الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وعندها حسان بن ثابت ينشدها شعرا يشبب بأبيات له وقال:
حصان ززان ما تزن بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت له عائشة: لكنك لست كذلك (1)، (تشير إلى أنه كان أحد الخائضين في حديث الإفك).
موقف المستشرق ((وليم موير)) من حديث الإفك:
هذا وقد وقع الكاتب المؤرخ المستشرق ((وليم موير)) فريسة أخطاء فادحة وفظيعة أدبية وتاريخية في حكايته لحديث الإفك. ولا يسعني في هذا الكتاب الموجز أن أستعرض جملة أخطائه التاريخية والأدبية، وسأكتفي بذكر مثال واحد لكل من الخطأ التاريخي والأدبي.
يقول وليم موير: ((لما قفل المسلمون من بني المصطلق ووصلوا المدينة، حملوا معهم هودج عائشة (ض)، فوضعوه عند الباب قرب المسجد النبوي أمام النبي صلى الله عليه وسلم، فلما فتحوه لم يجدوا فيه عائشة، وبعد وقت قليل ظهر صفوان بن المعظل (الصحابي المهاجر) فكانت عائشة جالسة على البعير وهو يقودها)).
ثم يقول: ((لقد أسرع صفوان بن المعطل لكي يلحق بالجيش، لكنه لم يقدر عليه، فلما نزل الناس وضربوا الخيام جاءت عائشة ودخلت المدينة على مرأى من الناس، يقودها صفوان بن المعطل)).
وكل من هذين التصريحين يخالف ما ورد في سائر كتب الأحاديث والسير، ولا شك أن غرض ((وليم موير)) من ذلك لهو بعينه غرض كل متشبث بحديث الإفك ليتخذ منه سبيلا إلى الطعن في الإسلام، وتشويه صورة الواقعة بشكل أسوأ وأفضح، لأنه قد ثبت باتفاق علماء السير والتاريخ أن صفوان قد أدرك الجيش في الظهيرة قبل الوصول إلى المدينة، فلا علاقة للموضوع بالمدينة المنورة.
(1) صحيح البخاري كتاب المغازي رقم 4146، وصحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة رقم 2488.
كان الناس يطعنون في حسان بن ثابت ويسبونه، لكن عائشة (ض) لم تسبه قط بلسانها فحسب بل إنها كانت تمنع الناس أن يسبوه.
عن هشام عن أبيه قال: ذهبت أسب حسان عند عائشة فقالت: ((لا تسبه فإنه كان ينافح عن النبي صلى الله عليه وسلم)(1).
وهذه عائشة (ض) تبين لنا سبب الامتناع عن سب حسان بن ثابت (ض) كما في الحديث الآتي:
عن مسروق قال: دخل حسان بن ثابت على عائشة فشبب وقال:
حصان رزان ما ترى بريبة
…
وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
قالت: لست كذاك، قال مسروق: فقلت لها: لم تأذنين له يدخل عليك وقد أنزل الله {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ
…
} فقالت: فأي عذاب أشد من العمى، وقالت: إنه كان ينافح أو يهاجي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2).
إلا أن السير وليم موير يرى سببا آخر لمنع عاشة (ض) عن سب حسان فيقول: ((لقد أنشد حسان قصيدة رائعة مدح فيها عائشة وعفتها وحسنها وذكاءها وفطنتها وجمالها الجسمي، وأدى هذا المدح الغني بالتملق والمجاملة إلى إيجاد علاقة بينهما)).
ويا ليت لو بين لي هذا المستشرق كلمة واحدة في قصيدة حسان التي تثني على حسن عائشة وروعتها وبهائها ورقة بدنها ووضاءتها، ولعله فاته أن حسان بن ثابت (ض) حينما أنشد هذه الأبيات عند عائشة (ض) كان أعمى، وكانت هي قد بلغت من عمرها أربعين عاما، فمن أين لها الجسم الرقيق في مثل هذا العمر، وقد سبق أن ذكرنا أنها قد سمنت وبدنت وعمرها خمسة عشر عاما (3).
(1) صحيح البخاري كتاب المناقب برقم 3531 وكتاب المغازي برقم 4145 وكتاب الأدب 6150، صحيح الإمام مسلم كتاب فضائل الصحابة برقم 2487.
(2)
صحيح البخاري كتاب المغازي برقم 4146، وصحيح الإمام مسلم برقم 2488.
(3)
والدليل عليه ما أخرجه أبو داود عن عاشة (ض) أنها كانت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر =
وأغرب من ذلك كله مما يدعو إلى الاستعجاب والضحك قوله:
((كانت تلك القصيدة تتضمن الثناء على جسم عائشة الرقيق النحيف، وكانت تتأذى بالهجاء للجسم النحيف الرقيق، فلما بلغ حسان إلى الفقرة التي تشير إلى جسمها النحيف، أوقفته لبرهة من الزمن بالتدلل وذمته على سمنته)).
وقد استعرضت سائر دفاتر التاريخ الإنساني واستطلعت كل السجلات والصحائف، وتصفحت الكتب، ومع كل هذا التتبع لم أجد لها هذه الأوصاف الخلقية والخلقية أبدا.
وفي الأخير بدأت أبحث في الموضوع على منهج المستشرق وليم نفسه وطريقه التي سلكها فبدا لي أن التقصير لم يكن في الصورة، وإنما كان مترشحا وناتجا عن ذلك الذهن والنظر الذي يزعم أنه أعرف الأوروبيين باللغة العربية، وأبرعهم فيها وأقدرهم على تعيين فحواها ومرادها.
وواقع الأمر أن سوء فهمه أتى من تفسيره للخبر فقد ورد أن البيت الثاني من القصيدة هو ((وتصبح غرثى من لحوم الغوافل)) فقالت له عائشة: ((ولكنك لست كذلك)).
وأكل لحم الغير يطلق في اللغة العربية على الغيبة، وذكر أحد بما يكرهه، وكان غرض حسان من هذا الشعر أن عائشة (ض) لا تغتاب أحدا، ولا تطعن في أحد، فقالت له عائشة تعريضا: ولكنك لست كذلك، تعني: أنه يغتاب، وتشير بذلك إلى أن حسان كان أحد الخائضين في حديث الإفك، فلم تقصد أبدا أنها كانت نحيفة الجسم وهو متين وسمين (وحاشاها من ذلك) ولا شك أن مثل هذه الجهالة الجهلاء، وعدم الإلمام بمعاني وفحوى الكلمات، وتحميل اللفظ ما لا يحتمله هذا كله لا يوجد إلا في غرائب أوروبة وعجائبها.
وفي النهاية نشكره على أنه قد استبعد حديث الإفك حيث قال بعد الإشارة إليه: ((إن سيرة عائشة قبل الحادث وبعده لتوجب علينا أن نعتقد
= قالت: فسابقته فسبقته على رجلي، فلما حملت اللحم سابقته فسبقني، فقال: هذه بتلك السبقة (باب السبق على الرجل برقم 2587).