كان عرّض بك رسول الله صلى الله عليه وسلم فى هذا الأمر فلم يكن معرضا عن غيرك، وإن كان قال فيك فما سكت عن سواك.
وإن تلجلج (2) فى نفسك شئ فهلمّ فالحكم مرضىّ، والصواب مسموع، والحق مطاع، ولقد نقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الله عز وجل، وهو عن هذه العصابة راض وعليها حدب (3) يسرّه ما سرها، ويسوءه ما ساءها، ويكيده ما كادها، ويرضيه ما أرضاها، ويسخطه ما أسخطها. أما تعلم أنه لم يدع أحدا من أصحابه وأقاربه وسجرائه (4) إلا أبانه بفضيلة، وخصّه بمزيّة، وأفرده بحالة لو أصفقت الأمة عليه لأجلها، لكان عنده إيالتها وكفالتها، أتظن أنه صلى الله عليه وسلم ترك الأمة سدى بذدا (5) عباهل مباهل، طلاحى (6) مفتونة بالباطل، معنونة عن الحق، لا رائد ولا ذائد، ولا ضابط
(1) الحوحاء: الحاجة وكذا اللوجاء، ويقال: ما لى فيه حوجاء ولا لوجاء، ولا حويجاء ولا لويجاء أى ما لى فيه حاجة.
(2)
تلجلج: تردد، وفى ابن أبى الحديد «اختلج» .
(3)
حدب عليه كفرح: تعطف، وفى صبح الأعشى ونهاية الأرب «حذر» .
(4)
سجراء جمع سجير. وهو الخليل الصفى، وأصفقوا على كذا: أطبقوا. وآل على القوم إيالا وإيالة:
ولى.
(5)
سدى بالضم والفتح والضم أكثر: أى مهملة للواحد والجمع، وبددا: أى متفرقة- يقال: جاءت الخيل بددا بددا على المصدر، وتفرقوا بداد، وفى الدعاء:«اللهم أحصهم عددا واقتلهم بددا» يروى بكسر الباء جمع بدة بالكسر وهى الحصة والنصيب: أى اقتلهم حصصا مقسمة لكل واحد حصته ونصيبه، ويروى بالفتح: أى متفرقين من التبديد، أى بدد شملهم.
(6)
عبهل الإبل: أهملها، وإبل عباهل ومعبهلة: أى مهملة لا راعى لها ولا حافظ، قال الراجز:
عباهل عبهلها الوراد. وأبهل الإبل: أهملها أيضا كعبهلها. والعين مبدلة من الهمزة وهى مبهلة ومباهل للجمع (وقد ضبط مباهل فى لسان العرب والقاموس بضم الميم وكسر الهاء، وكتب مصحح اللسان على هامشه: «كذا وقع فى الأصل ميم مباهل مضموما وكذا فى القاموس، وليس فيه لفظ الجمع فانظر وحرر اه» والظاهر أنه بفتح أوله كما فى عباهل) وطلح البعير كمنع طلاحة بالفتح: أى كل وأعيا، فهو طلح بالفتح والكسر وطليح وطالح، وإبل أطلاح وطلاح بالكسر وطلح كركع وطلائح، وجاء أيضا إبل طلاحى بفتح الضاء والحاء: أى تشتكى بطونها من أكل الطلح (والطلح كشمس: شجر عظام) قال فى المسان «وأنكر أبو سعيد إبل طلاحى إذا أكلت الطلح، قال: والطلاحى هى الكالة المعيبة، قال: ولا يمرض الطلح الإبل، لأن رعى الطلح ناجع فيها» وفى ابن أبى الحديد «طلاحا» .
ولا حائط ولا رابط، ولا ساقى ولا واقى، ولا هادى ولا حادى (1)؟ كلّا! والله ما اشتاق إلى ربه تعالى، ولا سأله المصير إلى رضوانه وقربه، إلا بعد أن ضرب المدى، وأوضح الهدى، وأبان الصّوى، وأمّن المسالك والمطارح، وسهّل المبارك والمهايع (2)، وإلّا بعد أن شدخ يا فوخ الشرك بإذن الله، وشرم وجه النفاق لوجه الله سبحانه. وجدع أنف الفتنة فى ذات الله، وتفل فى عين الشيطان بعون الله، وصدع (3) بملء فيه ويده بأمر الله عز وجل.
وبعد، فهؤلاء المهاجرون والأنصار عندك ومعك فى بقعة واحدة، ودار جامعة، إن استقالونى (4) لك، وأشاروا عندى بك، فأنا واضع يدى فى يدك، وصائر إلى رأيهم فيك، وإن تكن الأخرى فادخل فى صالح ما دخل فيه المسلمون، وكن العون على مصالحهم، والفاتح لمغالقهم (5)، والمرشد لضالّتهم، والرادع لغوايتهم، فقد أمر الله تعالى بالتعاون على البرّ والتقوى والتناصر على الحق، ودعنا نقضى هذه الحياة الدنيا بصدور بريئة من الغلّ، ونلقى الله تعالى بقلوب سليمة من الضّغن.
وبعد، فالناس ثمامة (6) فارفق بهم، واحن عليهم، ولن لهم، ولا تسوّل لك
(1) عننت الفرس وأعننته: حبسته بالعنان، وفى صبح الأعشى «مغبونة» وهو تصحيف، وفى ابن أبى الحديد «ملوية» والذائد: الدافع، وفى صبح الأعشى «زائد» وهو تحريف، وحائط: أى حافظ وصائن من حاطه، وفى ابن أبى الحديد «خابط» وهو تحريف. والحادى: سائق الابل.
(2)
المدى: الغاية، والمعنى: بين الغاية. والصوى جمع صوة كقوة: وهى حجر يكون علامة فى الطريق. والمطارح: الأماكن البعيدة، طرحه: أبعده، والطروح كصبور: المكان البعيد، وطرحت به النوى كل مطرح: أى نأت به. والمهايع: جمع مهيع كمقعد، وهو الطريق البين.
(3)
شدخ: كسر، واليافوخ: ملتقى عظم مقدم الرأس ومؤخره. وشرمه كضرب: شقه، وجدع أنفه: قطعه. وتفل كنصر وضرب: بصق. وصدع كمنع: جهر، وقيل فى قوله تعالى:
«فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ» أى شق جماعاتهم بالتوحيد أو اجهر بالقرآن أو اظهر أو احكم بالحق وافصل بالأمر أو اقصد بما تؤمر أو افرق به بين الحق والباطل.
(4)
وفى ابن أبى الحديد «إن استقادوا لك» واستقاد له: أعطاه مقادته له وانقاد له.
(5)
المغالق جمع مغلق كمنبر: وهو ما يغلق به الباب كالمغلاق.
(6)
الثمامة: واحدة الثمام، وهو نبت ضعيف قصير لا يطول، وفى حديث عمر «اغزوا والغزو حلو خضر قبل أن يصير ثماما ثم رماما، ثم حطاما» .
نفسك فرقتهم، واختلاف كلمتهم، ولا تشق نفسك بنا خاصّة منهم، واترك ناجم الحقد حصيدا (1)، وطائر الشر واقعا، وباب الفتنة مغلقا، فلا قال ولا قيل، ولا لوم ولا تعنيف، ولا عتاب ولا تثريب (2)، والله على ما نقول شهيد، وبما نحن عليه بصير».
*** قال أبو عبيدة: فلما تأهّبت للنهوض، قال عمر رضى الله عنه: كن لدى الباب هنيهة (3) فلى معك دور من القول، فوقفت وما أدرى ما كان بعدى، إلا أنه لحقنى بوجه يبدى (4) تهلّلا وقال لى: قل لعلىّ:
«الرّقاد محلمة، والهوى مقحمة (5)، «وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ» ، وحق مشاع أو مقسوم، ونبأ ظاهر أو مكتوم، وإن أكيس الكيسى (6) من منح الشارد تألّفا، وقارب البعيد تلطّفا، ووزن كل شئ بميزانه، ولم يخلط خبره بعيانه، ولم يجعل فتره مكان شبره، دينا كان أو دنيا، ضلالا كان أو هدى، ولا خير فى علم مستعمل فى جهل، ولا خير فى معرفة مشوبة بنكر، ولسنا كجلدة رفغ البعير بين العجان والذّنب، وكل صال فبناره يصلى (7)، وكل سيل فإلى قراره يجرى، وما كان سكوت هذه العصابة إلى هذه الغاية لعى (8) وشىّ، ولا كلامها اليوم لفرق
(1) نجم النبات: طلع وظهر. حصيدا: محصودا.
(2)
فى صبح الأعشى «ولا تبيع» وهو تصحيف وصوابه «تبيغ» وتبيغ عليه الأمر: اختلط. والدم: هاج وغلب. والتثريب: اللوم.
(3)
هن كأخ معناه شئ، وهو كناية عن كل اسم جنس، والأنثى هنة بفتح النون. وقالوا هنت بالتاء ساكنة النون فجعلوه بمنزلة بنت وأخت، ولامها محذوفة، ففى لغة هى هاء فيصغر على هنيهة، ومنه يقال: مكث هنيهة أى قليلا من الزمان، وفى لغة هى واو فيصغر على هنية، وقيل هنية هو القياس، وهنيهة على إبدال الهاء من الياء فى هنية.
(4)
فى صبح الأعشى «يندى» كيفرح،
(5)
قحم فى الأمر كنصر: رمى بنفسه فيه فجأة بلا روية.
(6)
الكيس كشمس: خلاف الحمق، وهو كيس كجيد والجمع كيسى كمرضى.
(7)
الرفغ بالضم والفتح: أصل الفخد من باطن، وكل موضع يجتمع فيه الوسخ من الجسد، كالإبط وغيره. العجان: الاست. ووجه الشبه الخسة وضعة المنزلة، صلى النار كفرح وصلى بها: قاسى حرها.
(8)
العى: الحصر. الشى: إتباع له. قالوا جاء بالعى والشى وفلان عي شى وشوى، وما أعياه وأشياه وأشواه: وفى ابن أبى الحديد «لعى وحصر، ولا كلامها اليوم لفرق وحذر» . الفرق: الخوف.
أو رفق، وقد جدع الله بمحمد صلى الله عليه وسلم أنف كل ذى كبر، وقصم ظهر كل جبّار، وقطع لسان كل كذوب، فماذا بعد الحق إلا الضلال، ما هذه الخنزوانة التى فى فراش رأسك؟ ما هذا الشّجا المعترض فى مدارج أنفاسك؟ ما هذه القذاة (1) التى أعشت ناظرك؟ وما هذه الوحرة (2) التى أكلت شراسيفك (3)؟ وما هذا الذى لبست بسببه جلد النّمر (4) واشتملت عليه بالشّحناء والنّكر؟
لشدّ ما استسعيت (5) لها، وسريت سرى أنقد (6) إليها، إن العوان لا تعلّم الخمرة (7) ما أحوج الفرعاء إلى فالية (8) وما أفقر الصّلعاء إلى حالية، ولقد قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر مقيّد محبّس، ليس لأحد فيه ملمس، لم يسيّر فيك قولا، ولم يستنزل لك قرآنا، ولم يجزم فى شأنك حكما، لسنا فى كسرويّة كسرى، ولا فى قيصرية قيصر، تأمّل لإخوان فارس وأبناء الأصفر، قد جعلهم الله جزرا (9) لسيوفنا، ودريئة لرماحنا، ومرمى لطعّاننا، وتبعا لسلطاننا، بل نحن فى نور نبوّة،
(1) الخنزوانة: الكبر. فراش الرأس: عظام رقاق تلى القحف. ألشجا ما اعترض فى الحلق من عظم ونحوه. القذى: ما يقع فى العين والشراب.
(2)
الوحرة: وزغة تكون فى الصحارى أصغر من العظاءة (بكسر العين) وهى على شكل سام أبرص. وقيل: الوحرة: ضرب من العظاء وهى صغيرة حمراء تعدو فى الجبابين لها ذنب دقيق تمضغ به إذا عدت وهى أخبث العظاء، لا تطأ طعاما ولا شرابا إلا شمته، ولا يأكله أحد إلا أخذه قئ وربما هلك آكله. والوحر بالتحريك أيضا: غش الصدر وبلابله، ويقال: إن أصل هذا من تلك الدويبة شبهوا العداوة ولزوقها بالصدر بالتزاق الوحرة بالأرض.
(3)
شراسيف جمع شرسوف: كعصفور وهو غضروف معلق بكل ضلع، أو مقط الضلع وهو الطرف المشرف على البطن.
(4)
من أمثالهم «ليست له جلد النمر» أى تنكرت له. مثل يضرب فى إظهار العداوة الشديدة وكشفها. وقالوا أيضا: بنمر له أى تنكر وتغير، وأصله من النمر لأنه من أنكر السباع وأخبثها، ولا تلقاه أبدا إلا متنكرا غضبان. قالوا وكانت ملوك العرب إذا جلست لقتل إنسان لبست جلود النمر ثم أمرت بقتل من تريد قتله.
(5)
يريد به «سعيت» أو هو على بابه أى لشد ما طلبت إلى نصرائك أن يسعوا حتى تنال الخلافة، وفى كتب اللغة استسعى العبد: كلفه من العمل ما يؤدى به عن نفسه إذا أعتق بعضه ليعتق به ما بقى.
(6)
أنقد: اسم للقنفذ معرفة لا يصرف، كقولهم: أسامة للأسد وذؤالة للذئب. ومن أمثالهم «أسرى من أنقد» و «بات بليلة أنقد» إدا بات ساهرا، وذلك أن القنفذ يسرى ليله أجمع، لا ينام الليل كله.
(7)
العوان من النساء: التى كان لها زوج. والخمرة: اسم هيئة من الاختمار، وهو لبس الخمار بالكسر (ما نسميه بالطرحة) أى أنها لا تحتاج إلى تعليم الاختمار، وهو مثل يضرب للرحل المجرب.
(8)
الفرعاء: التامة الشعر. فالية: اسم فاعل من فلى رأسه من القمل يفليه كفلاه.
(9)
تركهم جزرا للسباع والطير أى قطعا. والدريئة: الحلقة يتعلم عليها الطعن والرمى.
وضياء رسالة، وثمرة حكمة، وأثرة رحمة، وعنوان نعمة، وظلّ عصمة، بين أمة مهدية بالحق والصدق، مأمونة على الرّتق والفتق، لها من الله تعالى قلب أبىّ، وساعد قوىّ ويد ناصرة، وعين باصرة.
أتظنّ ظنّا يا علىّ أن أبا بكر وثب على هذا الأمر مفتاتا على الأمة، خادعا لها، ومتسلّطا عليها؟ أتراه امتلخ أحلامها، وأزاغ أبصارها، وحلّ عقودها، وأحال عقولها، واستلّ من صدورها حميّتها (1)، ونكث رشاءها (2)، وصبّ ماءها، وأضلّها عن هداها، وساقها إلى رداها، وجعل نهارها ليلا، ووزنها كيلا، ويقظتها رقادا، وصلاحها فسادا؟ إن كان هكذا فإنّ سحره لمبين، وإنّ كيده لمتين، كلّا والله بأى خيل ورجل، وبأى سنان ونصل، وبأى منّة وقوة، وبأى مال وعدّة، وبأى أيد وشدة، وبأى عشيرة وأسرة، وبأى قدرة ومسكنة، وبأى تدرّع وبسطة (3)؟ لقد أصبح بما وسمته منيع الرّقبة، رفيع العتبة، لا والله لكن سلا عنها فولهت (4) له، وتطامن لها فلصقت به، ومال عنها فمالت إليه، واشمأزّ دونها فاشتملت عليه، حبوة حباه (5) الله بها، وعاقبة بلّغه الله إليها، ونعمة سربله الله جمالها، ويد أوجب الله عليه شكرها، وأمة نظر الله به إليها، وطالما حلّقت فوقه فى أيام النبى صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت إليها، ولا يرتصد وقتها، والله تعالى أعلم بخلقه، وأرأف بعباده، يختار، ما كان لهم الخيرة (6)، وإنك بحيث لا يجهل موضعك من بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وكهف الحكمة، ولا يجحد حقّك فيما آتاك ربك من العلم، ومنحك من الفقه والدين، هذا إلى مزايا خصصت بها، وفضائل اشتملت عليها، ولكن لك من يزاحمك بمنكب
(1) امتلخها: انتزعها. الأحلام: جمع حلم بالكسر وهو العقل. الحمية: الأنفة.
(2)
نكث الحبل: نقضه. والرشاء: الحبل.
(3)
رجل: جمع راجل وهو ضد الفارس. والمنة: القوة. والأيد: القوة أيضا، وكذا المكنة.
البسطة: السعة.
(4)
الوله بالتحريك: ذهاب العقل والتحير من شدة الوجد، وفعله كفرح
(5)
حباه: أعطاه. والحيوة مثلثة، والحباء ككتاب: العطاء.
(6)
الخيرة: اسم من الاختيار.
أضخم من منكبك، وقربى أمسّ من قرباك، وسنّ أعلى من سنك، وشيبة أورع من شيبتك، وسيادة لها أصل فى الجاهلية، وفرع فى الإسلام، ومواقف ليس لك فيها جمل ولا ناقة (1)، ولا تذكر منها فى مقدّمة ولا ساقة (2) ولا تضرب فيها بذراع ولا إصبع، ولا تخرج منها ببازل ولا هبع (3)، ولم يزل أبو بكر حبّة قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلاقة نفسه، وعيبة سره، ومفزع رأيه ومشورته، وراحة كفّه، ومرمق (4) طرفه، وذلك كلّه بمحضر الصادر والوارد من المهاجرين والأنصار، شهرته مغنية عن الدليل عليه.
ولعمرى إنك أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قرابة، ولكنه أقرب منك قربة (5)، والقرابة لحم ودم، والقربة نفس وروح، وهذا فرق عرفه المؤمنون ولذلك صاروا إليه أجمعون، ومهما شككت فى ذلك، فلا تشكّ أن يد الله مع الجماعة، ورضوانه لأهل الطاعة، فادخل فيما هو خير لك اليوم، وأنفع لك غدا، والفظ من فيك ما يعلق بلهاتك، وانفث سخيمة صدرك عن تقاتك، فإن يك فى الأمد طول، وفى الأجل فسحة، فستأكله مريئا أو غير مرئ (6)، وستشربه هنيئا أو غير هنئ، حين لا رادّ لقولك إلا من كان آيسا منك، ولا تابع لك إلا من كان طامعا فيك، يمضّ إهابك ويعرك أديمك، ويزرى على هديك، هنالك تقرع السّنّ (7) من ندم،
(1) من أمثال العرب «لا ناقتى فى هذا ولا جملى» قاله الحارث بن عباد البكرى حين قتل جساس ابن مرة كليبا وهاجت الحرب بين بكر وتغلب، وكان الحارث اعتزلهما.
(2)
ساقة الجيش: مؤخره.
(3)
جمل وناقة بازل وبزول كصبور: وذلك فى تاسع سنيه، وليس بعده سن تسمى. والهبع: الفصيل فى آخر النتاج.
(4)
علاقة السيف بالكسر: حمالته. والعلاقة بالفتح ويكسر: الحب الملازم للقلب. رمقه كنصره:
نظر إليه، وفى ابن أبى الحديد «وعلاقة همه، وعيبة سره، ومثوى حزنه، وراحة باله، ومرمق طرفه» .
(5)
القربة: الوسيلة
(6)
اللهاة: اللحمة المشرفة على الحلق. السخيمة: الحقد، والتقاة:
التقوى. وأصلها وقية قلبت واوها المضمومة تاء كما فى تؤدة وتخمة، والياء ألفا. ومرأ الطعام مثلثة الراء مراءة فهو مرئ هنئ حميد المغبة.
(7)
مضه يمضه بضم الميم وفتحها، وأمضه: آلمه وأحرقه.
الإهاب: الجلد. وكذا الأديم. وزرى عليه وأزرى: عابه. وقرع سنه: حرقه ندما.
وتجزع الماء ممزوجا بدم، وحينئذ تاسى (1) على ما مصى من عمرك، ودارج قوّتك (2) فتودّ أن لو سقيت بالكأس التى أبيتها، ورددت إلى حالتك التى استغويتها، ولله تعالى فينا وفيك أمر هو بالغه، وغيب هو شاهده، وعاقبة هو المرجوّ لسرّائها وضرّائها، وهو الولى الحميد الغفور الودود».
*** قال أبو عبيدة: فمشيت متزمّلا أنوء كأنما أخطو على أمّ رأسى، فرقا (3) من الفرقة، وشفقا على الأمة، حتى وصلت إلى علىّ رضى الله عنه فى خلاء، فأبثثته (4) بثّى كله، وبرئت إليه منه، ورفقت به، فلما سمعها ووعاها، وسرت فى مفاصله حميّاها، قال: حلّت معلوّطة (5)، وولّت مخروّطة. وأنشأ يقول:
إحدى لياليك فهيسى هيسى
…
لا تنعمى الليلة بالتّعريس (6)
نعم يا أبا عبيدة، أكلّ هذا فى أنفس القوم يحسّون به ويضطبعون (7) عليه؟
قال أبو عبيدة. فقلت: لا جواب لك عندى، إنما أنا قاض حقّ الدّين، وراتق فتق المسلمين، وسادّ ثلمة الأمة، يعلم الله ذلك من جلجلان (8) قلبى، وقرارة نفسى.
فقال على رضى الله عنه: «والله ما كان قعودى فى كسر (9) هذا البيت قصدا
(1) أسى كفرح: حزن.
(2)
وفى ابن أبى الحديد «وانقضى وانقرض من دارج قومك، وتود أن لو سقيت بالكأس التى سقيتها غيرك، ورددت إلى الحال التى كنت تكرهها فى أمسك» . درج القوم: انقرضوا.
(3)
متزملا: أى متلففا، وفى ابن أبى الحديد «متباطئا» وناء بالحمل: نهض مثقلا. الفرق: الخوف.
(4)
أبثثته السر: أظهرته له. والبث: الحال. ورفق به وعليه مثلثة.
والحميا من كل شئ: شدته. حميا الكأس: سورتها وشدتها وأخذها بالرأس. وحميا الشباب: أوله ونشاطه.
(5)
يقال: اعلوط فلان رأسه. إذا ركب رأسه وتقحم على الأمر بغير روية. واخروط البعير فى سيره: إذا أسرع.
(6)
هاس يهيس هيسا: سار أى سير كان. وهو مثل يضرب للرجل يأتى الأمر يحتاج فيه إلى الجد والاجتهاد. وعرس القوم: نزلوا فى آخر الليل للاستراحة كأعرسوا والأول أكثر.
(7)
اضطبع الشئ: أدخله تحت ضبعيه- أى عضديه- والمعنى هنا يشتملون عليه وينطوون. وفى شرح ابن أبى الحديد: «يستبطنونه ويضطغنون عليه» والاضطغان: الاشتمال أيضا.
(8)
جلجلان القلب: حبته.
(9)
أى فى جانبه.
للخلاف، ولا إنكارا للمعروف، ولا زراية على مسلم، بل لما قد وقذنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فراقه، وأودعنى من الحزن لفقده، وذلك أننى لم أشهد بعده مشهدا إلا جدّد علىّ حزنا، وذكرنى شجنا (1)، وإن الشوق إلى اللحاق به كافّ عن الطمع فى غيره، وقد عكفت على عهد الله أنظر فيه، وأجمع ما تفرق منه، رجاء ثواب معدّ لمن أخلص لله عمله، وسلّم لعلمه ومشيئته، وأمره ونهيه، على أنى ما علمت (2) أن التظاهر علىّ واقع. ولا عن الحق الذى سيق إلىّ دافع، وإذ قد أفعم (3) الوادى بى، وحشد النادى من أجلى، فلا مرحبا بما ساء أحدا من المسلمين وسرّنى؛ وفى النفس كلام، لولا سابق عقد، وسالف عهد، لشفيت غيظى بخنصرى وبنصرى، وخضت لجّته بأخمصى ومفرقى (4) ولكننى ملجم إلى أن ألقى الله ربى، وعنده أحتسب ما نزل بى، وإنى غاد إن شاء الله إلى جماعتكم، مبايع صاحبكم، صابر على ما ساءنى وسرّكم، ليقضى الله أمرا كان مفعولا، وكان الله على كل شئ شهيدا».
قال أبو عبيدة: فعدت إلى أبى بكر رضى الله عنه. فقصصت عليه القول على غرّه (5)، ولم أختزل شيئا من حلوه ومرّه، وبكرّت غدوة (6) إلى المسجد، فلما كان صباح يومئذ، إذا علىّ يخترق الجماعة إلى أبى بكر رضى الله عنهما فبايعه، وقال خيرا، ووصف جميلا، وجلس زمّيتا (7)، واستأذن للقيام فمضى، وتبعه عمر مكر ما له مستثيرا لما عنده.
(1) وقذه: صرعه وسكنه وغلبه وتركه عليلا. والشجن: الهم والحزن.
(2)
وفى ابن أبى الحديد «على أنى أعلم» .
(3)
أى ملئ.
(4)
الخنصر بكسر الخاء والصاد. وبفتح الصاد. الإصبع الصغرى. البنصر: الإصبع بين الوسطى والخنصر. والمعنى: لشفيت غيظى بيدى. والأخمص من باطن القدم: ما لم يصب الأرض. المفرق كمقعد ومجلس:
وسط الرأس. وهو الذى يفرق فيه الشعر.
(5)
الغر: كل كسر منثن فى ثوب أو جلد. ويقولون:
اطو الثوب على غره. أى على كسره الأول كما كان مطويا. والمعنى هنا: على أصله.
(6)
الغدوة: البكرة. أو ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس.
(7)
الزميت ككريم: الوقور. والزميت كسكيت: أوقر منه.
وقام أبو بكر إليه فأخذ بيده وقال: إن عصابة أنت منها يا أبا الحسن لمعصومة، وإن أمة أنت فيها لمرحومة، ولقد أصبحت عزيزا علينا، كريما لدينا، نخاف الله إذا سخطت، ونرجوه إذا رضيت، ولولا أنى شدهت (1)، لما أجبت إلى مادعيت إليه، ولكنى خفت الفرقة، واستئثار الأنصار بالأمر على قريش، وأعجلت عن حضورك ومشاورتك، ولو كنت حاضرا لبايعتك ولم أعدل بك، ولقد حطّ الله عن ظهرك ما أثقل كاهلى به، وما أسدّ من ينظر الله إليه بالكفاية، وإنا إليك لمحتاجون، وبفضلك عالمون، وإلى رأيك وهديك فى جميع الأحوال راغبون، وعلى حمايتك وحفيظتك (2) معوّلون، ثم انصرف وتركه مع عمر، فالتفت علىّ إلى عمر فقال:
يا أبا حفص والله ما قعدت عن صاحبكم كارها له (3)، ولا أتيته فرقا منه، ولا أقول ما أقول تعلّة (4)، وإنى لأعرف مسمى (5) طرفى، ومحطّ قدمى، ومنزع قوسى، وموقع سهمى، ولكن قد أزمت على فأسى (6) ثقة بربى فى الدنيا والآخرة، وقد تخلفت إعذارا إلى الله وإلى من يعلم الأمر الذى جعله لى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأتيت فبايعت حفظا للدين، وخوفا من انتشار أمر الله.
فقال له عمر رضى الله عنه: كفكف غربك، واستوقف سربك (7) ودع العصا بلحائها، والدّلاء على رشائها (8)، فإنّا من حلفها وورائها، إن قدحنا أورينا،
(1) شده. دهش.
(2)
الحفيظة: اسم بمعنى المحافظة والحفاظ.
(3)
وفى ابن أبى الحديد «جزعا على ما صار إليه» .
(4)
التعلة والعلالة: ما يتعلل به.
(5)
اسم مكان من سما وكذا ما بعده.
(6)
الفأس من اللجام: الحديدة القائمة فى الحنك.
وأزم الفرس على فأس اللجام كضرب: قبض وعض. والمعنى هنا: كتمت ما فى نفسى.
(7)
الغرب: الحدة. والسرب: القطيع. وفى ابن أبى الحديد «كفكف من غربك، ونهنه من سربك» ونهنهه عن الأمر: كفه وزجره. والسرب: النفس.
(8)
اللحاء: القشر. والرشاء: الحبل.
وإن متحنا أروينا، وإن قرحنا (1) أدمينا، وقد سمعت أماثيلك التى لغّزت (2) بها صادرة عن صدر أكله الجوى، ولو شئت لقلت على مقالتك ما إن سمعته ندمت على ما قلت، وزعمت أنك قعدت فى كسر بيتك لما وقذك به رسول الله صلى الله عليه وسلم من فقده، فهو وقذك ولم يقذ غيرك؟ بل مصابه أعظم وأعمّ من ذلك، وإن من حقّ مصابه أن لا تصدع شمل الجماعة بفرقة لا عصام لها (3)، ولا يؤمن كيد الشيطان فى بقائها، هذه العرب حولنا، والله لو تداعت علينا فى صبح نهار لم نلتق فى مسائه، وزعمت أن الشوق إلى اللّحاق به كافّ عن الطمع فى غيره! فمن علامة الشوق إليه نصرة دينه ومؤازرة أوليائه ومعاونتهم، وزعمت أنك عكفت على عهد الله تجمع ما تفرق منه، فمن العكوف على عهد الله النصيحة لعباد الله، والرأفة على خلق الله، وبذل ما يصلحون به، ويرشدون عليه، وزعمت أنّك لم تعلم أن التظاهر وقع عليك، وأىّ حقّ لطّ (4) دونك؟ قد سمعت وعلمت ما قال الأنصار بالأمس سرا وجهرا، وتقلّبت عليه بطنا وظهرا، فهل ذكرتك أو أشارت بك أو وجدت رضاهم عنك؟ هل قال أحد منهم بلسانه إنك تصلح لهذا الأمر؟ أو أوما بعينه؟ أو همهم (5) فى نفسه، أتظن أن الناس ضلّوا من أجلك، وعادوا كفارا زهدا فيك، وباعوا الله تحاملا عليك؟ لا والله، لقد جاءنى عقيل بن زياد الخزرجىّ فى نفر من أصحابه، ومعهم شرحبيل بن يعقوب الخزرجى وقالوا: إن عليا ينتظر الإمامة، ويزعم أنه أولى بها من غيره، وينكر على من يعقد الخلافة، فأنكرت عليهم، ورددت القول فى نحورهم حيث قالوا: إنه ينتظر الوحى،
(1) ورى الزند كوعى وولى: خرجت ناره وأوريته. متح الماء كمنع: نزعه. قرحه كمنع أيضا: جرحه.
(2)
الأماثيل: جمع أمثولة بالضم، تمثل إذا أنشد بيتا ثم آخر. ثم آخر وهى الأمثولة.
وفى ابن أبى الحديد «أمثالك التى ألغزت بها» وألغز كلامه وفيه ولغز: عمى مراده.
(3)
العصام: حبل تشد به القربة. ورباط كل شئ.
(4)
لط حقه: جحده، وفى ابن أبى الحديد «وزعمت أن التظاهر عليك واقع، أى تظاهر وقع عليك: وأى حق استؤثر به دونك؟ » .
(5)
الهمهمة: الكلام الخفى، وفى صبح الأعشى «أوهم» .
ويتوكّف (1) مناجاة الملك، فقلت: ذاك أمر طواه الله بعد نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، أكان الأمر معقودا بأنشوطة، أو مشدودا بأطراف ليطة (2)؟ كلا! والله لا عجماء بحمد الله إلا وقد أفصحت، ولا شوكاء (3) إلا وقد تفتّحت، ومن أعجب شأنك قولك: ولولا سالف عهد، وسابق عقد، لشفيت غيظى بخنصرى وبنصرى، وهل ترك الدين لأهله أن يشفوا غيظهم بيد أو بلسان؟ تلك جاهلية وقد استأصل الله شأفتها واقتلع جرثومتها، وهوّر ليلها، وغوّر سيلها، وأبدل منها الرّوح والرّيحان (4)، والهدى والبرهان، وزعمت أنك ملجم، ولعمرى إن من اتقى الله، وآثر رضاه، وطلب ما عنده، أمسك لسانه، وأطبق فاه، وغلب عقله ودينه على هواه، وجعل سعيه لما وراه.
وأما قولك: إنى لأعرف منزع قوسى، فإذا عرفت منزع قوسك عرف غيرك مضرب سيفه، ومطعن رمحه، وأما ما تزعمه من الأمر الذى جعله رسول الله صلى الله عليه وسلم لك فتخلّفت إعذارا إلى الله وإلى العارفة به من المسلمين، فلو عرفه المسلمون لجنحوا إليه وأصفقوا عليه، وما كان الله ليجمعهم على العمى، ولا ليضربهم بالضلال بعد الهدى، ولو كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيك رأى، وعليك عزم، ثم بعثه الله، فرأى اجتماع أمته على أبى بكر لما سفّه آراءهم، ولا ضلّل أحلامهم، ولا آثرك عليهم، ولا أرضاك بسحطهم، ولأمرك باتباعهم والدخول معهم فيما ارتضوه لدينهم».
(1) التوكف: التوقع والانتظار.
(2)
الأنشوطة: عقدة تحل إذا جذب أحد طرفيها.
والليطة: قشرة القصبة.
(3)
أى ولا نبتة شوكاء يريد ذات شوك، والذى فى كتب اللغة «شجرة شاكة بتخفيف الكاف وشوكة كفرحة وشائكة ومشيكة بضم فكسر: ذات شوك، وحلة شوكاء: عليها خشونة الجدة، أقول: وقد لوحظ فى وضع شوكاء للحلة الجديدة أن ملمسها خشن كأنه مغشى بالشوك.
(4)
الشأفة: الأصل، وقرحة تخرج فى أسفل القدم فتكوى فتذهب، واستأصل الله شأفته: أزاله من أصله: أو أذهبه كما تذهب تلك القرحة. وجرثومة الشئ: أصله، وهوره: أزاله وأذهبه. من هور البناء إذا هدمه، وفى ابن أبى الحديد «ونور ليلها» والروح: الراحة. والريحان: الرزق الطيب.