الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
هذا وقد اعترفت أمهات المؤمنين لعائشة (ض) بهذه المكانة العالية رغم مشاعر الغيرة، لأن الحب الذي يبدو من فطنة عائشة لأسرار النبي أعمق وأقوى، فما منهن من لصقت بنفسه كما لصقت بها، ومن نفذت إلى معانيه كما نفذت إليها، ومن عاشرته في روحه وطويته، كما عاشرته بروحها وطويتها. ومن شدة حبها له صلى الله عليه وسلم أنها لو استيقظت من النوم ولم تجده جنبها يصيبها القلق والاضطراب، تقول: كنت نائمة إلى جنب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففقدته من الليل - والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح -فلمسته بيدي، فوضعت يدي على قدميه وهو ساجد يقول:((أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، وبك منك لا أحصي ثناء عليك، أنت كما أثنيت على نفسك)) (1). كما تحكي لنا قصة أخرى من نفس النوعية فتقول: فقدت رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة، فظننت أنه ذهب إلى بعض نسائه، فتجسسته فإذا هو راكع أو ساجد يقول:((سبحانك اللهم وبحمدك لا إله إلا أنت، فقالت: بأبي أنت وأمي، إني لفي شأن وإنك لفي آخر)) (2).
نماذج من غيرة عائشة على ضرائرها:
كذلك فقدته ذات ليلة وقد مضى من الليل نصفه، فبدأت تبحث عنه، حتى وجدته في البقيع، وهو رافع يديه يدعو ربه، فانحرفت، فلما أصبحت
(1) أخرجه الإمام مالك في الموطأ كتاب النداء للصلاة برقم 497، كما أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 486، والترمذي في سننه كتاب الدعوات برقم 3493،
وأبو داود في سننه كتاب الصلاة برقم 879، وابن ماجه في سننه كتاب الدعاء برقم 3841، قوله: ((والبيوت يومئذ ليس فيها مصابيح، أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الصلاة برقم 513، ومسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 512، والنسائي في سننه كتاب الطهارة برقم 168.
(2)
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الصلاة برقم 485، والنسائي في سننه كتاب التطبيق برقم 1131.
أخبرته بما حدث، فقال صلى الله عليه وسلم:((فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ فقالت: نعم)) (1).
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه، فمرة طارت القرعة لعائشة وحفصة. وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان بالليل سار مع عائشة يتحدث، فقالت لها حفصة: ألا تركبين الليلة بعيري؟ وأركب بعيرك؟ تنظرين وأنظر؟ فقالت: بلى، فركبت، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى جمل عائشة وعليه حفصة، فسلم عليها ثم سار، حتى نزلوا، وافتقدته عائشة، فلما نزلوا جعلت رجلها بين الإذخر، وتقول:((يا رب سلط علي عقربا، أو حية تلدغني، رسولك ولا أستطيع أن أقول له شيئا)) (2).
وإذا تأملنا في الفقرة الأخيرة من الحديث تبين لنا مدى غيرتها الشديدة، والأنوثة التي فيها، والمنافسة القوية التي كانت فيما بين الضرائر.
ولما آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه لمدة شهر وأقام في مشربة له عند حجرة عائشة، واعتزلهن، كان لهذا أثر عميق على أمهات المؤمنين، وإذا هن يبكين
(1) تعددت الألفاظ لهذا الحديث إلا أن فحواها واحد، وقد أخرجه الإمام مسلم في صحيحه عن عائشة (ض) قالت: لما كانت ليلتي التي هو عندي - تعني النبي صلى الله عليه وسلم -انقلب فوضع نعليه عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشه، فلم يلبث إلا ريثما ظن أني قد رقدت، ثم انتعل رويدا، وأخذ رداءه رويدا، ثم فتح الباب رويدا، وخرج رويدا، وجعلت درعي في رأسي واختمرت، وتقنعت إزاري، وانطلقت في إثره، حتى جاء البقيع فرفع يديه ثلاث مرات، فأطال، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر فأحضرت وسبقته، فدخلت، فليس إلا أن اضطجعت،
فدخل فقال: ما لك يا عائشة حشيا رابية، قالت: لا، قال: لتخبريننى أو ليخبزني اللطيف الخبير، قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي فأخبرته الخبر، قال: فأنت السواد الذي رأيت أمامي؟ قالت: نعم
…
الحديث.
أخرجه مسلم في صحيحه كتاب الجنائز برقم 974، والنسائي في سننه كتاب الجنائز رقم 2037 وفي كتاب عشرة النساء رقم 3963/ 3964، وأخربه ابن ماجه مختصرا في سننه كتاب ما جاء في الجنائز برقم 1546، وكتاب إقامة الصلاة والسنة فيها برقم 389، والترمذي في سننه كتاب الصوم برقم 739.
(2)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب النكاح رقم 5211، ومسلم في صحيحه كتاب فضائل الصحابة برقم 2445، وابن ماجه في سننه الجزء الأول من الحديث كتاب النكاح برقم 1970.
من شدة ما أصابهن من حزن وقلق، حتى لم تستطع إحداهن أن تدخل عليه من دون إذن، وعائشة (ض) كانت تعد الشهر عدا تنتظر انتهاءه، فلما كمل الشهر أول ما بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بعائشة (ض)(1).
هذا وقد كانت أمهات المؤمنين على درجات متفاوتة من الناحية الاقتصادية في بيوت آبائهن، فبعضهن كن من الأسر الثرية ذات الأموال والخيرات، وكن تربين في الترف ونعمة العيش، فنازعن النبي صلى الله عليه وسلم، وألحفن عليه بطلب المزيد من النفقة والزينة، فنزلت آية التخيير (2)، فخيرهن النبي صلى الله عليه وسلم بين التسريح والصبر على نصيبهن، فاخترن أجمل النصيبين بهن، وهو الصبر على سنة الأنبياء وأمهات المؤمنين، ورضين بهذه الحياة النبوية بكل فرح وسرور وسعادة، فبدأ النبي صلى الله عليه وسلم بعائشة أول امرأة من نسائه كلهن (3)، فاختارته وقالت:((يا رسول الله لا تخبر أزواجك أني اخترتك)) (4)، وهنا تظهر غيرتها واستئثارها به صلى الله عليه وسلم دون غيرها، وذلك لكي تنال فضل التقدم في الاختيار، وفي كلامها هذا إيحاء إلى الطبيعة النسائية وفطرة المرأة التي جبلت عليه. وفي نهاية أيام هذا الحادث نزلت آية الإرجاء (5)، حيث خير النبي صلى الله عليه وسلم بإبقاء من أراد من أزواجه في كنفه، ومفارقة الأخريات، إلا أنه صلى الله عليه وسلم لم يرض بمفارقة أي واحدة منهن، نظرا لما كان يحمل صلى الله عليه وسلم بين جنبيه من الرحمة والشفقة
(1) يراجع: صحيح البخاري كتاب النكاح برقم 5191، وكتاب المظالم والغصب برقم 2468، ومسلم كتاب الطلاق برقم 1479.
(2)
وهي قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28، 29].
(3)
انظر: صحيح البخاري كتاب المظالم والغصب رقم 2468 وكتاب تفسير القرآن رقم 4786.
(4)
أخرجه الإمام مسلم في صحيحه كتاب الطلاق برقم 1475 بلفظ ((لا تخبر نساءك))، وأخرجه الترمذي في سننه كتاب تفسير القرآن برقم 338.
(5)
وهي قوله تعالى: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ} [الأحزاب:51].