الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فَوَارِثُهُ مُخَيَّرٌ فِي دَفْنِهِ فِيهَا، وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يَتَّخِذَ دَارِهِ خَانًا يَنْزِلُ فِيهِ النَّاسُ لَا يَصِحُّ وَعَلَيْهِ الِاعْتِمَادُ بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْصَى بِأَنْ تُتَّخَذَ سِقَايَةَ رَجُلٍ مَاتَ وَلَمْ يُوصِ إلَى أَحَدٍ فَبَاعَتْ امْرَأَتُهُ دَارًا مِنْ تَرِكَتِهِ لَكِنْ بِغَيْرِ إذْنِ سَائِرِ الْوَرَثَةِ فَالْبَيْعُ فِي نَصِيبِهَا جَائِزٌ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى الْمَيِّتِ دَيْنٌ مُحِيطٌ بَعْدَ ذَلِكَ يَنْظُرُ إنْ كَفَّنْته بِكَفَنٍ مِثْلِهِ تَرْجِعُ فِي مَالِ الْمَيِّتِ وَإِنْ كَفَّنْته بِأَكْثَرَ مِنْ كَفَنِ الْمِثْلِ لَا تَرْجِعُ إلَّا بِقَدْرِ كَفَنِ الْمِثْلِ رَجُلٌ أَوْصَى بِأَنْ يُكَفَّنَ لَهُ مِنْ ثَمَنٍ كَذَا فَلَمْ يَفْعَلْ الْوَصِيُّ مِنْ ثَمَنِ كَذَا وَكَأَنْ وَجَدَ الْمُشْتَرِي أَوْ لَمْ يَجِدْ لَا يَضْمَنُ الْوَصِيُّ ذَلِكَ الشَّيْءَ، وَلَوْ اشْتَرَى الْوَصِيُّ كَفَنًا فَدُفِنَ فِيهِ الْمَيِّتُ فَظَهَرَ فِيهِ عَيْبٌ فَهُوَ وَالْوَصِيُّ يَرْجِعَانِ عَلَى الْبَائِعِ بِالنُّقْصَانِ.
وَالْأَجْنَبِيُّ لَا يَرْجِعُ وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يُدْفَنَ فِي مَسْحٍ كَأَنْ اشْتَرَى وَتُغَلُّ يَدُهُ وَتُقَيَّدُ رِجْلُهُ فَهَذِهِ وَصِيَّةٌ بِمَا لَيْسَ بِمَشْرُوعٍ فَبَطَلَتْ وَيُكَفَّنُ كَفَنَ مِثْلِهِ وَيُدْفَنُ كَمَا يُدْفَنُ سَائِرُ النَّاسِ إذَا دُفِنَ الْمَيِّتُ فِي قَبْرٍ فِيهِ مَيِّتٌ آخَرُ قَالَ إذَا بَلِيَ الْأَوَّلُ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مِنْهُ شَيْءٌ مِنْ الْعِظَامِ وَغَيْرُهُ يَجُوزُ وَإِنْ بَقِيَ فِيهِ الْعِظَامُ فَإِنَّهُ يُهَالُ عَلَيْهِ التُّرَابُ وَلَا تُحَرَّكُ الْعِظَامُ وَيُدْفَنُ الثَّانِي بِقُرْبِ الْأَوَّلِ إنْ شَاءُوا وَيُجْعَلُ بَيْنَهُمَا حَاجِزٌ مِنْ الصَّعِيدِ وَلَوْ أَوْصَى بِأَنْ يُحْمَلَ بَعْدَ مَوْتِهِ إلَى مَوْضِعِ كَذَا وَيُدْفَنُ هُنَاكَ وَيُبْنَى هُنَاكَ رِبَاطٌ مِنْ ثُلُثِ مَالِهِ فَمَاتَ وَلَمْ يُحْمَلْ إلَى هُنَاكَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ وَصِيَّتُهُ بِالرِّبَاطِ جَائِزَةٌ، وَوَصِيَّتُهُ بِالْحَمْلِ بَاطِلَةٌ وَلَوْ حَمَلَهُ الْوَصِيُّ يَضْمَنُ مَا أَنْفَقَ فِي حَمْلِهِ قَالَ الْفَقِيهُ: هَذَا إذَا حُمِلَ بِغَيْرِ إذْنِ الْوَرَثَةِ وَلَوْ حُمِلَ بِإِذْنِهِمْ وَهُمْ كِبَارٌ فَلَا ضَمَانَ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُطَيَّنَ قَبْرُهُ وَيُوضَعَ عَلَى قَبْرِهِ قُبَّةٌ فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِي مَوْضِعٍ يَحْتَاجُ إلَى التَّطْيِينِ فَيَجُوزُ سُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَمَّنْ دَفَعَ إلَى ابْنَتِهِ خَمْسِينَ دِرْهَمًا فِي مَرَضِهِ، وَقَالَ: إنْ مِتّ أَنَا فَاعْمُرِي قَبْرًا بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَاشْتَرِي بِالْبَاقِي حِنْطَةً وَتَصَدَّقِي بِهَا قَالَ الْخَمْسَةُ الْوَصِيَّةُ بِهَا لَا تَجُوزُ وَيُنْظَرُ إلَى الْقَبْرِ الَّذِي أَمَرَ بِعِمَارَتِهِ فَإِنْ كَانَ يَحْتَاجُ إلَى الْعِمَارَةِ لِلتَّخْصِيصِ لَا لِلزِّنْيَةِ عُمِّرَ بِقَدْرِ ذَلِكَ، وَالْبَاقِي يَصَّدَّقُ عَلَى الْفُقَرَاءِ وَإِنْ كَانَ أَمَرَ بِعِمَارَتِهِ عَلَى الْحَاجَةِ الَّتِي لَا بُدَّ مِنْهَا فَوَصِيَّتُهُ جَائِزَةٌ وَإِذَا أَوْصَى أَنْ يَدْفَعَ إلَى إنْسَانِ كَذَا مِنْ مَالِهِ لِيَقْرَأَ الْقُرْآنَ عَلَى قَبْرِهِ فَهَذِهِ الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ.
قَالَ إنْ كَانَ الْقَارِئُ مُعَيَّنًا يَنْبَغِي أَنْ تَجُوزَ الْوَصِيَّةُ لَهُ عَلَى وَجْهِ الصِّلَةِ دُونَ الْأَجْرِ قَالَ أَبُو نَصْرٍ وَكَانَ يَقُولُ لَا مَعْنَى لِهَذِهِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّ هَذَا بِمَنْزِلَةِ الْأُجْرَةِ، وَالْإِجَارَةُ فِي ذَلِكَ بَاطِلَةٌ وَهُوَ بِدْعَةٌ وَلَمْ يَفْعَلْهَا أَحَدٌ مِنْ الْخُلَفَاءِ.
وَقَدْ ذَكَرَ مَسْأَلَةَ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ عَلَى الْقُبُورِ فِي الِاسْتِحْسَانِ سُئِلَ أَبُو النَّصْرِ عَنْ شَيْءٍ يُلْقَى فِي الْقَبْرِ بِجَنْبِ الْمَيِّتِ مِثْلَ الْمَضْرَبَةِ وَنَحْوِهَا قَالَ لَا بَأْسَ بِهِ وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الزِّيَادَةِ فِي الْكَفَنِ، وَفِي الْخَانِيَّةِ وَبَعْضُهُمْ أَنْكَرَ ذَلِكَ، وَقَالَ إذَا كَانَ مَحْشُوًّا لَا تَبْقَى تَحْتَهُ، وَالْمَحْشُوُّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ فَقَدْ ذَكَرَ مُحَمَّدٌ فِي حَقِّ الشَّهِيدِ يُنْزَعُ عَنْهُ السِّلَاحُ، وَالْفَرْوُ، وَالْحَشْوُ وَلَوْ كَانَ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ لَمَا أَمَرَ بِنَزْعِهِ وَسُئِلَ أَبُو الْقَاسِمِ عَمَّنْ أَوْصَى أَنْ نَحْفِرَ عَشَرَةَ أَقْبُرٍ قَالَ إنْ عَيَّنَ مَقْبَرَةً لِيُدْفَنَ فِيهَا الْمَوْتَى فَالْوَصِيَّةُ جَائِزَةٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ عِمَارَةُ الْمَقْبَرَةِ وَأَنَّهَا قُرْبَةٌ وَإِنْ كَانَ الْحَفْرُ لِدَفْنِ أَبْنَاءِ السَّبِيلِ وَلِلْفُقَرَاءِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُبَيِّنَ مَوْضِعًا فَالْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ، وَفِي الْوَاقِعَاتِ عَنْ مُحَمَّدٍ إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَحْفِرَ مِائَةَ قَبْرٍ اسْتَحْسَنَ ذَلِكَ فِي مَحَلَّتِهِ وَيَكُونُ عَلَى الْكَبِيرِ، وَالصَّغِيرِ وَبَعْضُ مَشَايِخِنَا اخْتَارُوا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُعَيِّنْ الْمَقْبَرَةَ لَا يَجُوزُ وَإِذَا أَوْصَى أَنْ تُدْفَنَ كُتُبُهُ لَمْ يَجُزْ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهَا شَيْءٌ لَا يَفْهَمُهُ أَحَدٌ وَيَكُونُ فِيهِ فَسَادٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُدْفَنَ، وَالْكُتُبُ الَّتِي فِيهَا الرُّسُلُ، وَفِيهَا اسْمُ اللَّهِ وَيَسْتَغْنِي عَنْهَا صَاحِبُهَا بِحَيْثُ أَنْ لَا يَقْرَأَهَا وَاجِبٌ مَحْوُ مَا فِيهَا مِنْ اسْمِ اللَّهِ وَلَمْ يَحْفِرْ لَهَا وَيُلْقِيهَا فِي الْمَاءِ الْجَارِي الْكَثِيرِ فَلَا بَأْسَ بِهِ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَدَفَنَهَا فِي أَرْضٍ طَاهِرَةٍ وَلَا يَنَالُهَا قَذَرٌ كَانَ حَسَنًا.
وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَحْرِقَهَا بِالنَّارِ حَتَّى يَمْحُوَ مَا كَانَ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ تَعَالَى وَأَسْمَاءِ رُسُلِهِ وَمَلَائِكَتِهِ، وَفِي الْخَانِيَّةِ: وَعَنْ بَعْضِ أَهْلِ الْفَضْلِ رَجُلٌ أَوْصَى بِأَنْ تُبَاعَ كُتُبُهُ مَا كَانَ خَارِجًا مِنْ الْعِلْمِ وَتُوقَفُ كُتُبُ الْعِلْمِ فَفَتَّشَ كُتُبَهُ فَكَانَ فِيهَا كُتُبُ الْكَلَامِ فَكَتَبُوا إلَى أَبِي الْقَاسِمِ الصَّفَّارِ أَنَّ كُتُبَ الْكَلَامِ تُبَاعُ؛ لِأَنَّهَا خَارِجَةٌ عَنْ الْعِلْمِ، وَفِي الظَّهِيرِيَّةِ فَعَلَى هَذَا لَوْ أَوْصَى رَجُلٌ لِأَهْلِ الْعِلْمِ بِشَيْءٍ مِنْ مَالِهِ لَا يَدْخُلُ فِيهِ أَهْلُ الْأُصُولِ وَقَدْ ذَكَرْنَا شَيْئًا مِنْ هَذِهِ الْمَسَائِلِ مَعَ مَسْأَلَةِ دَفْعِ الْمُصْحَفِ فِي كِتَابِ الِاسْتِحْسَانِ.
[بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ]
(بَابُ وَصِيَّةِ الذِّمِّيِّ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ وَصِيَّةِ الْمُسْلِمِينَ شَرَعَ فِي وَصِيَّةِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَتَرْجَمَ بِالذِّمِّيِّ؛ لِأَنَّهُ مُلْحَقٌ بِالْمُسْلِمِينَ فِي الْمُعَامَلَاتِ قَالَ رحمه الله (ذِمِّيٌّ جَعَلَ دَارِهِ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً فِي صِحَّتِهِ فَمَاتَ فَهِيَ مِيرَاثٌ) ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَقْفِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَالْوَقْفُ عِنْدَهُ
لَا يَلْزَمُ فَيُورَثُ فَكَذَا هَذَا وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَلَا لِأَنَّ هَذَا مَعْصِيَةٌ فَلَا يَصِحُّ وَإِنْ كَانَتْ قُرْبَةً فِي مُعْتَقَدِهِمْ بَقِيَ إشْكَالٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ أَنَّ هَذَا عِنْدَهُمْ كَالْمَسْجِدِ عِنْدَنَا، وَالْمُسْلِمُ لَيْسَ لَهُ أَنْ يَبِيعَ الْمَسْجِدَ فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الذِّمِّيُّ كَذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ عِنْدَهُ يَتْرُكُونَ وَمَا يَعْتَقِدُونَ وَجَوَابُهُ أَنَّ الْمَسْجِدَ مُحَرَّزٌ عَنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَصَارَ خَالِصًا لِلَّهِ وَلَا كَذَلِكَ الْبِيَعُ فِي حَقِّهِمْ فَلِأَنَّهَا لِمَنَافِعِ النَّاسِ؛ لِأَنَّهُمْ يَسْكُنُونَ فِيهَا وَيُدْفَنُونَ فِيهَا أَمْوَاتَهُمْ فَلَمْ تَصِرْ مُحَرَّزَةً عَنْ حُقُوقِهِمْ فَكَانَ مِلْكُهُ فِيهَا تَامًّا.
وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ يُورَثُ الْمَسْجِدُ أَيْضًا عَلَى مَا يَجِيءُ بَيَانُهُ.
قَالَ رحمه الله (وَإِنْ أَوْصَى بِذَلِكَ لِقَوْمٍ مُسَمَّيْنَ فَهُوَ مِنْ الثُّلُثِ) أَيْ إذَا أَوْصَى أَنْ يَبْنِيَ دَارِهِ بِيعَةً أَوْ كَنِيسَةً لِمُعَيَّنِينَ فَهُوَ جَائِزٌ مِنْ الثُّلُثِ؛ لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ فِيهَا مَعْنَى الِاسْتِخْلَافِ وَمَعْنَى التَّمْلِيكِ فَأَمْكَنَ تَصْحِيحُهَا عَلَى اعْتِبَارِ الْمَعْنَيَيْنِ قَالَ رحمه الله (وَبِدَارِهِ كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ صَحَّتْ كَوَصِيَّةِ حَرْبِيٍّ مُسْتَأْمَنٍ بِكُلِّ مَالِهِ لِمُسْلِمٍ أَوْ ذِمِّيٍّ) يَعْنِي إذَا أَوْصَى بِدَارِهِ أَنْ تُبْنَى كَنِيسَةً لِقَوْمٍ غَيْرِ مُسَمَّيْنَ صَحَّتْ كَمَا تَصِحُّ لِحَرْبِيٍّ. . . إلَخْ أَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى إلَى قَوْمٍ مُسَمَّيْنَ فَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَعِنْدَهُمَا الْوَصِيَّةُ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّهَا مَعْصِيَةٌ حَقِيقَةً وَإِنْ كَانَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ قُرْبَةٌ، وَالْوَصِيَّةُ بِالْمَعْصِيَةِ بَاطِلَةٌ؛ لِأَنَّ تَنْفِيذَهَا تَقْرِيرٌ لِلْمَعْصِيَةِ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ هَذِهِ قُرْبَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ وَنَحْنُ أُمِرْنَا أَنْ نَتْرُكَهُمْ وَمَا يَدِينُونَ فَيَجُوزُ بِنَاءً عَلَى مُعْتَقَدِهِمْ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ حَقِيقَةً وَهُوَ مَعْصِيَةٌ فِي مُعْتَقَدِهِمْ لَا تَجُوزُ الْوَصِيَّةُ اعْتِبَارًا لِاعْتِقَادِهِمْ فَكَذَا عَكْسُهُ.
ثُمَّ الْفَرْقُ لِأَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ بِنَائِهَا وَبَيْنَ الْوَصِيَّةِ بِهَا أَنَّ الْبِنَاءَ لَيْسَ بِسَبَبٍ لِزَوَالِ الْمِلْكِ وَإِنَّمَا يَزُولُ مِلْكُ الْبَاقِي بِأَنْ يَصِيرَ مُحَرَّزًا خَالِصًا لِلَّهِ تَعَالَى كَمَا فِي مَسَاجِدِ الْمُسْلِمِينَ، وَالْكَنِيسَةُ لَا تُحْرَزُ لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فَيُورَثُ عَنْهُ بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا وُضِعَتْ لِإِزَالَةِ الْمِلْكِ غَيْرَ أَنَّ ثُبُوتَ مُقْتَضَى الْوَصِيَّةِ وَهُوَ الْمِلْكُ امْتَنَعَ فِيمَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَهُمْ فَيَبْقَى فِيمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ عَلَى مُقْتَضَاهُ فَيَزُولُ مِلْكُهُ فَلَا يُورَثُ قَالَ مَشَايِخُنَا: هَذَا فِيمَا أَوْصَى بِبِنَائِهَا فِي الْقُرَى وَأَمَّا فِي الْمِصْرِ فَلَا يَجُوزُ بِالِاتِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُمَكَّنُونَ مِنْ إحْدَاثِ الْبِيعَةِ فِي الْأَمْصَارِ وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ.
إذَا أَوْصَى بِأَنْ يَذْبَحَ خَنَازِيرَهُ وَيُطْعِمَ الْمُشْرِكِينَ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لِمَا ذَكَرْنَا وَإِنْ كَانَ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ جَازَ بِالِاتِّفَاقِ فَحَاصِلُهُ أَنَّ وَصَايَا الذِّمِّيِّ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَعِنْدَهُمْ كَمَا إذَا أَوْصَى بِأَنْ يُسْرِجَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ أَوْ بِأَنْ يُغْزِيَ التَّرْكَ وَهُوَ مِنْ الرُّومِ سَوَاءٌ كَانَ الْقَوْمُ مُعَيَّنِينَ أَوْ غَيْرَ مُعَيَّنِينَ؛ لِأَنَّهُ وَصِيَّةٌ بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا، وَفِي مُعْتَقَدِهِمْ أَيْضًا قُرْبَةٌ وَمِنْهَا مَا هُوَ بَاطِلٌ بِالِاتِّفَاقِ وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَنَا وَلَا عِنْدَهُمْ كَمَا إذَا أَوْصَى لِلْمُغَنِّيَاتِ، وَالنَّائِحَاتِ أَوْ أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَنَا وَلَيْسَ فِي مُعْتَقَدِهِمْ كَمَا إذَا أَوْصَى بِالْحَجِّ وَبِبِنَاءِ الْمَسَاجِدِ لِلْمُسْلِمِينَ أَوْ بِأَنْ تُسْرَجَ مَسَاجِدُنَا؛ لِأَنَّهُ مَعْصِيَةٌ عِنْدَهُمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ لِقَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ فَيَصِحُّ بِاعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ وَهُوَ مَا إذَا أَوْصَى بِمَا هُوَ قُرْبَةٌ عِنْدَهُمْ.
وَلَيْسَ بِقُرْبَةٍ عِنْدَنَا كَبِنَاءِ الْكَنِيسَةِ لِقَوْمٍ غَيْرِ مُعَيَّنِينَ وَنَحْوِهِ، فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا لَا يَجُوزُ فَإِنْ كَانَ لِقَوْمٍ مُعَيَّنِينَ يَجُوزُ فِي الْكُلِّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لَهُمْ وَمَا ذَكَرَهُ مِنْ الْجِهَةِ مِنْ تَسْرِيجِ الْمَسَاجِدِ وَنَحْوِهِ خَرَجَ مِنْهُ عَلَى طَرِيقِ الْمَشُورَةِ لَا عَلَى طَرِيقِ الْإِلْزَامِ حَتَّى لَا يَلْزَمَهُمْ أَنْ يَصْرِفُوهُ فِي الْجِهَةِ الَّتِي عَيَّنَهَا هُوَ بَلْ يَفْعَلُونَ بِهِ مَا شَاءُوا وَلِأَنَّهُ مِلْكُهُمْ، وَالْوَصِيَّةُ إنَّمَا صَحَّتْ بِاعْتِبَارِ التَّمْلِيكِ لَهُمْ وَصَاحِبُ الْبِدْعَةِ إذَا كَانَ لَا يَكْفُرُ فَهُوَ فِي حَقِّ الْوَصِيَّةِ بِمَنْزِلَةِ الْمُسْلِمِ؛ لِأَنَّا أُمِرْنَا بِبِنَاءِ الْأَحْكَامِ عَلَى ظَاهِرِ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانَ يَكْفُرُ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُرْتَدِّ فَيَكُونُ عَلَى الْخِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي تَصَرُّفَاتِهِ قَالَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ: فِي الْمُرْتَدَّةِ الْأَصَحُّ أَنَّهُ تَصِحُّ وَصَايَاهَا؛ لِأَنَّهَا تَبْقَى عَلَى الرِّدَّةِ بِخِلَافِ الْمُرْتَدِّ؛ لِأَنَّهُ يُقْتَلُ أَوْ يُسْلِمُ فَجَعَلَهَا كَالذِّمِّيَّةِ، وَقَالَ السِّغْنَاقِيُّ فِي النِّهَايَةِ: ذَكَرَ صَاحِبُ الْكِتَابِ فِي الزِّيَادَاتِ الْخِلَافَ عَلَى هَذَا، وَقَالَ بَعْضُهُمْ لَا تَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الذِّمِّيَّةِ وَهُوَ الصَّحِيحُ حَتَّى لَا تَصِحَّ مِنْهَا وَصِيَّةٌ، وَالْفَرْقُ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الذِّمِّيَّةِ أَنَّ الذِّمِّيَّةَ تُقِرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا، وَأَمَّا الْمُرْتَدَّةُ فَلَا تُقِرُّ عَلَى اعْتِقَادِهَا. اهـ.
وَقَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: بَعْدَ أَنْ نَقَلَ هَذَا مِنْ النِّهَايَةِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ بَيْنَ كَلَامَيْهِ؛ لِأَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ الصَّحِيحُ وَهَاهُنَا الْأَصَحُّ وَهُمَا يَصْدُقَانِ اهـ.
أَقُولُ: هَذَا لَيْسَ بِشَيْءٍ إذْ لَا شَكَّ أَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ فِي الْخِلَافِيَّاتِ هُوَ الصَّحِيحُ تَرْجِيحُ هَذَا الْقَوْلِ عَلَى الْقَوْلِ الْآخَرِ لَا بَيَانُ مُجَرَّدِ صِحَّتِهِ مَعَ رُجْحَانِ الْآخَرِ كَمَا أَنَّ مُرَادَ مَنْ قَالَ هُوَ الْأَصَحُّ تَرْجِيحُهُ عَلَى الْآخَرِ بَلْ قَوْلُهُ هُوَ الصَّحِيحُ أَدَلُّ عَلَى التَّرْجِيحِ مِنْ قَوْلِهِ هُوَ الْأَصَحُّ وَلَا رَيْبَ أَنَّ تَرْجِيحَ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ يُنَافِي