الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مؤقتة زائلة أن صفية (ض) كانت من حزب عائشة (ض) ومؤيدة لها في كل الأمور.
هذا وقد تبين لنا في ضوء ما قدمنا مدى اهتمام عائشة (ض) بصواحبها وضرائرها واحترامها إياهن وتوقيرهن، والنظر إليهن بنظرة العزة والإكرام والتعامل معهن بأقصى درجات اللطف والإخلاص والعدل، كما عرفنا كيف كانت تستقبلهن برحابة الصدر وسعة القلب، وتذكرهن بالخير، وتثني عليهن وعلى محاسنهن، وتسرع إلى التوبة والرجوع إلى الله إذا صدر منها خطأ نظرا إلى الطبيعة البشرية، ولم يكن من عادتها أنها هي التي تبدأ الهجوم على ضرائرها في أمر ما، نعم إذا بادرت واحدة بالهجوم عليها فإنها كذلك لا تلزم الصمت، ومع ذلك كله فإنها تثني على كل واحدة وتمدحهن.
تنبيه على بعض الروايات الضعيفة:
كل منا يعلم أن الإخلاص والحب والوفاء بين الضرائر أصبح من الأشياء العزيزة النادرة والقليلة الوجود في مجتمعنا اليوم، إلا أن شأن أمهات المؤمنين في هذا الأمر كان مختلفا عن غيرهن من نساء العالم، فقد كن على أعلى مستوى وأرفع مكانة في الخصائص والمميزات مما كان توقعه منهن العالم البشري، وقد حققن تلك الأحلام التي رأتها دنيا النساء تجاههن، ولم يخيبن آمالهن في شيء والحمد لله على ذلك. فكن يغرن ويتنافسن لا محالة كما تغار النساء في كل مكان، ولكنهن لم ينسين قط أنهن نساء نبي، يتأدبن بأدبه، ويتطلعن إلى رضاه، ويفزعن من غضبه.
أما ما يوجد من بعض الصور المشوهة غير اللائقة بهن، فإنها في واقع الأمر إما من صنع المنافقين ونسيجهم ومكرهم، أو أنها محاولات من بعض الفرق والطوائف التي تجهل مصيرها، وتغفل عن عواقبها، مثل المرأة التي كانت في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وتحرش بين الأزواج المطهرات، وتعترف بخطئها هذا، فسألها الناس كيف كن يثقن بقولك؟ فقالت: لو لم يكن موثوقا بها
عندهن ما قبلن منها (1).
ورغم أن معظم الأحاديث والروايات التاريخية التي سبق أن ذكرناها هي مستقاة من كتب الصحاح، إلا أنه يوجد فيها بعض من نقاط الضعف، أو تشويه للصورة الأصلية، ولو قمنا بعملية الفحص والتحقيق والدراسة سيتضح لنا ذلك بكل وضوح وفي صورة مشرقة.
1 -
مثلا عندنا قصة كسر القصعة، فهذه القصة موجودة في سائر كتب الأحاديث تقريبا، إلا أن البخاري ومسلم لم ينصا على أن التي كسرت القصعة هي عائشة (ض)، بينما الأحاديث الواردة في السنن والمسانيد تنص على أنها كانت عائشة، مثل سنن أبي داود، سنن النسائي ومسند الإمام أحمد بن حنبل وغيرها، والغريب في الأمر أنهم يروون ذلك عن عائشة نفسها، وأول راوية لهذا السند هي جسرة بنت دجاجة، وهي وإن وثقها العجلي (2) وابن حبان (3) لكن يقول عنها البخاري: عند جسرة عجائب (4)، وزعم ابن حزم أن حديثها باطل (5).
والراوي الثاني هو أفلت العامري، وهو وإن وثقه بعض المحدثين إلا أن معظمهم على تضعيفه.
قال الإمام أحمد: ما أرى به بأسا (6)(وهذا دليل الضعف)، ونقل الخطابي عن أحمد قوله: إن أفلت راو مجهول، وقال البغوي في شرح السنة:
(1) انظر: الإصابة 8/ 180 ولسان الميزان 1/ 453.
(2)
انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر العسقلاني 435/ 12 رقم الترجمة 2749.
(3)
انظر: كتاب الثقات لابن حبان البستي 121/ 4 رقم الترجمة 2097، وانظر كذلك تهذيب التهذيب 12/ 435 رقم الترجمة 2749.
(4)
انظر: التاريخ الكبير للإمام البخاري 67/ 2 رقم الترجمة 1710، وتهذيب التهذيب 435/ 12 رقم الترجمة 2749.
(5)
نفس المصدر.
(6)
الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 346/ 2 رقم الترجمة 1316، وانظر: ميزان الاعتدال في نقد الرجال 125/ 2 رقم الترجمة 1483.
ضعف أحمد هذا الحديث، لأنه من رواية أفلت، وهو مجهول (1)، وقال ابن حزم: مشهور ولا معروف بالثقة، وحديثه هذا باطل (2).
2 -
وأما ما حدث بين عائشة وزينب (ض) من التقاول والتشدد في الكلام في الليل، فإن هذه الرواية مع أنها أخرجها الإمام مسلم في صحيحه، لكن تبين لنا بعد إمعان النظر والتأمل فيها ما يلي:
1 -
الراوي الأول لهذا الحديث هو الصحابي الجليل أنس بن مالك، الذي توقف عن التردد على حجرات أمهات المؤمنين من عام 5هـ، وهذه الحادثة وقعت بعد السنة الخاسة من الهجرة.
2 -
إن هذه الواقعة وقعت داخل حجرة عائشة (ض) حيث لم يكن أنس (ض) موجودا في الحجرة، وبالتالي فاحتمال وقوع الانقطاع بين أنس والراوي الذي قبله وارد.
3 -
لو سلم أن أنسا (ض) كان في المسجد النبوي الشريف، وكانت أصوات امهات المؤمنين تقرع أذنيه، فكيف أمكته مشاهدة ما يجري في داخل الحجرة، من مد النبي صلى الله عليه وسلم يده وما إلى ذلك، مع أن البيوت يومئذ لم يكن فيها مصباح، والأغرب من ذلك كله أنه كيف اطلع على ما في خاطر عائشة (ض)، أنها خافت من أبيها، وأنه سوف يزجرها، ونظرا إلى هذه الأسباب فإن هذه الرواية فيها شيء من قبيل عدم الأخذ بالحيطة والتحري (3).
(1) تهذيب التهذيب 1/ 320 رقم الترجمة 668.
(2)
نفس المصدر.
(3)
إذا قلنا إن أنسا .......... (ض) لم يأخذ بالحيطة والتحري في هذه الرواية فإن هذا القول سوف
يؤدي إلى إثارة الشبهة والشك في كثير من تلك الروايات التي يرويها بعض الصحابة مرسلا مع أن مراسيل الصحابة مقبولة إجماعا، وأنس (ض) كان من أولئك الحفظة النقلة لسنن الرسول صلى الله عليه وسلم الذين اختارهم الله سبحانه ليكونوا أساتذة الإسلام، والأمناء عليه بعده، بل كان (ض) من كبار حفاظهم، فلم يسبقه في رواية السنة سوى اثنين منهم وهما أبو هريرة وعبد الله بن عمر (ض)، ووراء كثرة روايته للسنة عاملان: أولهما: ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم أثناء خدمته له مدة عشر سنوات مما ساعده أن يتلقى الكثير من السنة عنه صلى الله عليه وسلم مباشرة، وثانيهما: امتداد عمره (ض) بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أعطاه =
3 -
وفي سنن الترمذي عن صفية بنت حيي (ض) قالت: دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغني عن حفصة وعائشة كلام، فذكرت ذلك له، فقال:((ألا قلت: فكيف تكونان خيرا مني؟ وزوجي محمد وأبي هارون وعمي موسى، وكان الذي بلغها أنهم قالوا: نحن أكرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم منها، وقالوا: نحن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وبنات عمه)) (1) قال الترمذي: هذا حديث غريب، لا نعرفه من حديث صفية إلا من حديث هاشم الكوفي، وليس إسناده بذلك القوي.
هذه الرواية تناقلتها كل كتب السير ولكنها لم تذكر تعليق الإمام الترمذي على الرواة، وفيما يأتي نذكر أقوال المحدثين في هاشم الكوفي الذي عليه مدار الإسناد:
قال الإمام أحمد: لا أعرفه (2)، وقال ابن معين: ليس بشيء (3)، وقال أبو حاتم: ضعيف الحديث (4)، وقال ابن عدي: مقدار ما يرويه لا يتابع عليه (5)، ومع ذلك كله فإن رواية أنس (ض) ليس فيها ذكر عائشة.
4 -
وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل عن علي بن زيد عن أم محمد امرأة أبيه عن عائشة قالت: كانت عندنا أم سلمة، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ثم جنح الليل، قالت: فذكرت شيئا صنعه بيده، قالت: وجعل لا يفطن لأم سلمة، قالت: وجعلت أومئ إليه حتى فطن، قالت أم سلمة: أهكذا الآن، أما كانت
= فسحة زمنية كبيرة لتعليم السنة وتحفيظها للناس، فقد عاش بعد النبي صلى الله عليه وسلم نيفا وثمانين سنة، وبالعكس فقد امتاز (ض) بحيطته الكبيرة في رواية السنة حذر الخطأ، وكان هو القائل لأصحابه: لولا أن أخشى أن أخطئ لحدثتكم بأشياء سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه قال: من كذب علي متعمدا فليتبوا مقعده من النار، كما أنه كان يختم حديثه بقوله أو كما قال، يراجع لمزيد من التفصيل: كتاب ((أنس بن مالك الخادم الأمين والمحب العظيم)) للأساذ عبد الحميد طهماز، ط: دار القلم دمشق.
(1)
أخرجه الترمذي في سننه باب فضل أزواج النبي صلى الله عليه وسلم برقم 3894، والحاكم في المستدرك 31/ 4 برقم 6790، والطبراني في الأوسط 236/ 8 برقم 8503 وفي
الكبير 24/ 75 برقم 196.
(2)
(3)(4)(5) تهذيب التهذيب 17/ 11 ترجمة رقم 37.
واحدة منا عندك إلا في خلابة كما أرى، وسبت عائشة وجعل النبي صلى الله عليه وسلم ينهاها، فتأبى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم سبيها، فسبتها حتى غلبتها، فانطلقت أم سلمة على علي وفاطمة، فقالت: إن عائشة سبتها وقالت لكم وقالت لكم .... الحديث (1).
والراوي الثاني لهذا الحديث هو علي بن زيد، يقول فيه ابن سعد: ولد وهو أعمى، وكان كثير الحديث وفيه ضعف ولا يحتج به، وقال صالح بن أحمد عن أبيه: ليس بالقوي، وقد روى عنه الناس، وقال أحمد: ليس شيء، وقال حنبل عن أحمد: ضعيف الحديث، وقال يحيىى: ضعيف، وفي رواية: ضعيف في كل شيء، وقال الجوزجاني: واهي الحديث، ضعيف، وفيه ميل عن القصد، لا يحتج بحديثه، وقال الحاكم أبو أحمد: ليس بالمتين عندهم، وقال أبو زرعة: ليس بالقوي، وقال البخاري: لا يحتج به، وقال سليمان بن حرب عن حماد بن زيد: حدثنا علي بن زيد وكان يقلب الأحاديث، وفي رواية: كان يحدثنا اليوم بالحديث ثم يحدثنا غدا، فكأنه ليس كذلك (2).
هذا وكتب السير غنية بعدد كبير من هذه الوقائع، ومعظمها مستقاة من رواية الواقدي والكلبي، وفيما يأتي نذكر مثالا واحدا للتوضيح:
5 -
روى أصحاب الصحاح قصة زواج النبي صلى الله عليه وسلم من ابنة رئيس قبيلة، فأنزلت في بيت في نخل في بيت أميمة بنت النعمان بن شراحيل، ومعها دايتها حاضنة لها، فلما دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم قال:((هبي نفسك لي، قالت: وهل تهب الملكة نفسها للسوقة؟ قال: فأهوى بيده يضع يده عليها لتسكن، فقالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد عذت بمعاذ، ثم خرج علينا فقال: يا أبا أسيد اكها رازقيتين وألحقها بأهله)) (3).
(1) مسند الإمام أحمد بن حنبل 6/ 130 برقم.2503.
(2)
انظر هذه الأقوال كلها في تهذيب التهذيب 284/ 7 رقم الترجمة 545.
(3)
أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الطلاق برقم 5257، وابن الجارود في المنتقى 190/ 1 برقم 758 ط: مؤسسة الكتب الثقافية ببيروت 1408هـ، وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد 339/ 4 باب في متعة الطلاق، وأحمد في مسنده 5/ 339 رقم 22920.
كانت هذه رواية صحيح البخاري، أما رواية ابن سعد ففيها زيادات، وقد رواها بسنده من طريق هشام بن محمد
…
قال: تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أسماء بنت النعمان الجونية فجئت بها، فقالت حفصة لعائشة أو عائشة لحفصة: اخضبيها أنت وأنا أمشطها، ففعلن، ثم قالت لها إحداهما: إن النبي صلى الله عليه وسلم يعجبه من المرأة إذا دخلت عليه أن تقول: أعوذ بالله منك، فلما دخلت عليه وأغلق الباب وأرخى الستر مد يده إليها فقالت: أعوذ بالله منك
…
الحديث (1).
وهشام بن محمد هذا (راوي الحديث) هو الكلبي نفسه، والذي قال فيه العلماء: متروك، غير ثقة، رافضي، يقول الإمام أحمد: إنما كان صاحب سمر ونسب ما ظننت أن أحدا يحدث عنه، وقال الدارقطني وغيره: متروك، وقال ابن عساكر: رافضي ليس بثقة (2).
ورواية البخاري ثتبت أن هذه المرأة (التي قالت أعوذ بالله منك) لم تكن تعرف النبي صلى الله عليه وسلم وها هو نص الحديث:
عن سهل بن سعد (ض) قال: ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم امرأة من العرب. فأمر أبا أسيد الساعدي أن يرسل إليها، فأرسل إليها، فقدمت فنزلت في أجم بني ساعدة، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى جاءها فدخل عليها، فإذا امرأة منكسة رأسها، فلما كلمها النبي صلى الله عليه وسلم قالت: أعوذ بالله منك، فقال: قد أعذتك مني، فقالوا لها: أتدرين من هذا؟ قالت: لا، قالوا: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ليخطبك، قالت: كنت أنا أشقى من ذلك
…
الحديث (3).
(1) الطبقات الكبرى لابن سعد 146/ 8.
(2)
انظر: ميزان الاعتدال للذهبي 89/ 7 رقم الترجمة 9245، ولسان الميزان لابن حجر العسقلاني 196/ 6 رقم الترجمة 700.
(3)
صحيح البخاري كتاب الأشربة برقم 5637، وصحيح الإمام مسلم كتاب الأشربة
برقم 2007.