الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وَوُجِدَ قَتِيلٌ بَيْنَ أَظْهُرِهِمْ فَلَا قَسَامَةَ وَلَا دِيَةَ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّ قَتْلَهُ كَانَ هَدَرًا يُحْوِجُ إلَى ذِكْرِ الْفَرْقِ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا اقْتَتَلَ الْمُسْلِمُونَ عَصَبِيَّةً فِي مَحَلَّةٍ فَأُجْلُوا عَنْ قَتِيلٍ فَإِنَّ عَلَيْهِمْ الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ كَمَا مَرَّ آنِفًا.
وَقَالُوا فِي الْفَرْقِ إنَّ الْقِتَالَ إذَا كَانَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ فِي مَكَان فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَلَا يَدْرِي أَنَّ الْقَاتِلَ مِنْ أَيِّهِمَا يُرَجَّحُ جَانِبُ احْتِمَالِ قَتْلِ الْمُشْرِكِينَ حَمْلًا لِأَمْرِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى الصَّلَاحِ فِي أَنَّهُمْ لَا يَتْرُكُونَ الْكُفَّارَ فِي مِثْلِ ذَلِكَ الْحَالِ يَقْتُلُونَ الْمُسْلِمِينَ وَأَمَّا فِي الْمُسْلِمِينَ مِنْ الطَّرَفَيْنِ فَلَيْسَ ثَمَّةَ جِهَةُ الْحَمْلِ عَلَى الصَّلَاحِ حَيْثُ كَانَ الْفَرِيقَانِ مُسْلِمَيْنِ فَبَقِيَ حَالُ الْقَتْلِ مُشْكِلًا فَأَوْجَبْنَا الْقَسَامَةَ وَالدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ ذَلِكَ الْمَكَانِ لِوُرُودِ النَّصِّ بِإِضَافَةِ الْقَتْلِ إلَيْهِمْ عِنْدَ الْإِشْكَالِ وَكَانَ الْعَمَلُ بِمَا وَرَدَ بِهِ النَّصُّ أَوْلَى عِنْدَ الِاحْتِمَالِ مِنْ الْعَمَلِ بِاَلَّذِي لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ. اهـ.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ طَعَنَّا فِي الْمَصِيرِ إلَى الْفَرْقِ الْمَذْكُورِ أَنَّهُ ظَاهِرٌ فَإِنَّ الظَّاهِرَ هُنَا حُجَّةٌ لِلدَّفْعِ عَنْ الْمُسْلِمِينَ فَيَصْلُحُ حُجَّةً وَثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ فَيَجِبُ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ لِلنَّصِّ. اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الْفَرْقُ بِتَمَامٍ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ ظَاهِرًا إذْ لَا نُسَلِّمُ أَنَّ الظَّاهِرَ ثَمَّةَ لَوْ كَانَ حُجَّةً لَكَانَ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ بَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً لِدَفْعِ الْقَسَامَةِ وَالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَلَا يَكُونُ حُجَّةً لِلِاسْتِحْقَاقِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ الَّذِينَ اقْتَتَلُوا عَصَبِيَّةً فِي ذَلِكَ الْمَحَلِّ فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ هَدَرًا فَلَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ مِنْ الْمَصِيرِ إلَى مَا ذَكَرَهُ الْمَشَايِخُ مِنْ الْبَيَانِ وَنَقَلَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ كَمَا تَحَقَّقْتُهُ.
قَالَ رحمه الله (وَإِنْ قَالَ الْمُسْتَحْلِفُ قَتَلَهُ زَيْدٌ حَلَفَ بِاَللَّهِ مَا قَتَلْته وَلَا عَرَفْت لَهُ قَاتِلًا غَيْرَ زَيْدٍ) لِأَنَّهُ لَمَّا أَقَرَّ بِالْقَتْلِ عَلَى وَاحِدٍ صَارَ مُسْتَثْنِيًا عَنْ الْيَمِينِ وَبَقِيَ حُكْمُ مَنْ سِوَاهُ عَلَى حَالِهِ فَيَحْلِفُ عَلَيْهِ فَلَا يُقْبَلُ عَلَيْهِ قَوْلُ الْمُسْتَحْلِفِ إنَّهُ قَتَلَهُ لِأَنَّهُ يُرِيدُ بِذَلِكَ إسْقَاطَ الْخُصُومَةِ عَنْ نَفْسِهِ فَلَا يُقْبَلُ وَيَحْلِفُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَفِي النِّهَايَةِ هَذَا قَوْلُ مُحَمَّدٍ وَأَمَّا عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ فَلَا يَحْلِفُ عَلَى الْعِلْمِ لِأَنَّهُ قَدْ عَرَفَ الْقَاتِلَ وَاعْتَرَفَ بِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ وَمُحَمَّدٌ يَقُولُ بِجَوَازِ أَنَّهُ عَرَفَ أَنَّ لَهُ قَاتِلًا آخَرَ مَعَهُ.
قَالَ رحمه الله (وَبَطَلَ)(شَهَادَةُ بَعْضِ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ عَلَى قَتْلِ غَيْرِهِمْ أَوْ وَاحِدٍ مِنْهُمْ) وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَقَالَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ إذَا شَهِدُوا عَلَى غَيْرِهِمْ لِأَنَّ الْوَلِيَّ لَمَّا ادَّعَى الْقَتْلَ عَلَى غَيْرِهِمْ تَبَيَّنَ أَنَّهُمْ لَيْسُوا بِخُصَمَاءَ غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُمْ كَانُوا عَرْضِيَّةَ أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ خَصْمًا بِمَنْزِلَتِهِمْ قَابِلِينَ لِلتَّقْصِيرِ الصَّادِرِ مِنْهُمْ فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمْ وَإِنْ خَرَجُوا مِنْ الْخُصُومَةِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ مَنْ صَارَ خَصْمًا فِي حَادِثَةٍ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ فِيهَا وَمَنْ كَانَ بِعَرْضِيَّةِ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا وَلَمْ يَنْتَصِبْ خَصْمًا بَعْدُ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَهَذَانِ أَصْلَانِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِمَا غَيْرَ أَنَّهُمَا يَجْعَلَانِ أَهْلَ الْمَحَلَّةِ مِمَّنْ لَهُ عَرْضِيَّةُ أَنْ يَصِيرَ خَصْمًا وَهُوَ يَجْعَلُهُمْ مِمَّنْ انْتَصَبَ خَصْمًا وَعَلَى هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ يَتَخَرَّجُ كَثِيرٌ مِنْ الْمَسَائِلِ فَمِنْ جِنْسِ الْأَوَّلِ الْوَكِيلُ بِالْخُصُومَةِ إذَا خَاصَمَ عِنْدَ الْحَاكِمِ ثُمَّ عُزِلَ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ وَالشَّفِيعُ إذَا طَلَبَ الشُّفْعَةَ ثُمَّ تَرَكَهَا لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بِالْبَيْعِ.
وَمِنْ جِنْسِ الثَّانِي الْوَكِيلُ إذَا لَمْ يُخَاصِمْ وَالشَّفِيعُ إذَا لَمْ يَطْلُبْ تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا وَلَوْ ادَّعَى الْوَلِيُّ عَلَى رَجُلٍ بِعَيْنِهِ مِنْ أَهْلِ الْمَحَلَّةِ وَشَهِدَ شَاهِدَانِ مِنْ أَهْلِهَا عَلَيْهِ لَمْ تُقْبَلْ شَهَادَتُهُمَا عَلَيْهِ لِأَنَّ الْخُصُومَةَ قَائِمَةٌ مَعَ الْكُلِّ وَالشَّاهِدُ يَقْطَعُهَا عَنْ نَفْسِهِ فَكَانَ مِنْهُمَا فَلَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُمَا قَالَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمَرْأَةُ تَدْخُلُ مَعَ الْعَاقِلَةِ فِي التَّحَمُّلِ لِأَنَّا نَرَاهَا قَاتِلَةً فَيَجِبُ عَلَيْهَا وَهُوَ مُخْتَارُ الطَّحَاوِيِّ وَهُوَ الْأَصَحُّ فَصَارَ كَمَا إذَا بَاشَرَتْ الْقَتْلَ بِنَفْسِهَا وَاَللَّهُ سبحانه وتعالى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
[كِتَابُ الْمَعَاقِلِ]
قَالَ فِي النِّهَايَةِ لَمَّا كَانَ مُوجِبُ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَمَا فِي مَعْنَاهُ الدِّيَةُ عَلَى الْعَاقِلَةِ لَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا وَمَعْرِفَةِ أَحْكَامِهَا فَذَكَرَهَا فِي هَذَا الْبَابِ، وَرَدَّهُ صَاحِبُ الْمِعْرَاجِ، وَقَالَ وَجْهُ الْمُنَاسَبَةِ إنَّمَا هُوَ لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الْقَتْلِ الْخَطَأِ وَتَوَابِعِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الدِّيَةُ إذْ لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَتِهَا قَالَ رحمه الله (هِيَ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ، وَهِيَ الدِّيَةُ) أَيْ الْمَعَاقِلُ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ بِالضَّمِّ، وَالْمَعْقُلَةُ الدِّيَةُ، وَتُسَمَّى عَقْلًا لِأَنَّهَا تَعْقِلُ الدِّمَاءَ مِنْ أَنْ تُسْفَكَ أَيْ تَمْسِكُهَا يُقَالُ عَقَلَ الْبَعِيرَ عَقْلًا إذَا شَدَّهُ بِالْعِقَالِ، وَمِنْهُ الْعَقْلُ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ صَاحِبَهُ مِنْ الْمَقَاتِلِ أَقُولُ: هَكَذَا وَقَعَ الْعِنْوَانُ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ لَكِنْ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَذْكُرَ الْعَوَاقِلَ بَدَلَ الْمَعَاقِلِ لِأَنَّ الْمَعَاقِلَ جَمْعُ مَعْقُلَةٍ، وَهِيَ الدِّيَةُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْمُصَنِّفُ وَغَيْرُهُ فَيَصِيرُ الْمَعْنَى كِتَابُ الدِّيَاتِ، وَهَذَا مَعَ كَوْنِهِ مُؤَدِّيًا إلَى التَّكْرَارِ لَيْسَ بِتَامٍّ فِي نَفْسِهِ لِأَنَّ بَيَانَ أَقْسَامِ الدِّيَاتِ وَأَحْكَامِهَا قَدْ مَرَّ مُسْتَوْفًى فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَالْمَقْصُودُ بِالْبَيَانِ
هُنَا بَيَانُ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ الدِّيَةُ بِتَفَاصِيلِ أَنْوَاعِهِمْ وَأَحْكَامِهِمْ، وَهُمْ الْعَاقِلَةُ فَالْمُنَاسَبَةُ فِي الْعِنْوَانِ ذِكْرُ الْعَوَاقِلِ لِأَنَّهَا جَمْعُ الْعَاقِلَةِ، وَالْكَلَامُ هُنَا مِنْ وُجُوهٍ الْأَوَّلُ فِي تَفْسِيرِهَا لُغَةً، وَالثَّانِي فِي تَفْسِيرُهَا شَرْعًا، وَالثَّالِثُ فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ، وَالرَّابِعُ فِي بَيَانِ مُدَّةِ الْوَاجِبِ، وَالْخَامِسُ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَالسَّادِسُ فِيمَنْ يُحَوَّلُ عَلَى الدِّيَةِ مِنْ عَاقِلَةٍ إلَى عَاقِلَةٍ، وَالسَّابِعُ فِي عَاقِلَةِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ فِيهِ فُصُولٌ أَحَدُهَا فِي مَعْرِفَةِ الْعَاقِلَةِ، وَالثَّانِي فِي كَيْفِيَّةِ وُجُوبِ الدِّيَةِ عَلَيْهِ، وَالثَّالِثُ فِي بَيَانِ مُدَّةِ الْوَاجِبِ، وَالرَّابِعُ فِيمَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ وَمَا لَا تَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ، وَالْخَامِسُ فِيمَنْ يُحَوِّلُ الدِّيَةَ مِنْ عَاقِلَةٍ إلَى عَاقِلَةٍ، وَالسَّادِسُ فِي عَاقِلَةِ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ أَمَّا تَفْسِيرُهَا لُغَةً فَالْعَاقِلَةُ اسْمٌ مُشْتَقٌّ مِنْ الْعَقْلِ، وَهُوَ الْمَنْعُ، وَلِهَذَا يُقَالُ لِمَا يُعْقَلُ بِهِ الْبَعِيرُ عِقَالًا لِأَنَّهُ يَمْنَعُهُ مِنْ النُّفُورِ، وَمِنْهُ سُمِّيَ اللُّبُّ عَقْلًا لِأَنَّهُ مِمَّا يَمْنَعُ الْإِنْسَانَ عَمَّا يَضُرُّهُ فَذَلِكَ عَاقِلَةُ الْإِنْسَانِ، وَهُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ مِمَّنْ يَمْنَعُونَهُ مِنْ قَتْلِ مَنْ لَيْسَ لَهُ قَتْلُهُ، وَأَمَّا الْعَاقِلَةُ.
وَالْعَقْلُ هُوَ الدِّيَةُ، وَجَمْعُهُ الْمَعَاقِلُ، وَمِنْهُ الْعَاقِلَةُ، وَهُمْ الَّذِينَ يَتَحَمَّلُونَ الْعَقْلَ، وَهُوَ الدِّيَةُ، وَأَمَّا الْعَاقِلَةُ شَرْعًا فَهُمْ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ الْمُقَاتِلَةِ، وَأَهْلُ الدِّيوَانِ الَّذِينَ لَهُمْ رِزْقٌ فِي بَيْتِ الْمَالِ، وَكُتِبَ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَمَنْ لَا دِيوَانَ لَهُ فَعَاقِلَتُهُ مِنْ عَصَبَةِ النَّسَبِ لَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ رضي الله عنه الْعَقْلُ عَلَى عَصَبَتِهِ مِنْ النَّسَبِ لَا عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَذَكَرَ الطَّحَاوِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهَا تَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ لِأَنَّ وُجُوبَ الْعَقْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ عُرِفَ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ لِأَنَّ مُؤَاخَذَةَ غَيْرِ الْجَانِي بِالْجَانِي مِمَّا يَأْبَاهُ الْقِيَاسُ وَالشَّرْعُ إنَّمَا أَوْجَبَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ أَوْ عَلَى الْعَشِيرَةِ فَبَقِيَ عَلَى مَا عَدَاهُمَا عَلَى قَضِيَّةِ الْقِيَاسِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ دِيوَانٌ، وَلَا عَشِيرَةٌ قِيلَ يُعْتَبَرُ الْمَحَالُّ، وَنُصْرَةُ الْقُلُوبِ فَالْأَقْرَبُ، وَقِيلَ تَجِبُ فِي مَالِهِ، وَقِيلَ تَجِبُ فِي مَالِ بَيْتِ الْمَالِ، وَكَذَلِكَ اللَّقِيطُ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَلَا تَعْقِلُ مَدِينَةٌ عَنْ مَدِينَةٍ، وَتَعْقِلُ مَدِينَةٌ عَنْ قُرَاهَا لِأَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا بُنِيَ عَلَى التَّنَاصُرِ وَالتَّعَاوُنِ، وَأَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ يَنْتَصِرُونَ بِأَهْلِ دِيوَانِ مِصْرِهِمْ، وَلَا يَنْتَصِرُونَ بِدِيوَانِ أَهْلِ مِصْرٍ آخَرَ، وَأَهْلُ كُلِّ مِصْرٍ يَنْتَصِرُونَ بِأَهْلِ سَوَادِهِمْ، وَقُرَاهُمْ، وَإِنْ كَانَ بَعِيدَ الْمَنْزِلِ مِنْهُمْ لِأَنَّ الْبَادِيَةَ بَادِيَةٌ وَاحِدَةٌ فَكَانُوا كَأَهْلِ الدِّيوَانِ فِي مِصْرٍ وَاحِدٍ يَتَعَاوَنُونَ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، وَإِنْ بَعُدَتْ مَنَازِلُهُمْ، وَالْبَادِيَتَانِ إذَا اخْتَلَفَتَا كَانَتَا بِمَنْزِلَةِ مِصْرَيْنِ، وَعَاقِلَةُ الْمُعْتِقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ، وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ يَعْقِلُ عَنْهُ مَوْلَاهُ، وَقَبِيلَتُهُ
قَالَ رحمه الله (كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ عَلَى الْعَاقِلَةِ) وَالْعَاقِلَةُ الْجَمَاعَةُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الْعَقْلَ، وَهُوَ الدِّيَةُ يُقَالُ وَدَيْتُ الْقَتِيلَ إذَا أَعْطَيْتُ دِيَتَهُ، وَعَقَلْتُ عَنْ الْقَاتِلِ أَيْ أَدَّيْتُ عَنْهُ مَا لَزِمَهُ مِنْ الدِّيَةِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا الدِّيَةَ، وَأَنْوَاعَهَا فِي كِتَابِ الدِّيَاتِ، وَأَمَّا وُجُوبُهَا عَلَى الْعَاقِلَةِ فَالْأَصْلُ فِيهِ مَا صَحَّ «عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَضَى بِدِيَةِ الْمَرْأَةِ الْمَقْتُولَةِ وَدِيَةِ جَنِينِهَا عَلَى عَصَبَةِ الْعَاقِلَةِ فَقَالَ أَبُو الْقَاتِلَةِ الْمَقْضِيُّ عَلَيْهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ أَغْرَمَ مَنْ لَا صَاحَ وَلَا اسْتَهَلَّ وَلَا شَرِبَ وَلَا أَكَلَ وَمِثْلُ ذَلِكَ ضَلَالٌ فَقَالَ عليه الصلاة والسلام هَذَا مِنْ الْكُهَّانِ» ، وَلِأَنَّ النَّفْسَ مُحَرَّمَةٌ فَلَا وَجْهَ إلَى إهْدَارِهَا، وَلَا إيجَابَ عَلَى الْمُخْطِئِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ فَرُفِعَ عَنْهُ الْخَطَأُ، وَفِي إيجَابِ الْكُلِّ عَلَيْهِ عُقُوبَةٌ لِمَا فِيهِ مِنْ إجْحَافِهِ وَاسْتِئْصَالِهِ فَيَضُمُّ إلَيْهِ الْعَاقِلَةَ تَحْقِيقًا لِلتَّخْفِيفِ فَكَانُوا أَوْلَى بِالضَّمِّ، وَقَوْلُهُ كُلُّ دِيَةٍ وَجَبَتْ بِنَفْسِ الْقَتْلِ يُحْتَرَزُ بِهِ عَمَّا يَنْقَلِبُ مَالًا بِالصُّلْحِ أَوْ بِالشُّبْهَةِ لِأَنَّ الْعَدُوَّ يُوجِبُ الْعُقُوبَةَ فَلَا يَسْتَحِقُّ التَّخْفِيفَ فَلَا تَتَحَمَّلُ عَنْهُ الْعَاقِلَةُ، وَفِي مَبْسُوطِ شَيْخِ الْإِسْلَامِ طَعَنَ بَعْضٌ، وَقَالَ لَا جِنَايَةَ مِنْ الْعَاقِلَةِ، وَوُجُوبُ الدِّيَةِ بِاعْتِبَارِهَا فَتَكُونُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ أَتْلَفَ دَابَّةً يَضْمَنُهَا فِي مَالِهِ فَكَذَا إيجَابُ الدِّيَةِ قُلْنَا إيجَابُ الدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ مَشْهُورٌ ثَبَتَ بِالْأَحَادِيثِ الْمَشْهُورَةِ، وَعَلَيْهِ عَمَلُ الصَّحَابَةِ، وَمَنْ بَعْدَهُمْ يَتَرَادُّ بِهِ عَلَى كِتَابِ اللَّهِ تَعَالَى.
قَالَ رحمه الله (وَهِيَ أَهْلُ الدِّيوَانِ إنْ كَانَ الْقَاتِلُ مِنْهُمْ) تُؤْخَذُ مِنْ عَطَايَاهُمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ وَأَهْلُ الدِّيوَانِ هُمْ الْجَيْشُ الَّذِينَ كُتِبَتْ أَسْمَاؤُهُمْ فِي الدِّيوَانِ، وَهَذَا عِنْدَنَا، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ عَلَى أَهْلِ الْعَشِيرَةِ لِمَا رَوَيْنَا، وَكَانَ كَذَلِكَ إلَى أَيَّامِ عُمَرَ رضي الله عنه وَلَا نَسْخَ بَعْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَيَبْقَى عَلَى مَا كَانَ، وَلِأَنَّهَا صِلَةٌ، وَالْأَقَارِبُ أَوْلَى بِهَا كَالْإِرْثِ وَالنَّفَقَاتِ، وَلَنَا أَقْضِيَةُ عُمَرَ رضي الله عنه فَإِنَّهُ لَمَّا دَوَّنَ الدَّوَاوِينَ جَعَلَ الدِّيَةَ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ مِنْهُمْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِنَسْخٍ بَلْ هُوَ تَقْرِيرُ مَعْنًى لِأَنَّهُ كَانَ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَقَدْ كَانَتْ بِأَنْوَاعٍ
بِالْحَلِفِ وَالْوَلَاءِ وَالْعَدُوِّ، وَفِي عَهْدِ عُمَرَ رضي الله عنه قَدْ صَارَتْ بِالدِّيوَانِ فَجَعَلَ عَلَى أَهْلِهَا اتِّبَاعًا لِلْمَعْنَى، وَلِهَذَا قَالُوا لَوْ كَانَ الْيَوْمَ يَتَنَاصَرُونَ بِالْحِرَفِ فَعَاقِلَتُهُمْ أَهْلُ الْحِرْفَةِ، وَإِنْ كَانُوا بِالْحِلْفِ فَأَهْلُهُ، وَالدِّيَةُ صِلَةٌ كَمَا قَالَ لَكِنَّ إيجَابَهَا فِيمَا هُوَ صِلَةٌ، وَهُوَ الْعَطَايَا أَوَّلًا مِنْ إيجَابِهَا فِي أُصُولِ أَمْوَالِهِمْ لِأَنَّهُ أَحَقُّ وَمَا تَحَمَّلَتْ الْعَاقِلَةُ إلَّا لِلتَّخْفِيفِ، وَالتَّقْدِيرُ بِثَلَاثِ سِنِينَ مَرْوِيٌّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَمَحْكِيٌّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ رحمه الله (فَإِنْ خَرَجَتْ الْعَطَايَا فِي أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ أَوْ أَقَلَّ أُخِذَ مِنْهَا) لِحُصُولِ الْمَقْصُودِ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ التَّخْفِيفُ.
وَقَدْ حَصَلَ أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ، وَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ كَانَ يَأْبَى إيجَابَ الْمَالِ بِمُقَابَلَةِ النَّفْسِ الْمُحْتَرَمَةِ لِعَدَمِ الْمُمَاثَلَةِ بَيْنَهُمَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ وَرَدَ بِذَلِكَ كَمَا صَرَّحُوا بِهِ، وَالشَّرْعُ إنَّمَا وَرَدَ بِإِيجَابِهِ مُؤَجَّلًا بِثَلَاثِ سِنِينَ فَإِنَّهُ الْمَرْوِيُّ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ الْمَحْكِيُّ عَنْ عُمَرَ رضي الله عنه كَمَا مَرَّ آنِفًا فَيَنْبَغِي أَنْ يَخْتَصَّ التَّأْجِيلُ بِثَلَاثِ سِنِينَ إذْ تَقَرَّرَ عِنْدَهُمْ أَنَّ الشَّرْعَ الْوَارِدَ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ يَخْتَصُّ بِمَا وَرَدَ بِهِ، وَسَيَجِيءُ نَظِيرُ هَذَا فِي الْكِتَابِ فِي تَعْلِيلِ أَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْقَاتِلِ فِي مَالِهِ كَمَا إذَا قَتَلَ الْأَبُ ابْنَهُ عَمْدًا لَيْسَ بِحَالٍّ عِنْدَنَا بَلْ مُؤَجَّلًا بِثَلَاثِ سِنِينَ فَتَأَمَّلْ هَلْ يُمْكِنُ دَفْعُهُ، وَهَذَا إذَا كَانَتْ الْعَطَايَا لِلسِّنِينَ الْمُسْتَقْبَلَةِ حَتَّى لَوْ اجْتَمَعَتْ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ قَبْلَ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ ثُمَّ خَرَجَتْ بَعْدَ الْقَضَاءِ لَا يُؤْخَذُ مِنْهَا لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِالْقَضَاءِ.
وَلَوْ خَرَجَتْ عَطَايَا ثَلَاثَ سِنِينَ مُسْتَقْبَلَةً فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ يُؤْخَذُ مِنْهَا كُلُّ الدِّيَةِ لِأَنَّهَا بَعْدَ الْوُجُوبِ إذْ الْوُجُوبُ بِالْقَضَاءِ، وَقَدْ حَصَلَ الْمَقْصُودُ بِذَلِكَ، وَهُوَ التَّخْفِيفُ، وَإِذَا كَانَ الْوَاجِبُ ثُلُثَ الدِّيَةِ أَوْ أَقَلَّ يَجِبُ فِي سَنَةٍ وَاحِدَةٍ، وَإِذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ يَجِبُ فِي سَنَتَيْنِ إلَى تَمَامِ الثُّلُثَيْنِ ثُمَّ إذَا كَانَ أَكْثَرَ مِنْهُ إلَى تَمَامِ الدِّيَةِ تَجِبُ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لِأَنَّ جَمْعَ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فَيَكُونُ كُلُّ ثُلُثٍ فِي سَنَةٍ ضَرُورَةً، وَالْوَاجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ كَالْوَاجِبِ عَلَى الْعَاقِلَةِ حَتَّى تَجِبَ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ، وَذَلِكَ مِثْلُ الْأَبِ إذَا قَتَلَ ابْنَهُ عَمْدًا إذَا انْقَلَبَ الْقِصَاصُ مَالًا، وَلَوْ قَتَلَ عَشَرَةٌ رَجُلًا وَاحِدًا خَطَأً فَعَلَى عَاقِلَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ عُشْرُ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ اعْتِبَارًا لِلْجُزْءِ بِالْكُلِّ، وَهُوَ بَدَلُ النَّفْسِ فَيُؤَجَّلُ كُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ بِثَلَاثِ سِنِينَ، وَأَوَّلُ الْمُدَّةِ يُعْتَبَرُ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ هُوَ الدِّيَةُ وَالنَّقْلُ إلَى الْقِيمَةِ بِالْقَضَاءِ فَتُعْتَبَرُ قِيمَتُهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَقْتِ
قَالَ رحمه الله (وَإِنْ لَمْ يَكُنْ دِيوَانًا فَعَلَى عَاقِلَتِهِ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّ نُصْرَتَهُ بِهِمْ، وَهِيَ الْمُعْتَبَرَةُ فِي الْبَابِ قَالَ رحمه الله (وَتُقْسَمُ عَلَيْهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ لَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلٍّ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ أَوْ دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ وَلَمْ يَزِدْ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى أَرْبَعَةٍ) وَذَكَرَ الْقُدُورِيُّ لَا يُزَادُ الْوَاحِدُ عَلَى أَرْبَعَةِ دَرَاهِمَ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَيُنْقَصُ مِنْهَا، وَالْأَوَّلُ أَصَحُّ فَإِنَّ مُحَمَّدًا نَصَّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُزَادُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جَمِيعِ الدِّيَةِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ عَلَى ثَلَاثَةٍ أَوْ أَرْبَعَةٍ فَلَا يُؤْخَذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ فِي كُلِّ سَنَةٍ إلَّا دِرْهَمٌ وَثُلُثٌ كَمَا ذَكَرْنَا هُنَا لِأَنَّ مَعْنَى التَّخْفِيفِ مُرَاعًى فِيهِ قَالَ رحمه الله (فَإِنْ لَمْ تَتَّسِعْ الْقَبِيلَةُ لِذَلِكَ ضُمَّ إلَيْهَا أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ نَسَبًا عَلَى تَرْتِيبِ الْعَصَبَاتِ) لِتَحَقُّقِ مَعْنَى التَّخْفِيفِ، وَاخْتَلَفُوا فِي أَبِي الْقَاتِلِ وَأَبْنَائِهِ قِيلَ يَدْخُلُونَ لِقُرْبِهِمْ، وَقِيلَ لَا يَدْخُلُونَ لِأَنَّ الضَّمَّ يَنْفِي الْحَرَجَ حَتَّى لَا يُصِيبَ كُلَّ وَاحِدٍ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعَةٍ، وَهَذَا الْمَعْنَى إنَّمَا يُسْتَحَقُّ عِنْدَ الْكَثْرَةِ، وَالْأَبْنَاءُ وَالْآبَاءُ لَا يَكْثُرُونَ قَالُوا هَذَا فِي حَقِّ الْعَرَبِ لِأَنَّهُمْ حَفِظُوا أَنْسَابَهُمْ فَأَمْكَنَ إيجَابُهُمْ عَلَى أَقْرَبِ الْقَبَائِلِ، وَأَمَّا الْعَجَمُ فَقَدْ ضَيَّعُوا أَنْسَابَهُمْ فَلَا يُمْكِنُ ذَلِكَ فِي حَقِّهِمْ فَإِذَا لَمْ يُمْكِنْ فَقَدْ اخْتَلَفُوا فِيهِ فَقَالَ بَعْضُهُمْ يُعْتَبَرُ بِالْمَحَالِّ وَالْقُرْبَةِ الْأَقْرَبُ فَالْأَقْرَبُ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ رَأَى يُفَوَّضُ ذَلِكَ إلَى الْإِمَامِ لِأَنَّهُ هُوَ الْعَالِمُ بِهِ، وَهَذَا كُلُّهُ عِنْدَنَا، وَعِنْدَ الْإِمَامِ الشَّافِعِيِّ يَجِبُ عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ نِصْفُ دِينَارٍ فَيَسْتَوِي بَيْنَ الْكُلِّ لِأَنَّهُ كُلُّهُ صِلَةٌ فَيُعْتَبَرُ بِالزَّكَاةِ، وَلَوْ كَانَتْ عَاقِلَتُهُ أَصْحَابَ الرِّزْقِ يُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي أَرْزَاقِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ فِي كُلِّ سَنَةٍ الثُّلُثُ يُؤْخَذُ كُلَّمَا خَرَجَ رِزْقٌ ثُلُثُ الدِّيَةِ بِمَنْزِلَةِ الْعَطَايَا، وَإِنْ كَانَ يَخْرُجُ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَرْزَاقٌ فِي كُلِّ شَهْرٍ فُرِضَتْ الدِّيَةُ فِي الْأَعْطِيَةِ دُونَ الْأَرْزَاقِ لِأَنَّ الْأَخْذَ مِنْ الْأَعْطِيَةِ أَيْسَرُ لَهُمْ، وَالْأَخْذُ مِنْ الْأَرْزَاقِ يُؤَدِّي إلَى الْإِضْرَارِ بِهِمْ إذْ الْأَرْزَاقُ لِكِفَايَةِ الْوَقْتِ، وَيَتَضَرَّرُونَ بِالْأَدَاءِ مِنْهُ، وَالْأَعْطِيَةِ لِيَكُونُوا مُؤْتَلِفِينَ فِي الدِّيوَانِ قَائِمِينَ بِالنُّصْرَةِ فَتَيَسَّرَ عَلَيْهِمْ الْأَدَاءُ مِنْهُ.
قَالَ رحمه الله (وَالْقَاتِلُ كَأَحَدِهِمْ) أَيْ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ فَلَا مَعْنَى لِإِخْرَاجِهِ وَمُؤَاخَذَةِ غَيْرِهِ بِهِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ رضي الله عنه لَا يَجِبُ عَلَى الْقَاتِلِ شَيْءٌ مِنْ الدِّيَةِ لِأَنَّهُ مَعْذُورٌ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْهِ الْكُلُّ فَكَذَا الْبَعْضُ إذْ الْجُزْءُ لَا يُخَالِفُ الْكُلَّ قُلْنَا إيجَابُ الْكُلِّ إجْحَافٌ بِهِ، وَلَا كَذَلِكَ إيجَابُ الْبَعْضِ، وَلِأَنَّهَا تَجِبُ بِالنُّصْرَةِ، وَلَا يَنْصُرُ نَفْسَهُ مِثْلَ
مَا يَنْصُرُ غَيْرَهُ بَلْ أَشَدُّ فَكَانَ أَوْلَى بِالْإِيجَابِ عَلَيْهِ فَإِذَا كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْذُورًا فَالْبَرِيءُ مِنْهُ أَوْلَى قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] .
قَالَ رحمه الله (وَعَاقِلَةُ الْمُعْتَقِ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ) إذْ نُصْرَتُهُ بِهِمْ، وَاسْمُهَا يُنْبِي عَنْهَا يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ» قَالَ رحمه الله (وَيَعْقِلُ عَنْ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ مَوْلَاهُ وَقَبِيلَتُهُ) وَمَوْلَى الْمُوَالَاةِ هُوَ الْحَلِيفُ فَيَعْقِلُ عَنْهُ مَوْلَاهُ الَّذِي عَاقَدَهُ، وَعَاقِلَةُ مَوْلَاهُ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ وَقَبِيلَتُهُ أَيْ قَبِيلَةُ مَوْلَاهُ الَّذِي عَاقَدَهُ لِأَنَّهُ الْمَعْرُوفُ بِهِ فَأَشْبَهَ مَوْلَى الْعَتَاقَةِ.
قَالَ رحمه الله (وَلَا تَعْقِلُ عَاقِلَةُ جِنَايَةِ الْعَبْدِ) وَلَا الْعَمْدِ وَمَا لَزِمَ صُلْحًا وَاعْتِرَافًا لِمَا رَوَيْنَا، وَلِأَنَّهُ لَا يَنْتَصِرُ بِالْعَبْدِ وَالْإِقْرَارُ وَالصُّلْحُ لَا يَلْزَمَانِ الْعَاقِلَةَ لِقُصُورِ وِلَايَتِهِ عَنْهُمْ قَالَ رحمه الله (إلَّا أَنْ يُصَدِّقُوهُ فِي الْإِقْرَارِ) لِأَنَّ التَّصْدِيقَ إقْرَارٌ مِنْهُمْ فَتَلْزَمُهُمْ بِإِقْرَارِهِمْ بِأَنَّ لَهُمْ وِلَايَةً عَلَى أَنْفُسِهِمْ، وَالِامْتِنَاعُ كَانَ لِحَقِّهِمْ، وَقَدْ زَالَ أَوْ تَقُومُ الْبَيِّنَةُ لِأَنَّ مَا ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ كَالْمُشَاهَدَةِ لِأَنَّهَا كَاسْمِهَا مُبَيِّنَةٌ، وَتُقْبَلُ الْبَيِّنَةُ هُنَا مَعَ الْإِقْرَارِ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تُعْتَبَرُ مَعَهُ لِأَنَّهَا تُثْبِتُ مَا لَيْسَ بِثَابِتٍ بِإِقْرَارِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهُوَ الْوُجُوبُ عَلَى الْعَاقِلَةِ ثُمَّ مَا ثَبَتَ بِالْإِقْرَارِ يَجِبُ مُؤَجَّلًا وَمَا ثَبَتَ بِالصُّلْحِ حَالٌّ إلَّا إذَا شُرِطَ التَّأْجِيلُ فِي الصُّلْحِ، وَقَدْ عُرِفَ فِي مَوْضِعِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِالْقَتْلِ خَطَأً فَلَمْ يَرْتَفِعُوا إلَى الْحَاكِمِ إلَّا بَعْدَ سِنِينَ فَقُضِيَ عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ كَانَ أَوَّلَ الْمُدَّةِ مِنْ يَوْمِ قُضِيَ عَلَيْهِ لِأَنَّ التَّأْجِيلَ مِنْ وَقْتِ الْقَضَاءِ فِي الثَّابِتِ بِالْبَيِّنَةِ فَكَذَا فِي الثَّابِتِ بِالْإِقْرَارِ أَوْلَى لِأَنَّهُ أَضْعَفُ، وَلَوْ تَصَادَقَ الْقَاتِلُ وَأَوْلِيَاءُ الْمَقْتُولِ عَلَى أَنَّ قَاضِي بَلَدِ كَذَا قَضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِالْبَيِّنَةِ، وَكَذَبَتْهُمَا الْعَاقِلَةُ فَلَا شَيْءَ عَلَى الْعَاقِلَةِ لِأَنَّ تَصَادُقَهُمَا لَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَيْهِمْ، وَلَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي مَالِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ بِتَصَادُقِهِمَا تَقَرَّرَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِالْقَضَاءِ، وَتَصَادُقُهُمَا حُجَّةٌ فِي حَقِّهِمَا فَلَا يَلْزَمُ إلَّا حِصَّتُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ حَيْثُ تَجِبُ جَمِيعُ الدِّيَةِ عَلَى الْمُقِرِّ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ التَّصْدِيقُ مِنْ الْوَلِيِّ بِالْقَضَاءِ بِالدِّيَةِ عَلَى الْعَاقِلَةِ، وَقَدْ وُجِدَ هُنَا فَافْتَرَقَا.
قَالَ رحمه الله (وَإِنْ جَنَى حُرٌّ عَلَى عَبْدٍ خَطَأً فَهِيَ عَلَى عَاقِلَتِهِ) يَعْنِي إذَا قَتَلَهُ لِأَنَّ الْعَاقِلَةَ لَا تَتَحَمَّلُ أَطْرَافَ الْعَبْدِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ لَا تَتَحَمَّلُ النَّفْسَ أَيْضًا بَلْ يَجِبُ فِي مَالِ الْقَاتِلِ، وَلَنَا أَنَّهُ آدَمِيٌّ فَتَتَحَمَّلُهُ الْعَاقِلَةُ كَالْحُرِّ، وَهَذَا لِأَنَّ مَا يَجِبُ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ، وَهِيَ بَدَلُ الْآدَمِيِّ لَا الْمَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ فَكَانَتْ عَلَى الْعَاقِلَةِ بِخِلَافِ مَا دُونَ النَّفْسِ لِأَنَّهُ يَسْلُكُ بِهِ مَسْلَكَ الْأَمْوَالِ، وَالْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم «لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ عَمْدًا، وَلَا عَبْدًا جِنَايَةً» أَيْ لَا تَعْقِلُ الْعَاقِلَةُ جِنَايَةً عَمْدًا، وَلَا جِنَايَةَ عَبْدٍ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِهِ لِأَنَّ جِنَايَتَهُ تُوجِبُ دَفْعَهُ إلَّا أَنْ يَفْدِيَهُ الْمَوْلَى قَالَ أَصْحَابُنَا لَيْسَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَالذُّرِّيَّةِ مِمَّنْ لَهُ حَظٌّ فِي الدِّيوَانِ عَقْلٌ لِقَوْلِ عُمَرَ رضي الله عنه لَا يَعْقِلُ مَعَ الْعَوَاقِلِ صَبِيٌّ، وَلَا امْرَأَةٌ، وَلِأَنَّ الْعَقْلَ إنَّمَا يَجِبُ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ، وَالنَّاسُ لَا يَتَنَاصَرُونَ بِالصِّبْيَانِ وَالنِّسَاءِ، وَلِهَذَا لَا يُوضَعُ عَلَيْهِمْ مَا هُوَ خَلَفٌ عَنْ النُّصْرَةِ، وَهُوَ الْجِزْيَةُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ صَبِيًّا أَوْ امْرَأَةً لَا شَيْءَ عَلَيْهِمَا مِنْ الدِّيَةِ، وَهَذَا صَحِيحٌ فِيمَا إذَا قَتَلَهُ غَيْرُهُمَا، وَأَمَّا إذَا بَاشَرَا الْقَتْلَ بِأَنْفُسِهِمَا فَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا يُشَارِكَانِ الْعَاقِلَةَ، وَكَذَا الْمَجْنُونُ إذَا قُتِلَ فَالصَّحِيحُ أَنْ يَكُونَ كَوَاحِدٍ مِنْ الْعَاقِلَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ الِاسْتِنْصَارَ بِالدِّيوَانِ أَظْهَرُ فَلَا يَظْهَرُ مَعَهُ حُكْمُ النُّصْرَةِ بِالْقَرَابَةِ وَالْوَلَاءِ وَقُرْبِ السُّكْنَى، وَالْعَدِّ وَالْحَلِفِ، وَبَعْدَ دِيوَانِ النُّصْرَةِ بِالنَّسَبِ عَلَى مَا بَيَّنَّا، وَعَلَى هَذَا يُخَرِّجُ كَثِيرًا مِنْ مَسَائِلِ الْمَعَاقِلِ أَخَوَانِ دِيوَانٍ أَحَدُهُمَا بِالْبَصْرَةِ، وَدِيوَانُ الثَّانِي بِالْكُوفَةِ لَا يَعْقِلُ أَحَدُهُمَا عَنْ صَاحِبِهِ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُ عَنْهُ أَهْلُ دِيوَانِهِ، وَمَنْ جَنَى جِنَايَةً مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ فِي أَهْلِ الدِّيوَانِ عَطَاءٌ، وَأَهْلُ الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ إلَيْهِ نَسَبًا، وَمَسْكَنُهُ الْمِصْرُ عَقَلَ عَنْهُ أَهْلُ الدِّيوَانِ مِنْ ذَلِكَ الْمِصْرِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ أَنْ يَكُونَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ أَهْلِ الدِّيوَانِ قَرَابَةٌ لِأَنَّ أَهْلَ الدِّيوَانِ هُمْ الَّذِينَ يَدْرَءُونَ عَنْ أَهْلِ الْمِصْرِ، وَيَقُومُونَ بِنُصْرَتِهِمْ، وَيَدْفَعُونَ عَنْهُمْ.
وَلَا يَخُصُّونَ بِالنُّصْرَةِ أَهْلَ الْعَطَاءِ فَقَطْ بَلْ يَنْصُرُونَ أَهْلَ الْمِصْرِ كُلَّهُمْ، وَقِيلَ إذَا لَمْ يَكُونُوا قَرِيبًا لَهُ لَا يَعْقِلُونَهُ، وَإِنَّمَا يَعْقِلُونَ إذَا كَانُوا قَرِيبًا لَهُ، وَلَهُ فِي الْبَادِيَةِ أَقْرَبُ مِنْهُمْ نَسَبًا لِأَنَّ الْوُجُوبَ بِحُكْمِ الْقَرَابَةِ وَأَهْلُ مِصْرٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ فَكَانَتْ الْقُدْرَةُ عَلَى أَهْلِ النُّصْرَةِ لَهُمْ فَصَارَ نَظِيرَ مَسْأَلَةِ الْغَيْبَةِ الْمُنْقَطِعَةِ فِي الْإِنْكَاحِ، وَلَوْ كَانَ الْبَدَوِيُّ نَازِلًا فِي الْمِصْرِ لَا مَسْكَنَ لَهُ فِيهِ لَا يَعْقِلُهُ أَهْلُ الْمِصْرِ النَّازِلِ فِيهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَسْتَنْصِرُ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ لِأَهْلِ الذَّمَّةِ عَوَاقِلُ مَعْرُوفَةٌ يَتَعَاقَلُونَ بِهَا فَقَتَلَ أَحَدُهُمْ قَتِيلًا فَدِيَتُهُ عَلَى عَاقِلَتِهِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ لِأَنَّهُمْ الْتَزَمُوا أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ فِي الْمُعَامَلَاتِ سِيَّمَا فِي الْمَعَانِي الْعَاصِمَةِ عَنْ الْإِضْرَارِ، وَمَعْنَى التَّنَاصُرِ مَوْجُودٌ فِي حَقِّهِمْ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ عَاقِلَةٌ
مَعْرُوفَةٌ فَدِيَتُهُ فِي مَالِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَيْهِ كَمَا فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ الْوُجُوبَ عَلَى الْقَاتِلِ، وَإِنَّمَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُ إلَى الْعَاقِلَةِ إذَا وُجِدَتْ فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ بَقِيَ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ مُسْلِمَيْنِ تَاجِرَيْنِ فِي دَارِ الْحَرْبِ قَتَلَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ فَيُقْضَى بِالدِّيَةِ فِي مَالِهِ لِأَنَّ أَهْلَ دَارِ الْإِسْلَامِ لَا يَعْقِلُونَ عَنْهُ لِأَنَّ تَمَكُّنَهُ مِنْ الْقَتْلِ لَيْسَ بِنُصْرَتِهِمْ وَلَا يَعْقِلُ عَاقِلٌ كَافِرٌ عَنْ مُسْلِمٍ، وَلَا مُسْلِمٌ عَنْ كَافِرٍ لِعَدَمِ التَّنَاصُرِ وَالْكُفَّارُ يَتَعَاقَلُونَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَإِنْ اخْتَلَفَتْ مِلَلُهُمْ لِأَنَّ الْكُفْرَ كُلَّهُ مِلَّةٌ وَاحِدَةٌ.
قَالُوا هَذَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْمُعَادَاتُ بَيْنَهُمْ ظَاهِرَةً أَمَّا إذَا كَانَتْ ظَاهِرَةً كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى يَنْبَغِي أَنْ لَا يَعْقِلَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِانْقِطَاعِ التَّنَاصُرِ بَيْنَهُمْ، وَلَوْ كَانَ الْعَاقِلُ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، وَلَهُ بِهَا عَطَاءٌ، وَحُمُولُ دِيوَانِهِ إلَى الْبَصْرَةِ ثُمَّ إذَا رُفِعَ إلَى الْقَاضِي فَإِنَّهُ يَقْضِي بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ، وَقَالَ زُفَرُ يَقْضِي عَلَى عَاقِلَتِهِ مِنْ الْكُوفَةِ، وَهُمْ أَهْلُ الْكُوفَةِ فَصَارَ كَمَا لَوْ حَوَّلَ بَعْدَ الْقَضَاءِ، وَلَنَا أَنَّ الدِّيَةَ إنَّمَا تَجِبُ بِالْقَضَاءِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْوَاجِبَ هُوَ الْمِثْلُ، وَبِالْقَضَاءِ يُنْقَلُ إلَى الْمَالِ بِخِلَافِ مَا إذَا حَوَّلَ بَعْدَ الْقَضَاءِ لِأَنَّ الْوُجُوبَ قَدْ تَقَرَّرَ بِالْقَضَاءِ فَلَا يَنْتَقِلُ بَعْدَ ذَلِكَ لِأَنَّ حِصَّةَ الْقَاتِلِ تُؤْخَذُ مِنْ عَطَائِهِ بِالْبَصْرَةِ لِأَنَّهَا تُؤْخَذُ مِنْ الْعَطَاءِ، وَعَطَاؤُهُ بِالْبَصْرَةِ بِخِلَافِ مَا إذَا نُقِلَتْ الْعَاقِلَةُ بَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَيْهِمْ حَيْثُ يُضَمُّ إلَيْهِمْ أَقْرَبُ الْقَبَائِلِ فِي النَّسَبِ لِأَنَّ فِي النَّقْلِ إبْطَالَ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ فَلَا يَجُوزُ بِحَالٍ، وَفِي الضَّمِّ تَكْثِيرُ الْمُتَحَمِّلِينَ فِيمَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ فَكَانَ فِيهِ تَقْرِيرُ الْحُكْمِ الْأَوَّلِ لَا إبْطَالُهُ، وَعَلَى هَذَا لَوْ كَانَ الْقَاتِلُ مَسْكَنُهُ بِالْكُوفَةِ، وَلَيْسَ لَهُ عَطَاءٌ بِهَا فَلَمْ يُقْضَ عَلَيْهِمْ حَتَّى اسْتَوْطَنَ الْبَصْرَةَ قُضِيَ عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِالدِّيَةِ، وَلَوْ كَانَ قُضِيَ بِهَا عَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ فَلَمْ يَنْتَقِلْ إلَيْهِمْ، وَكَذَا الْبَدَوِيُّ إذَا لَحِقَ بِالدِّيوَانِ بَعْدَ الْقَتْلِ قَبْلَ قَضَاءِ الْقَاضِي يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى أَهْلِ الدِّيوَانِ، وَبَعْدَ الْقَضَاءِ عَلَى عَاقِلَتِهِ.
فَالدِّيَةُ لَا تَتَحَوَّلُ عَنْهُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْبَادِيَةِ فَقُضِيَ عَلَيْهِمْ بِالدِّيَةِ فِي أَمْوَالِهِمْ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ ثُمَّ جَعَلَهُمْ الْإِمَامُ فِي الْعَطَاءِ حَيْثُ تَصِيرُ الدِّيَةُ فِي عَطَايَاهُمْ، وَلَوْ كَانَ قَضَى بِهَا فِي أَوَّلِ مَرَّةٍ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ نَقْضُ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ قَضَى بِهَا فِي أَمْوَالِهِمْ، وَأَعْطَاهُمْ أَمْوَالَهُمْ غَيْرَ أَنَّ الدِّيَةَ تُقْضَى مِنْ أَيْسَرِ الْأَمْوَالِ إذْ الْأَدَاءُ مِنْ الْعَطَاءِ أَيْسَرُ إذَا صَارُوا مِنْ أَهْلِ الْعَطَاءِ إلَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَالُ الْعَطَاءِ مِنْ جِنْسِ مَا قُضِيَ بِهِ عَلَيْهِمْ بِأَنْ كَانَ الْقَضَاءُ بِالْإِبِلِ، وَالْعَطَاءُ دَرَاهِمُ فَحِينَئِذٍ لَا يَتَحَوَّلُ إلَى الدَّرَاهِمِ لِمَا فِيهِ مِنْ إبْطَالِ الْقَضَاءِ الْأَوَّلِ لَكِنْ تُقْضَى الْإِبِلُ مِنْ مَالِ الْعَطَايَا بِأَنْ يَشْتَرِيَ بِهِ لِأَنَّهُ أَيْسَرُ، قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحِمَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى إنَّ الْقَاتِلَ إذَا لَمْ يَكُنْ لَهُ عَاقِلَةٌ وَالدِّيَةُ فِي بَيْتِ الْمَالِ إذَا كَانَ الْقَاتِلُ مُسْلِمًا لِأَنَّ جَمَاعَةَ الْمُسْلِمِينَ هُمْ أَهْلُ نُصْرَتِهِ، وَلَيْسَ بَعْضُهُمْ أَخَصَّ مِنْ الْبَعْضِ بِذَلِكَ، وَلِهَذَا إذَا مَاتَ فَمِيرَاثُهُ لِبَيْتِ الْمَالِ فَكَذَا مَا يَلْزَمُهُ مِنْ الْغَرَامَةِ يَلْزَمُ بَيْتَ الْمَالِ، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ رِوَايَةٌ شَاذَّةٌ أَنَّهَا تَجِبُ الدِّيَةُ فِي مَالِهِ وَابْنُ الْمُلَاعَنَةِ تَعْقِلُ عَنْهُ عَاقِلَةُ أُمِّهِ لِأَنَّ نَسَبَهُ ثَابِتٌ مِنْهَا دُونَ الْأَبِ فَإِذَا عَقَلَتْ عَنْهُ ثُمَّ ادَّعَاهُ الْأَبُ رَجَعَتْ عَاقِلَةُ الْأُمِّ بِمَا أَدَّتْ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ قُضِيَ لَهُمْ بِالرُّجُوعِ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ تَبَيَّنَ أَنَّ الدِّيَةَ كَانَتْ وَجَبَتْ عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُ بِالدَّعْوَى ظَهَرَ أَنَّ النَّسَبَ كَانَ ثَابِتًا مِنْهُ مِنْ الْأَصْلِ فَقَوْمُ الْأُمِّ يَحْمِلُونَ مَا كَانَ وَاجِبًا عَلَى قَوْمِ الْأَبِ فَيَرْجِعُونَ بِهَا عَلَيْهِمْ لِأَنَّهُمْ مُضْطَرُّونَ فِي ذَلِكَ.
وَكَذَا إذَا مَاتَ الْمُكَاتَبُ عَنْ وَفَاءٍ، وَلَهُ وَلَدٌ مُسْلِمٌ حُرٌّ فَلَمْ يُؤَدِّ كِتَابَتَهُ حَتَّى جَنَى ابْنُهُ، وَعَقَلَ عَنْهُ قَوْمُ أُمِّهِ ثُمَّ أُدِّيَتْ الْكِتَابَةُ تَرْجِعُ عَاقِلَةُ الْأُمِّ عَلَى عَاقِلَةِ الْأَبِ لِأَنَّهُ إذَا أَدَّى الْكِتَابَةَ يَتَحَوَّلُ وَلَاؤُهُ إلَى قَوْمِ أَبِيهِ مِنْ وَقْتِ تَثْبُتُ الْحُرِّيَّةُ لِلْأَبِ، وَهُوَ آخِرُ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ حَيَاتِهِ فَتَبَيَّنَ أَنَّ قَوْمَ الْأُمِّ عَقَلُوا عَنْهُمْ فَيَرْجِعُونَ عَلَيْهِمْ، وَكَذَا رَجُلٌ أَمَرَ صَبِيًّا بِقَتْلِ رَجُلٍ فَقَتَلَهُ فَضَمِنَتْ عَاقِلَةُ الصَّبِيِّ الدِّيَةَ رَجَعَتْ بِهَا عَلَى عَاقِلَةِ الْآمِرِ إنْ كَانَ الْأَمْرُ ثَبَتَ بِالْبَيِّنَةِ، وَفِي مَالِ الْآمِرِ إنْ كَانَ ثَبَتَ بِإِقْرَارِهِ فِي ثَلَاثِ سِنِينَ مِنْ يَوْمِ يُقْضَى بِهَا عَلَى الْآمِرِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ لِأَنَّ الدِّيَةَ تَجِبُ مُؤَجَّلَةً بِطَرِيقِ التَّيْسِيرِ عَلَيْهِمْ فَكَذَا الرُّجُوعُ بِهَا تَحْقِيقًا لِلْمُمَاثَلَةِ ثُمَّ مَسَائِلُ الْعَاقِلَةِ مِنْ هَذَا الْجِنْسِ كَثِيرَةٌ، وَأَجْوِبَتُهَا مُخْتَلِفَةٌ، وَالضَّابِطُ الَّذِي يَرُدُّ كُلَّ جِنْسٍ إلَى أَصْلِهِ أَنْ يُقَالَ إنَّ حَالَ الْقَاتِلِ إنْ تَبَدَّلَ حُكْمًا بِسَبَبِ حَادِثٍ فَانْتَقَلَ وَلَاءٌ إلَى وَلَاءٍ لَمْ تَنْتَقِلْ جِنَايَتُهُ عَنْ الْأَوَّلِ قُضِيَ بِهَا أَوْ لَمْ يُقْضَ، وَذَلِكَ كَالْوَلَدِ الْمَوْلُودِ بَيْنَ حُرَّةٍ وَعَبْدٍ إذَا جَنَى ثُمَّ أُعْتِقَ الْعَبْدُ لَا يُجَرُّ وَلَاءُ الْوَلَدِ إلَى قَوْمِهِ وَلَا تَتَحَوَّلُ الْجِنَايَةُ عَنْ عَاقِلَةِ الْأُمِّ قُضِيَ بِهَا أَوْ لَمْ يُقْضَ، وَكَذَا لَوْ حَفَرَ هَذَا الْغُلَامُ بِئْرًا ثُمَّ أُعْتِقَ أَبُوهُ ثُمَّ وَقَعَ فِيهَا إنْسَانٌ يُقْضَى بِالدِّيَةِ عَلَى عَاقِلَةِ الْأُمِّ لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالَةِ الْحَفْرِ، وَمِنْ نَظِيرِهِ حَرْبِيٌّ أَسْلَمَ، وَوَالَى رَجُلًا فَجَنَى ثُمَّ أُعْتِقَ أَبُوهُ جُرَّ وَلَاؤُهُ لِأَنَّ وَلَاءَ الْعَتَاقَةِ أَقْوَى.
وَجِنَايَتُهُ عَلَى عَاقِلَةِ مَنْ وَالَاهُ لِأَنَّ