الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الخامس
وقائع التحريم والإيلاء والتخيير
أولا - التحريم:
سبق أن ذكرنا أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كن حزبين، وكان الحزب الأول يضم عائشة وحفصة وسودة وصفية رضي الله عنهن، والحزب الآخر يضم زينب وبقية الأزواج المطهرات، وكان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يزور سائر أزواجه ويقضي معهن شيئا من الوقت بعد صلاة العصر، ويعدل في الجلوس عندهن حتى لا يمكن أن ترجح كفة واحدة على الأخرى، إذا به يجلس عند أم المؤمنين زينب (ض) فوق العادة، وظلت بقية الأزواج ينتظرنه في أوقاتهن المحددة والمعتادة، فأرابهن ذلك، وسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب التأخير، فقال صلى الله عليه وسلم: إن امرأة من قوم زينب أهدت لها عكة من العسل -وكان العسل من أحب الأشياء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهي تسقيه منه كل يوم، فيتناوله ولا يرفض حتى لا ينكسر خاطرها، وهذا هو سبب التأخير، فتواطأت عائشة وحفصة وسودة أن يحتلن له، وقلن: أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل له: ماذا شربت؟ وما هذه الريح التي أجد منك؟ - وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يكره أن توجد منه الريح (1) - فإن قال: شربت عسلا، فلتقل: جرست نحله العرفط (شجر الطلح)، ولعله عسل المغافير - والمغافير شيء ينضحه شجر العرفط حلو كالناطف، وله ريح منكرة - وهكذا وقع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لا، ولكني كنت أشرب عسلا عند زينب بنت جحش، فلن أعود له وقد حلفت (2). وهكذا بدأ النبي صلى الله عليه وسلم يكره العسل وحلف أن لا يشربه.
(1) انظر: مسند الإمام أحمد 249/ 6 برقم 26162.
(2)
صحيح البخاري كتاب تفسير القرآن برقم 4912 وكتاب الأيمان والنذور برقم 66091.
ولو صدر ذلك الحلف من إنسان عادي لم تكن له أية أهمية، ولكنه صدر من الشارع العظيم الذي يكون كل قول مما نطق به لسانه سببا لتشريع الشرائع وتأصيل الأصول. ولذلك أنزل الله تعالى العتاب ونزلت آيات من سورة التحريم:
وأثناء هذه الفترة أسر النبي صلى الله عليه وسلم إلى حفصة شيئا، فأخبرت عائشة بذلك، وذلك قوله تعالى:{وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ * إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 3 - 4].
إذن ما هو السر الذي طلب من حفصة أن تخفيه؟ وقد ورد في صحيح البخاري أن ذلك كان حادث تحريم العسل (1)، كما ورد في بعض الروايات الضعيفة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة تسمى مارية يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، وأكد على حفصة أن تحافظ على هذا السر ولا تفشيه عند أحد، فأخبرت بها عائشة فنزلت هذه الآية (2).
(1) أخرج البخاري في صحيحه عن عائشة (ض) أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زيب بنت جحش ويشرب عندها عسلا، فتواصيت أنا وحفصة أن أيتنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم
فلتقل إني أجد منك ريح مغافير، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك،
فقال: لا بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش ولن أعود له، فنزلت {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ} لقوله: بل شربت عسلا.
(البخاري كتاب الطلاق برقم 5267، صحيح مسلم كتاب الطلاق برقم 1474، سنن النسائي كتاب الطلاق برقم 3421، كتاب الأيمان والنذور برقم 3795).
(2)
أشار به المؤلف إلى الرواية التي أخرجها البيهقي وغيره أن حفصة أم المؤمنين (ض) زارت أباها ذات يوم وكان يومها فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم فلم يرها في المنزل فأرسل إلى أمته مارية القبطية فأصاب منها في بيت حفصة، فجاءت حفصة على تلك الحالة =
ولكن هنا ينشأ السؤال أنه لما لم يكن قصد النبي صلى الله عليه وسلم بالتحريم إرضاء عائشة وحدها كما هو منصوص في الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ} فلا معنى لإخفاء هذا السر فقط عن عائشة. لأنه قد أمكن الحصول على رضاها بعدما اطلعت على هذه الواقعة، كما أن الآية الكريمة تدل على أن ما حرمه الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له أي علاقة بالأمة، لأننا حنى لو سلمنا بصحة هذه الرواية، فإنها تدل على أن حفصة هي التي طلبت من النبي صلى الله عليه وسلم ذلك. بينما الآية تستوجب أن يكون ذلك رغبة مشتركة من ثلاثة من الأزواج على الأقل. وليس من واحدة فقط. ثم سر الاحتراز عن طعام أو أمة ليس بذاك الأهمية حتى يتطلب مؤازرة المسلمين في الأرض والملائكة في السماء، لأنه صلى الله عليه وسلم لو لم يتناول العسل ولم تبق له علاقة ظاهرية مع الأمة لعرف الناس أنه صلى الله عليه وسلم فعل كذا، مثل ما كان الأمر في الضب، حيث كان العرب كلهم يأكلونه، لكن النبي صلى الله عليه وسلم لا يعجبه ذلك، كما أنه صلى الله عليه وسلم كان قد طلق بعض أزواجه أو فكر بذلك، ولكن لم يكن شيء من ذلك سرا مخفيا عن الناس، والذين لديهم إلمام بأساليب القرآن الكريم العامة ومناهجه في البيان والتوضيح، واطلاع على اللغة العربية وقواعدها، يعرفون حق المعرفة أن الكلمة التي تأتي بعد ((إذ)) تكون جملة مستأنفة وقصة جديدة، فالآية السابقة تناولت موضوع التحريم، ثم استأنفت موضوعا جديدا، وما هو هذا الموضوع؟ قد بينه القرآن الكريم في آية أخرى ألا وهو ((الظهار)) (1) وسوف نذكر تفاصيل موضوع الظهار لاحقا.
= فقالت: يا رسول الله أتفعل هذا في بيتي وفي يومي، قال: فإنها علي حرام لا تخبري بذلك أحدا، فانطلقت حفصة إلى عائشة فأخذتها بذلك، فأنزل الله عز وجل في كتابه {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ....} الآية هذا الحديث مرسل، أخرجه البيهقي في السنن الكبرى 7/ 353 برقم 14854، وأخرجه موصولا أصحاب السنن عن أنس كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة حتى حرمها على نفسه، فأنزل الله عز وجل الآيات.
انظر: سنن النسائي الكبرى 5/ 286 رقم 8907 و6/ 495 برقم 11607، والمقدسي في الأحاديث المختارة 5/ 69 برقم 1694.
هذا وقد صرح كبار المحدثين أن هذه الرواية لم تثبت من طريق صحيح.
(1)
الظهار هو تشبيه المسلم زوجته أو تشبيه ما يعبر به عنها من أعضائها أو تشبيه جزء =